Está en la página 1de 260

‫الفقه المنهجي‬

‫على مذهب المام الشافعي‬


‫رحمه الله تعالى‬
‫الجزء الثامن‬
‫الجنايات والحدود وتوابعها ‪ ،‬الجهاد وتوابعه ‪ ،‬الفتوة وأحكامها‬
‫أنواع اللهو ‪ ،‬القضاء ‪ ،‬الدعاوى والبينات والشهادات واليمين‬
‫والقسمة ‪ ،‬والقرار ‪ ،‬والحجر ‪ ،‬والمامة العظمي‬
‫تأليف‬
‫الدكتور مصطفي البغا‬ ‫الدكتور مصطفي الخن‬
‫علي الشربجي‬

‫دار القلم‬
‫دمشق‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫مقدمة‬
‫الحمد ل رب العالمين ‪ ،‬وأفضل الصلة وأتم التسليم على سيدنا محمد‬
‫المبعوث رحمة للعالمين ‪ ،‬وعلى آله وأصحابه الغر الميامين ‪ ،‬ومن تبعهم وسار‬
‫على هديهم إلي يوم الدين ‪ ،‬وبعد ‪:‬‬
‫فهذا هو الكتاب الثامن في سلسلة الفقه المنهجي على مذهب المام الشافعي‬
‫رحمه ال تعالي ‪ ،‬أودعنا فيه عددا من البواب والمباحث الفقهية ‪ :‬الجنايات‬
‫والحدود وتوابعها ‪ ،‬الجهاد وتوابعه ‪ ،‬الفتوة وأحكامها ‪ ،‬أنواع اللهو الجائز‬

‫‪1‬‬
‫والمحرم ‪ ،‬القضاء الدعاوى والبينات والشهادات واليمين ‪ ،‬والقسمة ‪ ،‬والقرار ‪،‬‬
‫والحجر ‪ ،‬وأحكام المامة العظمى ‪.‬‬
‫وقد بذلنا ما نستطيع لتجلية هذه الحكام ‪ ،‬وصياغتها بأسلوب يرى‬
‫فيه القارئ السهولة في التعبير ‪ ،‬والوضوح في الداء ‪.‬‬
‫وال تعالى نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم ‪ ،‬وأن‬
‫يجعله في عداد الصدقات الجارية والعمال المبرورة ‪ ،‬إنه كريم مجيب ‪ ،‬وهو‬
‫حسبنا ونعم الوكيل ‪ ،‬وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين ‪.‬‬

‫المؤلفون‬

‫الباب الول‬

‫الجنايات والحدود وتوابعها‬

‫‪2‬‬
‫الجنايات‬

‫تعريف الجنايات لغة واصطلحا‪:‬‬


‫الجنايات ‪ :‬جمع جناية‪ ،‬وهي في اللغة مصدر جنى يجني ‪ ،‬إذا أذنب‪،‬‬
‫وجني على نفسه ‪ :‬أساء إليها‪ ،‬وجني على قومه‪ :‬أذنب ذنبا يؤخذ به ‪.‬‬
‫وتطلق الجناية على التعدي على بدن‪ ،‬أو مال ‪ ،‬أو عرض ‪.‬‬
‫وأما الجناية في الصطلح‪ :‬فهي التعدي على البدن بما يوجب قصاصا‪ ،‬أو‬
‫مالً ‪.‬‬
‫فالجناية إذا في اصطلح الفقهاء أخص مما هي في اللغة ‪.‬‬
‫حكم الجناية شرعا ‪ ،‬ودليله‪:‬‬
‫الجناية على البدن حرام شرعا ومنهي عنها‪ ،‬فل يجوز التعدي علي‬
‫البدان‪ ،‬ول توجيه الذى إليها‪.‬‬
‫وقد انعقد إجماع المسلمين على تحريم القتل بغير حق ‪ ،‬ولم يخالف بذلك‬
‫أحد ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ودليل هذا الجماع الكتاب والسنة ‪:‬‬
‫حرّ َم اللّهُ إِلّ‬
‫أما الكتاب‪ :‬فقول ال تبارك وتعالي‪ ﴿ :‬وَلَ تَ ْق ُتلُو ْا النّفْسَ اّلتِي َ‬
‫سرِف فّي الْ َقتْلِ ِإنّهُ كَانَ‬
‫سلْطَانا فَلَ يُ ْ‬
‫ج َع ْلنَا ِل َوِليّهِ ُ‬
‫ظلُوما فَقَدْ َ‬
‫بِالحَقّ َومَن ُقتِلَ مَ ْ‬
‫َم ْنصُورا ﴾ ( السراء ‪. ) 33‬‬
‫[ لوليه‪ :‬لوارثه‪ .‬سلطانا‪ :‬تسلطا على القاتل‪ .‬فل يسرف في القتل ‪ :‬فل‬
‫يتجاوز الحد‪ ،‬فيقتل غير قاتل مورثه‪ .‬منصورا ‪ :‬معانا على أخذ حقه] ‪.‬‬
‫وقول ال عز وجل‪َ ﴿ :‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ أَن يَ ْقتُلَ ُم ْؤمِنا إِلّ خَطَئا ﴾ (النساء‪:‬‬
‫‪ )92‬أي ‪ :‬ما ينبغي أن يصدر منه قتل له ‪.‬‬
‫ج َهنّمُ‬
‫جزَآ ُؤهُ َ‬
‫وقوله ـ أيضا _ عز من قائل‪َ ﴿:‬ومَن يَ ْقتُلْ ُم ْؤمِنا ّم َت َعمّدا فَ َ‬
‫عَليْهِ َوَل َعنَهُ َوأَعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما ﴾ (النساء ‪.)93‬‬
‫ب اللّهُ َ‬
‫ض َ‬
‫خَالِدا فِيهَا وَغَ ِ‬
‫وأما الدلة من السنة فكثيرة ‪:‬‬
‫‪:‬‬ ‫منها‪ :‬ما رواه عبدال بن مسعود رضي ال عنه‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫" ل يحل دم امرئ مسلم يشهد أن ل إله إل ال وأني رسول ال إل بإحدى ثلث ‪:‬‬
‫الثيب الزاني‪ ،‬والنفس بالنفس ‪،‬والتارك لدينه المفارق للجماعة" ‪( .‬رواه البخاري [‬
‫‪ ]6484‬في الديات ‪ .‬باب ‪ :‬قول ال تعالى﴿ أن النفس بالنفس ‪ ﴾ . .‬؛ ومسلم [‬
‫‪ ]1676‬في القسامة‪ ،‬باب ‪ :‬ما يباح به دم المسلم ) ‪.‬‬
‫[ الثيب الزاني‪ :‬هو من سبق له زاج‪ ،‬ذكرا كان أم أنثى‪ .‬المفارق لدينه‪:‬‬
‫التارك له‪ ،‬وهو المرتد] ‪.‬‬
‫قال ‪:‬‬ ‫ومنها‪ :‬أيضا ما رواه أبو هريرة رضي ال عنه‪ :‬أن رسول ال‬
‫"اجتنبوا السبع الموبقات ‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬وما هن ؟ قال‪ :‬الشرك بال‪،‬‬
‫والسحر‪ ،‬وقتل النفس التي حرم ال إل بالحق‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وأكل الربا‪،‬‬
‫والتولي يوم الزحف‪ ،‬وقذف المحصنات الغافلت المؤمنات" ‪( .‬أخرجه البخاري [‬
‫‪ ]2615‬في الوصايا‪ ،‬باب‪ :‬قول ال تعالى ﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ‪.‬‬
‫‪﴾ .‬؛ ومسلم [‪ ]89‬في كتاب اليمان‪ ،‬باب ‪ :‬تحريم الكبائر وبيانه ‪ .‬ورواه أيضا‬
‫أبو داود [‪ ]2874‬في الوصايا‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم ؛‬
‫والنسائي [‪ ]6/257‬في الوصايا‪ ،‬باب‪ :‬اجتناب أكل مال اليتيم) ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫[الموبقات ‪ :‬المهلكات ‪ .‬التولي يوم الزحف‪ :‬الفرار عن القتال عند لقاء‬
‫العداء ‪ .‬قذف المحصنات‪ :‬اتهام العفيفات بالزنى] ‪.‬‬
‫هذا ول خلف بين المة في تحريم القتل بغير حق‪ ،‬وأنه من أكبر الكبائر‬
‫بعد الشرك ‪ ،‬وفاعله المستحل له كافر من غير خلف‪ ،‬ومخلد في نار جهنم‪ .‬أما‬
‫إذا قتل متعمدا‪ ،‬وهو غير مستحل لذلك‪ :‬فإنه يحكم عليه بالفسق والفجور‪ ،‬ول‬
‫يحكم عليه بالكفر‪ .‬وأمره بعدئذ إلى ال تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه‪،‬‬
‫وتوبته إذا تاب توبة نصوحا مقبولة عند ال تعالى ول يستلزم إثمه التخليد في نار‬
‫جهنم ‪.‬‬
‫ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا‬
‫ن اللّهَ لَ َيغْ ِفرُ أَن يُ ْ‬
‫ودليل ذلك‪ :‬قول ال عز وجل‪ ﴿:‬إِ ّ‬
‫ش ِركْ بِاللّهِ فَقَدِ ا ْف َترَى ِإثْما عَظِيما ﴾ ( النساء ‪.) 48‬‬
‫دُونَ َذِلكَ ِلمَن يَشَاءُ َومَن يُ ْ‬
‫سهِمْ لَا تَ ْقنَطُوا‬
‫علَى أَنفُ ِ‬
‫سرَفُوا َ‬
‫عبَا ِديَ الّذِينَ أَ ْ‬
‫وقول ال تبارك وتعالى‪ ﴿:‬قُلْ يَا ِ‬
‫جمِيعا ﴾ ( الزمر‪. ) 53 :‬‬
‫ن اللّهَ َيغْ ِفرُ ال ّذنُوبَ َ‬
‫حمَ ِة اللّهِ إِ ّ‬
‫مِن رّ ْ‬

‫ويدل على ذلك أيضا‪ :‬ما رواه أبو سعيد الخدري رضي ال عنه‪ :‬أن رسول‬
‫قال‪" :‬كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا‪ ،‬فسأل عن أعلم‬ ‫ال‬
‫أهل الرض ‪ ،‬فدل على راهب‪ ،‬فأتاه فقال ‪ :‬إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له‬
‫من توبة؟ فقال‪ :‬ل‪ ،‬فقتله فكمل به مائة‪ ،‬ثم سأل عن أعلم أهل الرض ‪ ،‬فدل على‬
‫رجل عالم‪ ،‬فقال‪ :‬إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬ومن يحول بينه‬
‫وبين التوبة؟ انطلق إلي أرض كذا وكذا‪ ،‬فإن بها أناسا يعبدون ال تعالى فاعبد ال‬
‫معهم‪ ،‬ول ترجع إلي أرضك فإنها أرض سوء‪ ،‬فانطلق حتى إذا نصف الطريق‬
‫أتاه الموت‪ ،‬فاختصمت فيه ملئكة الرحمة "‪( .‬أخرجه البخاري [‪ ]3283‬في‬
‫النبياء‪ ،‬باب ‪ :‬ما ذكر عن بني إسرائيل؛ ومسلم [‪ ]2766‬في التوبة‪ ،‬باب‪ :‬قبول‬
‫توبة القاتل)‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وإذا كانت التوبة تصح وتقبل من الكافر ‪ ،‬فقبولها من الفاسق‬
‫والعاصي أولى‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ج َهنّمُ خَالِدا فِيهَا ‪..‬‬
‫جزَآ ُؤهُ َ‬
‫وأما قوله تعالى‪َ ﴿:‬ومَن يَ ْقتُلْ ُم ْؤمِنا ّم َت َعمّدا فَ َ‬
‫﴾ (النساء‪ .)93 :‬فمحمول على من استحل القتل عمدا بغير حق‪ ،‬أو على أن هذا‬
‫جزاؤه لو لم يتب‪ ،‬أو لم يغفر ال له ‪.‬‬
‫ن اللّهَ لَ َيغْ ِفرُ أَن‬
‫وقيل ‪ :‬هذا من باب المطلق الذي قيده قوله عز وجل‪ ﴿ :‬إِ ّ‬
‫ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَن يَشَاءُ ﴾ ( النساء ‪.) 48:‬‬
‫يُ ْ‬
‫أقسام الجناية ‪:‬‬
‫قلنا فيما سبق‪ :‬إن الجناية شرعا هي التعدي علي البدن‪ ،‬وهذا التعدي‪:‬‬
‫•إما أن يكون بإزهاق الروح‪ ،‬وهو القتل ‪.‬‬
‫•وإما أن يكون واقعا على عضو من العضاء ‪ ،‬دون إزهاق روح ‪ :‬كقطع يد‪،‬‬
‫أو قلع عين ‪ ،‬أو قطع أذن أو أنف‪ ،‬أو ما شابه ذلك ‪.‬‬
‫ولكل قسم من هذين القسمين أحكام تتعلق به‪ ،‬سنبينها إن شاء ال تعالى ‪.‬‬
‫الجناية علي النفس‪:‬‬
‫ويقصد بالجناية على النفس هنا القتل وإزهاق الروح‪ ،‬وهي أنواع ثلثة‪ ،‬لكل‬
‫نوع منها حكم يبين في حينه‪.‬‬
‫أنواع القتل‪:‬‬
‫القتل ثلثة أنواع‪ :‬القتل العمد‪ ،‬القتل شبه العمد ‪ ،‬القتل الخطأ‪ .‬ولكل نوع من‬
‫هذه النواع الثلثة حقيقة وحكم يتعلق به‪.‬‬
‫‪ – 1‬القتل العمد‪:‬‬
‫وحقيقة القتل العمد‪ :‬أن يقصد قتل شخص بما يقتل غالبا ‪ .‬ومن هذا‬
‫التعريف لحقيقة القتل العمد يتبين أنه ل يسمى قتل عمد‪ ،‬إل إذا تحقق فيه أمران‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬قصد الشخص بالقتل‪ ،‬فلو كان غير قاصد لقتله‪ ،‬فإنه ل يسمي عمدا‪:‬‬
‫كمن رمي سهما يريد صيدا‪ ،‬فأصاب شخصا‪ ،‬فقتله‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬أن تكون الوسيلة في القتل مما يقتل غالبا‪ .‬فلو أنه ضربه بعصا صغيرة‪،‬‬
‫أو بحصاة صغيرة في غير مقتل‪ ،‬فمات من ذلك الضرب‪ ،‬فإنه ل يسمى ذلك القتل‬
‫قتل عمد‪ ،‬لن تلك الوسيلة ل تقتل في الغالب‪.‬‬
‫صور من القتل العمد‪:‬‬

‫‪6‬‬
‫وللقتل العمد صور كثيرة يتحقق فيها كلها المران المذكوران آنفا‪ ،‬ومن‬
‫هذه الصور ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ضربه بحد سيف فمات من ذلك الضرب‪ ،‬أو أطلق عليه رصاصا‪ ،‬فأصابه‬
‫فمات منه ‪.‬‬
‫ب – غرز إبرة في مقتل ‪ :‬كدماغ‪ ،‬وعين‪ ،‬وخاصرة‪ ،‬ومثانة وما أشبه ذلك‪ ،‬مما‬
‫يقول عنه أهل الختصاص‪ :‬إنه مقتل‪ ،‬فإذا مات بسبب شئ من ذلك كان قتله‬
‫عمدا‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬ضربه بمثقل كبير يقتل مثله غالبا‪ ،‬سواء كان من حديد‪ ،‬كمطرقة وشبهها‪،‬‬
‫أم كان من غير الحديد‪ ،‬كالحجر الكبير‪ ،‬والخشبة الكبيرة‪ .‬ويدل لهذا كله ما رواه‬
‫أنس رضي ال عنه؛ أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين‪ ،‬فسألوها‪ :‬من‬
‫صنع بك هذا؟ فلن فلن؟ حتى ذكروا يهوديا‪ ،‬فأومأت برأسها‪ ،‬فأخذ اليهودي‬
‫أن يرض رأسه بين حجرين‪ .‬وفي رواية‪ :‬فجيء بها‪،‬‬ ‫فأقر‪ ،‬فأمر رسول ال‬
‫وبها رمق‪( .‬أخرجه البخاري [‪ ]2595‬في الوصايا‪ ،‬باب‪ :‬إذا أومأ المريض برأسه‬
‫إشارة بينة جازت؛ ومسلم [‪ ]1672‬في القسامة‪ ،‬باب ‪ :‬ثبوت القصاص في القتل‬
‫بالحجر وغيره ؛ وأبو داود [‪ ]4528،4527‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬يقاد من القاتل‪،‬‬
‫وباب ‪ :‬القود بغير حديد؛ والترمذي [‪ ]1394‬في الديات‪ ،‬باب ‪ :‬فيمن رضخ رأسه‬
‫بحجر؛ والنسائي [‪ ]22/8‬في القسامة‪ ،‬باب ‪ :‬القود من الرجل للمرأة )‪.‬‬
‫[[رض رأسها‪ :‬دق رأسها‪ .‬والرض‪ :‬دق الشيء بين حجرين وما جري‬
‫مجراهما‪ .‬فأومأت برأسها‪ :‬أشارت به ]‪.‬‬
‫د ‪ -‬حرقه بالنار‪ ،‬أو هدم عليه حائطا‪ ،‬أو سقفا‪ ،‬أو وطأه بدابة أو سيارة‪ ،‬أو دفنه‬
‫حيا‪ ،‬أو عصر خصيتيه عصرا شديدا فمات‪ ،‬وكذلك أمثال هذه الحالت؛ فإن قتله‬
‫بها يكون عمدا ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬خنقه‪ :‬بأن وضع يده على فمه‪ ،‬أو وضع مخدة على فمه حتى مات من‬
‫انقطاع النفس‪.‬‬
‫فإن خله قبل أن يموت‪ ،‬فإن انتهي إلي حركة المذبوح‪ ،‬أو ضعف وبقي‬
‫متألما حتى مات‪ ،‬فذلك كله من قبيل القتل العمد‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫و ‪ -‬أوجره سما قاتلً‪ ،‬أو حسب ومنعه الطعام والشراب حتى مات‪ ،‬أو سحره‪،‬‬
‫وكان السحر مما يقتل غالبا‪ ،‬فكل هذا من القتل العمد‪.‬‬
‫ز ‪ -‬ضربه بعصا صغيرة‪ ،‬أو رماه بحجر صغير‪ ،‬إل أنه والى بين الضرب أو‬
‫الرمي حتى مات‪ ،‬أو اشتد به اللم وبقي متألما حتى مات‪ ،‬فهذا أيضا قتل عمد‪.‬‬
‫حـ ‪ -‬شهد رجلن عند القاضي على شخص بأنه قتل عمدا‪ ،‬فقتل ‪ ،‬ثم رجعا عن‬
‫الشهادة‪ ،‬وقال تعمدنا الكذب لزمهما القصاص‪ ،‬لنهما تسببا بإهلكه‪ ،‬فكان ذلك‬
‫بمنزلة القتل العمد منهما‪.‬‬
‫وهناك صور أخرى للقتل العمد مذكورة في كتب الفقه المطولة‪.‬‬
‫‪ – 2‬القتل شبه العمد‪:‬‬
‫وحقيقة القتل شبه العمد‪ :‬أن يستعمل في القتل أداة ل تقتل غالبا‪ ،‬قاصدا بها‬
‫الشخص عدوانا من غير حق‪ ،‬إل أن الشخص قد مات بذلك الفعل‪.‬‬
‫وللقتل شبه العمد صور كثيرة ‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ضربه بعصا صغيرة ضربا خفيفا‪ ،‬فأصاب منه مقتلً فمات من ذلك‬
‫الضرب‪.‬‬
‫ب – ألقاه في ماء مغرق إل أن ذلك الشخص يحسن السباحة‪ ،‬ولكنه فاجأه ريح‬
‫شديد‪ ،‬أو موج‪ ،‬فغرق ومات‪ .‬أما إذا كان ل يحسن السباحة ‪ ،‬فإنه عندئذ يكون قتل‬
‫عمد‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬أن يربطه ويلقيه إلي جانب ماء‪ ،‬قد يزيد‪ ،‬فزاد الماء‪ ،‬ومات الشخص‪ .‬أما‬
‫إذا كانت الزيادة متيقنة‪ ،‬فحصلت‪ ،‬ومات‪ ،‬كان ذلك قتل عمد‪.‬‬
‫وهناك صور كثير أمسكنا عنها خشية الطالة‪ ،‬وسوف تجدها إن شئت في‬
‫المطولت من كتب الفقه‪.‬‬
‫‪ – 3‬القتل الخطأ‪:‬‬
‫وحقيقة القتل الخطأ‪ :‬أن يقع من الشخص من غير أن يقصده‪ ،‬ول يريده؛‬
‫وذلك‪ :‬كمن زلقت رجله فوقع على إنسان فقتله‪ ،‬أو رمى صيدا‪ ،‬فأصاب إنسانا‪،‬‬
‫الخطأ‪ ،‬الذي لم توجد فيه حقيقة القتل العمد‪ ،‬ول شبه العمد‪.‬‬
‫حكم أنواع القتل الثلثة‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫قلنا‪ :‬إن لكل نوع من أنواع القتل حكما يخصه‪ ،‬بل أحكام‪ ،‬هذا ما سنتحدث‬
‫عنه في العجالة التية‪:‬‬
‫حكم النوع الول‪ ،‬وهو القتل العمد‪:‬‬
‫القتل العمد له حكمان ‪ :‬حكم دياني (أي في الخرة)‪ ،‬وحكم قضائي (أي في‬
‫الدنيا)‪.‬‬
‫أما حكمه الديني الخروي‪ :‬فهو التحريم‪ ،‬ويترتب عليه إثم عظيم يلي درجة‬
‫الكفر‪ ،‬والعياذ بال‪ ،‬والعذاب الليم في جهنم‪ ،‬إن لم يلجأ ذلك القاتل إلى التوبة‪،‬‬
‫وتتداركه عناية ال بالعفو والرحمة‪ .‬وإلى هذا تشير الية الكريمة‪َ ﴿: :‬ومَن يَ ْقتُلْ‬
‫عَليْهِ َوَل َعنَهُ َوأَعَدّ لَهُ عَذَابا‬
‫ضبَ اللّهُ َ‬
‫غ ِ‬
‫ج َهنّمُ خَالِدا فِيهَا وَ َ‬
‫جزَآ ُؤهُ َ‬
‫ُم ْؤمِنا ّم َت َعمّدا فَ َ‬
‫عَظِيما ﴾ (سورة النساء‪ .)93:‬ولقد مرت هذه الية‪ ،‬ومر القول فيها‪.‬‬
‫وأما الحكم القضائي الدنيوي‪ ،‬فهو القصاص "القود"‪ ،‬ويسمى القصاص‬
‫قودا‪ ،‬لنهم كانوا يقودون الجاني بحبل ونحوه إلى موضع قتله والقصاص منه‪.‬‬
‫ودليل هذا الحكم الذي هو القصاص قول ال عز وجل‪ ﴿ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ‬
‫حرّ وَا ْل َعبْدُ بِا ْل َعبْدِ وَالُنثَى بِالُنثَى‬
‫حرّ بِالْ ُ‬
‫عَل ْيكُمُ الْ ِقصَاصُ فِي الْ َق ْتلَى الْ ُ‬
‫آ َمنُواْ ُك ِتبَ َ‬
‫شيْءٌ فَا ّتبَاعٌ بِا ْل َم ْعرُوفِ َوأَدَاء ِإَليْهِ بِِإحْسَانٍ َذِلكَ تَخْفِيفٌ مّن‬
‫َفمَنْ عُ ِفيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫حيَاةٌ يَاْ أُوِليْ‬
‫عتَدَى َبعْدَ َذِلكَ َفلَهُ عَذَابٌ َألِيمٌ‪َ .‬وَلكُمْ فِي الْ ِقصَاصِ َ‬
‫حمَةٌ َفمَنِ ا ْ‬
‫ّر ّبكُمْ َورَ ْ‬
‫ل ْلبَابِ َل َعّلكُمْ َتتّقُونَ ﴾ (سورة البقرة‪. )179- 178 :‬‬
‫اَ‬
‫[ كتب‪ :‬فرض‪ .‬القصاص ‪ :‬الجزاء على الذنب‪ ،‬وهو أن يفعل بالفاعل مثل‬
‫ما فعل‪ ،‬وسمي قصاصا لن المقتص يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها‪ .‬عفي له من‬
‫أخيه‪ :‬ترك القصاص منه‪ ،‬وفي ذكر "أخيه" تعطف داع إلى العفو‪ .‬فاتباع‬
‫بالمعروف‪ :‬مطالبة القاتل بالدية من غير عنف‪ .‬وأداء إليه بإحسان‪ :‬على القاتل‬
‫أداء الدية إلى الوارث بل مطل ول بخس‪ .‬ذلك تخفيف ‪ :‬العفو عن القصاص إلى‬
‫الدية تيسير من ال ورحمة بعباده حيث لم يضيق عليهم بتشريع حكم واحد وهو‬
‫القصاص‪ .‬فمن اعتدي بعد ذلك‪ :‬أي ظلم القاتل‪ ،‬واعتدي عليه بالقتل بعد العفو‪ ،‬فله‬
‫عذاب أليم في الخرة بالنار‪ ،‬أو في الدنيا بالقتل ]‪.‬‬
‫ترك القصاص والعفو عنه‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫القصاص هو الحكم الصلي المترتب على القتل العمد‪ ،‬وهو حق أولياء‬
‫القتيل‪ ،‬فإن شاؤوا استوفوه‪ ،‬وعلى القاضي مساعدتهم‪ ،‬وتمكينهم من نيل حقهم‪ ،‬كما‬
‫ظلُوما فَقَدْ‬
‫حرّ َم اللّهُ إِلّ بِالحَقّ َومَن ُقتِلَ مَ ْ‬
‫قال عز وجل‪ ﴿ :‬وَلَ تَ ْق ُتلُواْ النّ ْفسَ اّلتِي َ‬
‫سرِف فّي الْ َقتْلِ ِإنّهُ كَانَ َم ْنصُورا ﴾ ( سورة السراء‪:‬‬
‫سلْطَانا فَلَ يُ ْ‬
‫ج َع ْلنَا ِل َوِليّهِ ُ‬
‫َ‬
‫‪ )33‬أي‪ :‬معانا من قبل القضاء‪ .‬وإن شاؤوا عفوا عن القصاص‪ ،‬أو عفا بعضهم‬
‫إلى الدية‪ ،‬فإن فعلوا‪ ،‬أو فعل بعضهم ذلك‪ ،‬وجبت لهم الدية حالة في مال القاتل ‪،‬‬
‫وكان عليه أداؤها إليهم دون مماطلة أو بخس‪ .‬وإلى هذا الحكم‪ :‬وهو وجوب الدية‪،‬‬
‫شيْءٌ فَا ّتبَاعٌ بِا ْل َم ْعرُوفِ‬
‫يشير قول ال تبارك وتعالى‪َ ﴿ :‬مَنْ عُ ِفيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫َوأَدَاء ِإَليْهِ بِِإحْسَانٍ ﴾ ( سورة البقرة‪.)178 :‬‬
‫قال عبدال بن عباس رضي ال عنهما في تفسير هذه الية‪ ( :‬فالعفو أن‬
‫يقبل الدية في العمد‪ ،‬قال ‪ ﴿:‬فَا ّتبَاعٌ بِا ْل َم ْعرُوفِ َوأَدَاء ِإَليْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ يتبع هذا‬
‫بالمعروف‪ ،‬ويؤدي هذا بإحسان)‪( .‬أخرجه البخاري [‪ ]4228‬عن ابن عباس رضي‬
‫ال عنهما في تفسير سورة البقرة‪ ،‬باب‪ :‬قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ ُك ِتبَ‬
‫عَل ْيكُمُ الْ ِقصَاصُ ﴾ ؛ والنسائي [‪ ]8/37‬في القسامة‪ ،‬باب ‪ :‬تأويل قوله عز وجل‪﴿:‬‬
‫َ‬
‫حسَانٍ ﴾ )‪.‬‬
‫شيْءٌ فَا ّتبَاعٌ بِا ْل َم ْعرُوفِ َوأَدَاء ِإَليْهِ بِإِ ْ‬
‫َمَنْ عُ ِفيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫وقد مرت الية مستوفاة ‪.‬‬
‫أن للولي الحق في القصاص‪ ،‬أو العفو عنه إلي الدية‪:‬‬ ‫وقد بين النبي‬
‫‪ " :‬من قتل له قتيل فهو‬ ‫روى أبو هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال‬
‫بخير النظرين‪ :‬إما أن يعفو وإما أن يقتل" ‪ .‬وفي رواية‪ " :‬إما أن يقاد وإما أن‬
‫يفدى"‪( .‬أخرج الترمذي الولي [‪ ]1405‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في حكم ولي‬
‫القتيل في القصاص والعفو؛ وأخرج الثانية النسائي [‪ ]8/38‬في القسامة‪ ،‬باب‪ :‬هل‬
‫يؤخذ من قاتل العمد الدية إذا عفا ولي المقتول عن القود؟)‪.‬‬
‫ومما ينبغي أن يعلم أن عفو بعض أولياء القتيل عن القصاص كعفو جميعهم‬
‫لن القصاص ل يتجزأ‪ ،‬فإذا عفا بعضهم انتقل حق الجميع إلى الدية‪ ،‬وليس‬
‫لحدهم أن يطالب بالقصاص‪.‬‬
‫تغليظ الدية ‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫قلنا فيما سبق إن أولياء القتيل إذا تركوا القصاص‪ ،‬ورضوا بالدية‪ ،‬وجبت‬
‫لهم على القاتل‪ ،‬وكانت مغلظة ‪ ،‬تشديدا على القاتل‪.‬‬
‫وتغليظ الدية يكون من ثلثة أوجه‪:‬‬
‫أ ‪ -‬كون الدية علي ثلثة أنواع من البل من حيث أسنانها‪ ،‬ل على خمسة أنواع‪،‬‬
‫كما هي في قتل الخطأ‪ ،‬وسيأتي بيانها‪.‬‬
‫ب – كون الدية حالة‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬كونها في مال الجاني وحده‪ ،‬فل تجب على أحد من أوليائه‪ .‬ودليل ذلك ‪:‬‬
‫قال‪" :‬ل تعقل العاقلة عمدا ول صلحا ‪( .". .‬رواه البيهقي [‪،]8/104‬‬ ‫أن النبي‬
‫عن ابن عباس رضي ال عنهما)‪.‬‬
‫وروي مالك في الموطأ [‪ ]2/865‬عن ابن شهاب أنه قال‪( :‬مضت السنة أن‬
‫العاقلة ل تحمل شيئا من دية العمد إل أن يشاؤوا)‪.‬‬
‫دليل تغليظ الدية‪:‬‬
‫ودليل تغليظ الدية في القتل العمد‪ ،‬مارواه الترمذي (رقم[‪ ]1387‬في الديات‪ ،‬باب‪:‬‬
‫قال‪" :‬من‬ ‫كمهي من البل؟)‪ ،‬عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي‬
‫قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول ‪ ،‬فإن شاؤوا قتلوه‪ ،‬وإن شاؤوا أخذوا الدية‪،‬‬
‫وهي ثلثون حقة‪ ،‬وثلثون جذعة‪ ،‬وأربعون خلفة‪ ،‬وما صالحوا عليه فهو لهم‪،‬‬
‫وذلك لتشديد العقل‪.‬‬
‫[حقة‪ :‬الحقة من البل ما استكملت ثلث سنين‪ ،‬ودخلت في الرابعة‪ ،‬سميت‬
‫بذلك‪ ،‬لنها استحقت أن تركب ويحمل عليها‪ .‬جذعة‪ :‬الجذعة ما استكملت أربع‬
‫سنين‪ ،‬ودخلت في الخامسة ‪ ،‬سميت بذلك ‪ ،‬لنها أجذعت مقدم أسنانها‪ ،‬أي‬
‫أسقطته‪ .‬خلفة‪ :‬الخلفة هي التي تكون أولدها في بطونها]‪.‬‬
‫العفو عن الدية‪:‬‬
‫لولي المقتول أن يعفو عن القصاص‪ ،‬وينتقل إلي الدية‪ ،‬كما قلنا‪ ،‬وكذلك له‬
‫أن يعفو عن الدية‪ ،‬أو يعفو عن بعضها‪ ،‬فإذا عفا عنها‪ ،‬أو عن بعضها سقط المعفو‬
‫عنه من الدية‪ ،‬لن ال عز وجل‪ ،‬شرع الدية حقا للعبد‪ ،‬وتسوية للعلقات النسانية‬
‫حتى ل يتهددها الخطر والضغائن والحقاد‪ ،‬فإذا عفا صاحب الحق عن حقه‪ ،‬كان‬

‫‪11‬‬
‫ذلك له‪ ،‬بل هو الفضل والنفع له ولغيره‪ .‬قال ال عز وجل‪ ﴿ :‬وأن تعفوا أقرب‬
‫للتقوى ﴾ ( سورة البقرة ‪.)237:‬‬
‫حكم النوع الثاني‪ ،‬وهو القتل شبه العمد‪:‬‬
‫وللقتل شبه العمد ـ وقد عرفت حقيقته ـ أيضا حكمان‪ ،‬ديني أخروي‪،‬‬
‫وهو الحرمة‪ ،‬والثم‪ ،‬واستحقاق العذاب في الخرة‪ ،‬لنه قتل بقصد‪ ،‬لكن عقابه‬
‫دون عقاب القتل العمد‪.‬‬
‫وأما حكمه القضائي الدنيوي‪ ،‬فهو الدية مغلظة من بعض الوجوه‪ ،‬وقد مر‬
‫معنا معنى تغليظ الدية‪.‬‬
‫فإن هذا النوع من القتل ل يستوجب قصاصا‪ ،‬كالقتل العمد‪ ،‬وإن طالب به‬
‫ولي المقتول‪ .‬وإنما تثبت به الدية على عاقلة القاتل مؤجلة‪ ،‬تستوفى خلل ثلث‬
‫سنوات‪ .‬فكونها على العاقلة ومؤجلة تخالف دية العمد العدوان‪ ،‬وكونها مثلثة ذات‬
‫أعمار معينة تشبه دية العمد‪ ،‬فهي مغلظة من هذين الوجهين ‪.‬‬
‫ودليل هذا الحكم ما رواه أبو داود [‪ ]4547‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬في الخطأ شبه‬
‫قال‪ " :‬عقل شبه‬ ‫العمد ‪ ،‬عن عبدال بن عمر رضي ال عنهما أن رسول ال‬
‫العمد مغلظة مثل عقل العمد‪ ،‬ول يقتل صاحبه" ‪.‬‬
‫[ العقل‪ :‬الدية‪ .‬وأصلها أن القاتل كان إذا قتل قتيلً جمع الدية من البل‪،‬‬
‫فعقلها بفناء أولياء المقتول ليقبلوها منه‪ ،‬فسميت الدية عقلً‪ .‬والعاقلة‪ :‬هم العصبة‬
‫والقارب من قبل الب الذين يعطون دية قتيل الخطأ‪ ،‬وشبه العمد]‪.‬‬
‫وروي النسائي [‪ ]8/40‬في القسامة‪ ،‬باب ‪ :‬كم دية شبه العمد؟‪ ،‬عن ابن‬
‫قال‪ " :‬شبه العمد قتيل السوط والعصا‪،‬‬ ‫عمر رضي ال عنهما أن رسول ال‬
‫فيه مائة من البل‪ ،‬منها أربعون في بطونها أولدها"‪.‬‬
‫وأما كون الدية في قتل شبه العمد علي العاقلة‪ ،‬فلما رواه مسلم [‪ ]1681‬في‬
‫القسامة ‪ ،‬باب‪ :‬دية الجنين‪ ،‬عن المغيرة بن شعبة رضي ال عنه‪ ،‬قال ‪ :‬ضربت‬
‫دية‬ ‫امرأة ضرة لها بعمود فسطاط ‪ ،‬وهي حبلى فقتلتها‪ ،‬فجعل رسول ال‬
‫المقتولة على عصبة القاتلة‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وروى البخاري [‪ ]6521‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬جنين المرأة ‪ . .‬؛ ومسلم [‬
‫‪ ]1681‬في القسامة‪ ،‬باب‪ :‬دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ عن أبي هريرة‬
‫قضى أن دية المرأة على عاقلتها‪.‬‬ ‫رضي ال عنه‪ :‬أن رسول ال‬
‫هذا ولقد قلنا‪ :‬إن العاقلة هم عصبة النسان وأقاربه من جهة أبيه‪ ،‬ونقول‬
‫هنا‪ :‬إن المقصود بالعاقلة الذين يلزمهم أداء الدية إلي ولي المقتول إنما هم عصبة‬
‫الجاني الذكور‪ ،‬ما عدا الصول والفروعـ أما هم‪ ،‬فل يتحملون من الدية شيئا‪.‬‬
‫ويقدم القرب فالقرب من عصبة الجاني‪ ،‬في تحمل الدية‪.‬‬
‫والدليل على أن الصول والفروع ل يدخلون في العاقلة‪ ،‬ول يتحملون من‬
‫ومعي ابني‪،‬‬ ‫الدية شيئا‪ :‬ما رواه أبو رمثة رضي ال عنه‪ ،‬قال ‪ :‬أتيت النبي‬
‫فقال‪ " :‬من هذا "؟ فقلت ‪ :‬ابني وأشهد به‪ ،‬قال‪" :‬أما إنه ل يجني عليك ول تجني‬
‫عليه"‪( .‬أخرجه أبو دادو [‪ ]4206‬في الترجل‪ ،‬باب‪ :‬في الخضاب‪ ،‬والنسائي [‬
‫‪ ]8/53‬في القسامة‪ ،‬باب‪ :‬هل يؤخذ أحد بجريرة غيره؟)‪.‬‬
‫[ ل يجني عليك ول تجني عليه‪ :‬أي الوالد ل يضمن من جناية ابنه شيئا‪،‬‬
‫ول يضمن الولد من جناية أبيه شيئا[‪.‬‬
‫وروي النسائي [‪ ]7/176‬في تحريم الدم‪ ،‬باب‪ :‬تحريم القتل‪ ،‬عن عبدال بن‬
‫قال‪" :‬ل يؤخذ الرجل بجناية أبيه"‪.‬‬ ‫عمر رضي ال عنهما‪ :‬أن رسول ال‬
‫برأ الولد من عقل أبيه‪.‬‬ ‫وقد روى أبو داود أن النبي‬
‫حكم النوع الثالث‪ ،‬وهو القتل الخطأ‪:‬‬
‫وللقتل الخطأ ـ وقد عرفت حقيقته ـ حكمان‪ :‬الول ديني أخروي‪ ،‬والثاني‬
‫دنيوي قضائي‪.‬‬
‫أما حكمه الديني الخروي فعفو ل إثم فيه ول عقاب‪ ،‬لنه عمل وقع خطأ‬
‫من غير قصد‪ ،‬وقد جاء في الحديث‪" :‬إن ال تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان‪،‬‬
‫وما استكرهوا عليه"‪ .‬رواه ابن ماجه[‪ ]2045‬في الطلق‪ ،‬باب طلق المكره‬
‫والناسي عن ابن عباس‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وأما حكمه في الدنيا فهو وجوب الدية على عاقلة القاتل‪ ،‬مؤجلة إلى ثلث‬
‫سنوات‪ ،‬ومخففة‪ :‬أي مقسمة إلى خمسة أنواع‪ :‬عشرون بنت مخاض‪ ،‬وعشرون‬
‫بنت لبون‪ ،‬وعشرون ابن لبون‪ ،‬وعشرون حقة‪ ،‬وعشرون جذعة‪.‬‬
‫أما وجوب الدية في القتل الخطأ‪ ،‬فيدل عليه قول ال عز وجل‪َ ﴿ :‬ومَا كَانَ‬
‫حرِيرُ رَ َقبَةٍ ّم ْؤ ِمنَةٍ وَ ِديَةٌ‬
‫ِل ُم ْؤمِنٍ أَن يَ ْقتُلَ ُم ْؤمِنا إِلّ خَطَئا َومَن َقتَلَ ُم ْؤمِنا خَطَئا َفتَ ْ‬
‫سّلمَةٌ ِإلَى أَ ْهلِهِ إِلّ أَن َيصّدّقُواْ ﴾ ( سورة النساء‪.)92:‬‬
‫مّ َ‬
‫أما كون الدية في القتل الخطأ على العاقلة فلما قلنا إنها في القتل شبه العمد‬
‫على العاقلة‪ ،‬فهي في الخطأ أولي أن تكون عليهم‪.‬‬
‫وأما كون الدية مخففة‪ :‬أي في خمسة أسنان‪،‬فلما رواه الدار قطني [‪]3/172‬‬
‫عن ابن مسعود رضي ال عنه‪ ،‬موقوفا‪ ،‬أنه قال ‪( :‬دية الخطأ أخماسا‪ :‬عشرون‬
‫جذعة‪ ،‬وعشرون حقة‪ ،‬وعشرون بنت لبون‪ ،‬وعشرون ابن لبون‪ ،‬وعشرون بنت‬
‫مخاض)‪.‬‬
‫ومثل هذا الكلم من ابن مسعود رضي ال عنه‪ ،‬له حكم الحديث المرفوع‬
‫‪ ،‬لنه من المقدرات‪ ،‬وهي ليست مما يقال بالرأي‪.‬‬ ‫إلى النبي‬
‫وأما كون الدية في قتل الخطأ مقسطة في ثلث سنوات‪ ،‬فلما روي عن‬
‫عمر وعلي وابن عمر وابن عباس رضي ال عنهم‪ ،‬أنهم قضوا بذلك ولم ينكر‬
‫عليهم أحد من الصحابة‪ ،‬فكان إجماعا‪ ،‬وهم رضي ال عنهم ل يقولون مثل هذا‬
‫‪ ،‬بل قال الشافعي رحمه ال تعالى‪ :‬ولم أعلم مخالفا‬ ‫إل بتوقيف عن رسول ال‬
‫بالدية قضى بالدية على العاقلة في ثلث سنين‪ .‬وقال الترمذي [‬ ‫أن رسول ال‬
‫‪ ]1386‬في أول كتاب الديات‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في الدية كم هي؟‪ :‬وقد أجمع أهل‬
‫العلم على أن الدية تؤخذ في ثلث سنين في كل سنة ثلث الدية‪ ،‬ورأوا أن دية‬
‫الخطأ على العاقلة‪.‬‬
‫بنت مخاض ‪ :‬هي التي لها سنة من البل‪ ،‬وطعنت في السنة الثانية‪،‬‬
‫وسميت بنت مخاض‪ ،‬لن أمها بعد سنة تحمل مرة أخري‪ ،‬فتصير من المخاض ‪:‬‬
‫أي الحوامل‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫بنت لبون‪ :‬هي التي لها سنتان من البل وطعنت في الثالثة‪ ،‬سميت بنت‬
‫لبون‪ ،‬لن أمها آن لها أن تلد فتصير لبونا‪.‬‬
‫وقد مر بيان الحقة والجذعة‪.‬‬
‫الحكمة في تخفيف الدية في القتل الخطأ وجعلها على العاقلة‪:‬‬
‫قلنا إن القتل الخطأ وقع بغير قصد‪ ،‬ولم يكن مرادا للقاتل‪ ،‬فلذلك ناسب أن‬
‫تخفف الدية فيه‪ ،‬ول يكلف المخطئ ما يكلفه المعتدي‪ ،‬الذي باشر القتل قصدا‪.‬‬
‫ولما كان هذا شأن المخطئ‪ ،‬كان من الحكمة أن يواسيه الدنون من‬
‫عصباته‪ ،‬ويحملون عنه هذا الغرم الموجع‪ ،‬ويكفيه هو ما يحمله من الكفارة‪ ،‬وهي‬
‫عتق رقبة مؤمنة‪ ،‬فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين‪ .‬قال ال عز وجل‪َ ﴿ :‬ومَا‬
‫حرِيرُ رَ َقبَةٍ ّم ْؤ ِمنَةٍ‬
‫كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ أَن يَ ْقتُلَ ُم ْؤمِنا إِلّ خَطَئا َومَن َقتَلَ ُم ْؤمِنا خَطَئا َفتَ ْ‬
‫سّلمَةٌ ِإلَى أَ ْهلِهِ إِلّ أَن َيصّدّقُواْ ‪ ﴾ . .‬ثم قال عز وجل‪َ ﴿ :‬مَن لّمْ يَجِدْ‬
‫وَ ِديَةٌ مّ َ‬
‫حكِيما ﴾ ( سورة النساء‪:‬‬
‫علِيما َ‬
‫ن اللّهُ َ‬
‫ن اللّهِ َوكَا َ‬
‫ش ْه َريْنِ ُم َتتَا ِب َعيْنِ َت ْوبَةً مّ َ‬
‫صيَامُ َ‬
‫َف ِ‬
‫‪.)92‬‬
‫تغليظ الدية في القتل الخطأ في بعض الحوال‪:‬‬
‫ذكر علماء الشافعية أن الدية في القتل الخطأ تغلظ في بعض الحالت‪،‬‬
‫ويكون تغليظها من حيث وجوب التثليث فيها فقط (ثلثون حقة‪ ،‬ثلثون جذعة‪،‬‬
‫أربعون خلفة)‪.‬‬
‫وهذه الحالت التي تغلظ فيها هي‪:‬‬
‫أ ‪ -‬إذا وقع القتل في حرم مكة‪ ،‬وحدود الحرم مذكورة في كتاب الحج ‪ ،‬وهي‬
‫الحدود التي يحرم الصطياد داخلها‪ ،‬وذلك احتراما لهذا البيت‪ ،‬ورعاية لزيادة‬
‫ظلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ َألِيمٍ‬
‫المن فيه‪ .‬قال ال عز وجل‪َ ﴿ :‬ومَن ُيرِدْ فِيهِ بِِإلْحَادٍ بِ ُ‬
‫﴾ ( سورة الحج‪.)25 :‬‬
‫[بإلحاد بظلم‪ :‬ميل عن الحق بسبب الظلم]‪.‬‬
‫ب – إذا وقع القتل في الشهر الحرم ‪ ،‬وهي‪ :‬ذو القعدة‪ ،‬وذو الحجة‪ ،‬والمحرم‪،‬‬
‫ورجب‪ ،‬لحرمة هذه الشهر‪ ،‬ومنع ابتداء القتال فيها‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫حرَامِ ِقتَالٍ فِيهِ قُلْ ِقتَالٌ فِيهِ‬
‫ش ْهرِ الْ َ‬
‫قال ال عز وجل ‪ ﴿ :‬يَسَْألُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫َكبِير﴾ ( سورة البقرة ‪ )217 :‬أي‪ :‬كبير إثمه‪.‬‬
‫وقال تبارك وتعالى‪ ﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا ل تحلوا شعائر ال ول الشهر‬
‫الحرام﴾ ( سورة المائدة‪.)2 :‬‬
‫[ى تحلوا‪ :‬ل تستحلوا وتجيزوا‪ .‬شعائر ال ‪ :‬جمع شعيرة‪ ،‬أي معالم دينه‪،‬‬
‫وأحكام شرعه‪ ،‬مثل الصيد في الحرم‪ .‬ول الشهر الحرام‪ :‬أي بالقتال فيه]‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬إذا وقع القتل الخطأ على محرم ذي رحم‪ ،‬كالم‪ ،‬والخت‪ ،‬والعم‪ ،‬والخال‪،‬‬
‫ونحوهم من كل ذي رحم محرم‪.‬‬
‫ودليل التغليظ في هذه المواضع عمل الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وإن‬
‫اختلفوا في كيفية التغليظ ـ وقد عرفت مذهب الشافعي في ذلك ـ ومثل هذا الحكم‬
‫‪.‬‬ ‫منهم ل يدرك بالجتهاد‪ ،‬بل بالتوقيف من النبي‬

‫اشتراك جماعة بقتل شخص واحد‪:‬‬


‫إذا اشترك جماعة ـ اثنان أو أكثر ـ في قتل شخص واحد من المسلمين‪،‬‬
‫وذلك بأن كان عمل كل واحد منهم ـ لو انفرد ـ مزهقا للروح وقاتلً ‪ ،‬ثبت‬
‫القصاص على كل واحد من أولئك المشتركين في قتله‪.‬‬
‫أما إذا جرحه واحد منهم‪ ،‬وكان الجرح غير قاتل ‪ ،‬ثم قتله الخر‪ ،‬فأجهز‬
‫عليه‪ ،‬كان الثاني هو القاتل‪ ،‬وثبت عليه القصاص‪ ،‬وأما الجارح الول ‪ ،‬فعليه ما‬
‫يستحق من قصاص جرح‪ ،‬أوديته‪ .‬ولو جرحه أحدهم جرحا‪ ،‬فأنهاه إلى حركة‬
‫مذبوح‪ ،‬وذلك بأن لم يبق معها إبصار‪ ،‬ول نطق ول حركة اختبار‪ ،‬وأصبح يقطع‬
‫بموته من ذلك الجرح‪ ،‬ولو بعد أيام‪ ،‬ثم جنى عليه شخص آخر‪ ،‬فالول هو‬
‫القاتل ‪ ،‬لنه صيره إلى حالة الموت‪ .‬ويعزر الثاني لهتكه حرمة الميت‪ ،‬كما لو‬
‫قطع عضوا من ميت ‪.‬‬
‫ويستدل على ثبوت القصاص في حق الجماعة بقتل شخص واحد بالدلة‬
‫التية‪:‬‬

‫‪16‬‬
‫أ ‪ -‬روى البخاري تعليقا‪ ،‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬إذا أصاب قوم من رجل ‪ ،‬هل يعاقب‬
‫أو يقتص منهم كلهم؟‪ ،‬عن ابن عمر رضي ال عنهما‪ :‬أن غلما قتل غيلة‪ ،‬فقال‬
‫عمر رضي ال عنه‪ ( :‬لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم)‪ .‬وفي البخاري في‬
‫نفس الباب؛ قال مغيرة بن حكيم عن أبيه‪ :‬إن أربعة قتلوا صبيا‪ ،‬فقال عمر مثله‪.‬‬
‫ب – روي مالك رحمه ال في الموطأ [‪ ]2/871‬عن سعيد بن المسيب أن عمر بن‬
‫الخطاب رضي ال عنه قتل نفرا ـ خمسة أو سبعة ـ برجل واحد قتلوه غلية‪،‬‬
‫وقال‪( :‬لو تمال عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاُ)‪.‬‬
‫[قتل غيلة‪ :‬خديعة ومكرا من غير أن يعلم‪ .‬تمال‪ :‬اتفق وتواطأ على قتله]‪.‬‬
‫وهناك قصة ذكرها الطحاوي والبيهقي في سبب هذه الحاديث‪ ،‬وهي أن‬
‫المغيرة بن حكيم الصنعاني حدث عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها‪،‬‬
‫وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلما يقال له أصيل ‪ ،‬فاتخذت المرأة بعد‬
‫زوجها خليلً‪ ،‬فقالت له‪ :‬إن هذا الغلم يفضحنا فاقتله فأبي‪ ،‬فامتنعت منه فطاوعها‪،‬‬
‫فاجتمع على قتل الغلم الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها‪ ،‬فقتلوه ثم قطعوه‬
‫أعضاء ‪ ،‬وجعلوه في عيبة (وعاء من أدم) فطر حوه في ركية ـ البئر التي لم‬
‫تطو ـ ليس فيها ماء‪ ،‬فذكر القصة‪ ،‬وفيه فأخذ خليلها فاعترف ‪ ،‬ثم اعترف‬
‫الباقون‪ ،‬فكتب يعلى ـ وهو يومئذ أمير ـ بشأنهم إلى عمر‪ ،‬فكتب إليه عمر‬
‫بقتلهم جميعا‪ ،‬قال‪ :‬وال لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬إن حد القذف يثبت للواحد على الجماعة إذا اشتركوا في قذفه‪ ،‬فكذلك‬
‫ينبغي أن يثبت قصاص القتل للواحد على الجماعة إذا صدر من كل منهم من‬
‫العدوان عليه ما لو انفرد به لكان قاتلً بحسب الظاهر‪ ،‬لعدم الفرق بين‬
‫الصورتين‪.‬‬
‫د – يتعين القصاص من الجميع سدا للذرائع‪ ،‬فإن المعتدي إذا علم أن الشركة في‬
‫العدوان تنجيه وتنجي المشتركين من القصاص التجأ إليها لنفاذ جريمته‪ ،‬والفرار‬
‫بعد ذلك من القصاص‪.‬‬
‫قال ابن قدامة‪ :‬ولن القصاص لو سقط بالشتراك أدى إلى التسارع إلى‬
‫القتل به‪ ،‬فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫اجتماع المباشرة والسبب في القتل‪:‬‬
‫إذا اجتمع في القتل الواحد المباشرة والسبب‪ ،‬فتارة يقدم السبب على‬
‫المباشرة فيقتص من المتسبب‪ ،‬وتارة تقدم المباشرة على السبب فيقتص من‬
‫المباشرة ‪ .‬وقد يستوي السبب والمباشرة ‪ ،‬فهذه ثلثة أنواع‪:‬‬
‫النوع الول‪ :‬أن يشهد على الرجل شهود زور بأنه قاتل‪ ،‬فيقتله القاضي‪،‬‬
‫فاعترف الشهود بتعمد الكذب وأنهم شهدوا زورا‪ ،‬فعليهم القصاص دون القاضي‬
‫أو الولي إذا باشر القصاص وكان جاهلً بكذب الشهود‪ .‬فهنا قدم السبب على‬
‫المباشرة‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬غلبة المباشرة على السبب‪ ،‬وذلك كأن يرميه رام من شاهق‬
‫فيتلقاه آخر بسيف فيقده نصفين‪ ،‬أو يضرب رقبته قبل وصوله إلى الرض‪،‬‬
‫فالقصاص على القاد‪ ،‬ول شيء على الملقي سوى التعزيز‪ ،‬سواء عرف الحال أم‬
‫لم يعرف ‪.‬‬
‫ومثل ذلك إذا أمسكه شخص فقتله آخر‪ ،‬فالقصاص على القاتل‪ ،‬وليس على‬
‫الممسك قصاص أو دية‪ ،‬وإنما عليه التعزير ‪.‬‬
‫روى الدار قطني [‪ ]3/140‬عن ابن عمر رضي ال عنهما عن النبي‬
‫قال‪" :‬إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الخر‪ ،‬يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك|‪.‬‬
‫قال في بلوغ المرام‪ :‬رجاله ثقات وصححه ابن القطان‪.‬‬
‫ويشترط في حال المساك هذه أن يكون القاتل مكلفا ‪ ،‬أما إذا كان القاتل‬
‫صبيا أو مجنونا فإن القصاص على الممسك ‪ ،‬وكذلك إذا عرضه لسبع ضار‪،‬‬
‫ومثل ذلك لو ألقاه في ماء مغرق كلجة بحر‪ ،‬فالتقمه حوت‪ ،‬سواء أكان ال لتقام‬
‫قبل الوصول إلى الماء أو بعده‪ ،‬فالقصاص على الملقي‪ .‬أما ألقاه في ماء غير‬
‫مغرق فالتقمه حوت‪ ،‬فل قصاص في هذه الحالة‪ ،‬لكن تجب عليه في هذه الحالة‬
‫دية شبه العمد‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬أن يتساوى السبب والمباشرة‪ ،‬كأن أكره إنسانا على قتل‬
‫آخر‪ ،‬وجب القصاص عليهما‪ ،‬أما وجوب القصاص على المكره فلنه أهلكه بما‬

‫‪18‬‬
‫يقصد به الهلك غالبا‪ ،‬فأشبه ما لو رماه بسهم فقتله‪ ،‬وأما وجوب القصاص على‬
‫المكره لنه قتله عمدا عدوانا لستبقاء نفسه‪.‬‬
‫هذا ول فرق بين أن يكون المكره هو المام أو غيره‪.‬‬
‫أما لو أمره بقتل نفسه بأن قال له‪ :‬اقتل نفسك وإل قتلتك ‪ ،‬فقتل نفسه لم‬
‫يجب القصاص في هذه الحالة‪ ،‬لن هذا ل يعد إكراها حقيقة‪ ،‬لتحاد المأمور به‬
‫والمخوف منه‪ ،‬فصار كأنه مختار له‪ .‬أما لو خوفه بشيء أشد من القتل كالحراق‬
‫بالنار مثلً فهو إكراه يجب فيه القصاص على المكره‪.‬‬
‫وكذلك إذا قال له اقتلني وإل قتلتك فل قصاص إذا قتله‪ ،‬لن الكراه شبهة‬
‫يدرأ بها الحد‪.‬‬
‫هذا ولو أمر السلطان شخصا بقتل آخر بغير حق‪ ،‬والمأمور ل يعلم ظلم‬
‫السلطان ول خطأه وجب القود أو الدية والكفارة على السلطان‪ ،‬ول شيء على‬
‫المأمور‪ ،‬لنه آلته ول بد منه في السياسة‪ ،‬فلو ضمناه لم يتول تنفيذ الحد أحد‪،‬‬
‫ولن الظاهر أن المام ل يأمر إل بالحق‪ ،‬ولن طاعته واجبة فيما ل يعلم أنه‬
‫معصيته‪ ،‬وليس للمأمور أن يكفر لمباشرة القتل‪.‬‬
‫وإن علم بظلمه أو خطئه وجب القود على المأمور‪ ،‬إن لم يخف قهر‬
‫السلطان بالبطش بما يحصل به الكراه‪ ،‬لنه ل يجوز طاعته حينئذ لقوله عليه‬
‫الصلة والسلم ‪" :‬ل طاعة في معصية ال ‪ ،‬إنما الطاعة في المعروف" (رواه‬
‫البخاري [‪ ]4085‬في المغازي‪ ،‬باب ‪ :‬سرية عبدال بن حذافة السهمي ؛ ومسلم [‬
‫‪ ]1840‬في المارة‪ ،‬باب‪ :‬وجوب طاعة المراء في غير معصية وتحريمها في‬
‫المعصية)‪ .‬فصار كما لو قتله بغير إذن‪ ،‬ول شيء على السلطان إل الثم فقط فيما‬
‫إذا كان ظالما‪ ،‬وأما إن اعتقد وجوب طاعته في المعصية فالضمان على المام ل‬
‫عليه‪ ،‬لن ذلك مما يخفي ‪ .‬فإن خاف قهره فكالمكره فالضمان بالقصاص وغيره‬
‫عليهما‪.‬‬
‫فائدة‪ :‬فيما يباح بالكراه‪:‬‬
‫ذكر النووي في كتابه " روضة الطالبين" فصلً يوضح فيه ما يباح بالكراه‬
‫وما ل يباح‪ ،‬فقال رحمه ال تعالى‪:‬‬

‫‪19‬‬
‫(فصل‪ :‬الكراه على القتل المحرم ل يبيحه‪ ،‬بل يأثم بالتفاق إذا قتل‪ ،‬وكذا‬
‫ل يباح الزنى بالكراه‪ .‬ويباح بالكراه شرب الخمر‪ ،‬والفطار في رمضان‪،‬‬
‫والخروج من صلة الفرض‪ ،‬وإتلف مال الغير‪ ،‬ويباح أيضا كلمة الكفر‪ ،‬وفي‬
‫وجوب التلفظ بها وجهان‪ ،‬أحدهما‪ :‬وهو الصحيح‪ ،‬ل يجب للحاديث الصحيحة‬
‫في الحث على الصبر على الدين‪ ،‬واقتداءً بالسلف‪ ،‬فعلى هذا الفضل أن يثبت ول‬
‫يتلفظ وإن قتل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو أو القيام بأحكام‬
‫الشرع؛ فالفضل أن يتلفظ‪ ،‬وإل فالفضل المتناع‪.‬‬
‫ول يجب شرب الخمر عند الكراه على الصحيح‪ ،‬ويمكن أن يجيء مثله‬
‫في الفطار في رمضان‪ ،‬ول يكاد يجيء في الكراه على إتلف المال‪.‬‬
‫ثم إذا أتلف مال غيره بالكراه؛ فللمالك مطالبة المكره المر بالضمان‪ ،‬وفي‬
‫مطالبة المأمور وجهان‪ ،‬أحدهما‪ :‬ل يطالب لنه إتلف مباح له بالكراه‪،‬‬
‫وأصحهما يطالب ‪ ،‬لكنه يرجع بالمعزوم على المر‪ ،‬هذا هو المذهب ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن‬
‫الضمان على المأمور ول رجوع له‪ ،‬وقيل‪ :‬يتقرر الضمان عليهما بالسوية‬
‫كالشريكين‪ ،‬والقول في جزاء الصيد إذا قتله المحرم مكرها كالقول في ضمان‬
‫المال)‪.‬‬
‫حكم شريك من ل يقتص منه‪:‬‬
‫إذا قتل شخص شخصا وكان شريكا في القتل لمن ل يقتص منه‪ ،‬فما الحكم‬
‫في ذلك أيقتص منه أم ل؟ لهذه المسألة صور كثيرة نوضحها فيما يلي‪:‬‬
‫الصورة الولى ‪ :‬أن يكون شريكا لمخطئ أو شريكا لقاتل شبه عمد‪ ،‬فهذا‬
‫ل يقتص منه‪ ،‬لن الزهوق حصل بفعلين أحدهما يوجبه والخر ينفيه‪ ،‬فغلب‬
‫المسقط‪ ،‬ولكنه يجب عليه في هذه الحال نصف الدية‪ ،‬دية العمد‪.‬‬
‫الصور الثانية‪ :‬أن يكون القاتل شريكا للب في القتل‪ ،‬فعلى القاتل هنا‬
‫القصاص وعلى الب نصف الدية مغلظة‪ ،‬لن الب ل يقتص منه‪.‬‬
‫الصورة الثالثة‪ :‬أن يشارك عبد حرا في قتل عبد‪ ،‬فيقتص من العبد‪ ،‬لنه‬
‫لو انفرد بالقتل لقتص منه‪ ،‬وأما الحر فل يقتص منه‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫الصورة الرابعة‪ :‬أن يشارك دمي مسلما في قتل ذمي‪ ،‬فهنا يقتص من‬
‫الذمي‪ ،‬لنه لو انفرد في قتله لقتص منه‪ ،‬وأما المسلم فعليه نصف دية الذمي‪،‬‬
‫وسيأتي مقدار دية الذمي‪.‬‬
‫الصورة الخامسة‪ :‬أن يقطع شخص يد شخص قصاصا أو حدا‪ ،‬فجرحه‬
‫شخص آخر فمات بهما‪ ،‬فعلي الجارح الثاني القصاص‪.‬‬
‫الصورة السادسة‪ :‬أن يشترك في القتل مع صبي أو مجنون‪ ،‬فعليه‬
‫القصاص‪ ،‬وأما الصبي والمجنون فل قصاص عليهما‪.‬‬
‫وهناك صور أخري كثيرة تطلب في المطولت من الكتب‪.‬‬
‫الجناية على ما دون النفس‪:‬‬
‫لقد مر بنا أن الجناية على البدن إما أن تكون بإزهاق الروح‪ ،‬وهو القتل‪،‬‬
‫وهذا هو الذي سبق الحديث عنه‪ ،‬وإما أن تكون فيما دون ذلك من قطع يد أو قلع‬
‫عين أو قطع أنف وأذن وما شاكل ذلك‪ ،‬وهذا هو الذي نريد أن نتحدث عنه فيما‬
‫يلي‪:‬‬
‫أنواع الجناية على ما دون النفس‪:‬‬
‫الجناية على ما دون النفس على ثلثة أنواع‪:‬‬
‫الول ‪ :‬الجناية بالجرح‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬قطع الطرف‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إبطال المنافع‪.‬‬
‫النوع الول ‪ :‬الجناية بالجرح‪:‬‬
‫الجراح الواقعة على البدن على ضربين‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬الواقعة على الوجه والرأس‪ ،‬وتسمى الشجاع‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬الجراحات في سائر البدن‪.‬‬
‫وفيما يلي نوضح كل ضرب من هذين‪ ،‬ونبين ما يتعلق به من أحكام‪.‬‬
‫أ ‪ -‬الشجاج الواقعة على الرأس والوجه‪ ،‬وهي عشر‪:‬‬
‫إحداها‪ :‬الحارصة‪ ،‬وهي التي تشق الجلد قليلً كالخدش ‪ ،‬وتسمى القاشرة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ثانيها‪ :‬الدامية‪ ،‬وهي التي تدمي موضعها من الشق والخدش‪ ،‬ول يقطر‬
‫منها دم‪ ،‬فإن سال فهي دامعة‪ ،‬وهذه قسم آخر يزيد على العشر‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬الباضعة‪ ،‬وهي التي تبضع اللحم بعد الجلد‪ ،‬أي تشق اللحم بعد‬
‫الجلد شقا خفيفا‪ ،‬مأخوذ من البضع وهو القطع‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬المتلحمة‪ ،‬وهي التي تغوص في اللحم ول تبلغ الجلدة بين اللحم‬
‫والعظم‪ ،‬سميت بذلك تفاؤلً بما يؤول إليه من اللتحام‪ .‬وتسمي أيضا اللحمة‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬السمحاق‪ ،‬وهي التي تبلغ تلك الجلدة‪ ،‬وتسمي تلك الجلدة‬
‫السمحاق‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬الموضحة‪ ،‬وهي التي تخرق السمحاق‪ ،‬وتوضح العظم‪ ،‬أي‬
‫تكشفه‪ ،‬بحيث يقرع بالمرود‪ ،‬وإن لم يشاهد العظم من أجل الدم الذي يستره‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬الهاشمة‪ ،‬وهي التي تهشم العظم أي تكسره‪ ،‬سواء أوضحته أم ل‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬المنقلة‪ ،‬وهي التي تنقل العظم من موضع إلى موضع‪ ،‬سواء‬
‫أوضحته وهشمته أو ل‪.‬‬
‫التاسعة‪ :‬المأمومة‪ ،‬وهي التي تبلغ أم الرأس‪ ،‬وهي خريطة الدماغ المحيطة‬
‫به‪ ،‬ويقال لها المة‪.‬‬
‫العاشرة‪ :‬الدامغة‪ ،‬وهي التي تخرق خريطة الدماغ‪ ،‬وتصل إليه‪ ،‬وهي‬
‫مذففة غالبا‪.‬‬
‫إذا علمت ذلك فالعلم أن القصاص يجب في الموضحة فقط‪ ،‬لتيسر ضبطها‬
‫واستيفاء مثلها‪ ،‬ول قصاص فيما عداها من الهاشمة والمنقلة وغيرهما إذ ل يؤمن‬
‫فيها الزيادة والنقصان في طول الجراحة وعرضها‪ ،‬ول يوثق باستيفاء المثل‪.‬‬
‫ب – الجراحات في سائر البدن‪ :‬فما ل قصاص فيه إذا كان في الرأس أو الوجه‪،‬‬
‫ل قصاص فيه إذا كان على غيرهما‪ ،‬فالموضحة التي تقع في جزء من أجزاء‬
‫البدن كالصدر والعنق والساعد والصابع هي التي يكون فيها القصاص‪ ،‬وما ل‬
‫فل قصاص فيه لما ذكرنا آنفا من صعوبة الحصول على المماثلة‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬الجناية بقطع الطرف‪:‬‬

‫‪22‬‬
‫أقسام قطع الطرف ثلثة أقسام كالقتل‪ ،‬فكما أن القتل ثلثة أقسام عمد وشبه‬
‫عمد وخطأ‪ ،‬كذلك ينقسم قطع الطرف إلى ثلثة أقسام عمد وشبه عمد وخطأ‪ ،‬وكما‬
‫أنه ل يجب القصاص في النفس إل بالعمد فكذلك قطع الطرف ل يجب إل بالعمد‪،‬‬
‫وأما شبه العمد بقطع الطرف والخطأ به فل يجب فيه القصاص‪.‬‬
‫شروط القصاص بالطرف‪:‬‬
‫يجري القصاص بقطع الطرف بشرط إمكان المماثلة وأمن استيفاء الزيادة‪،‬‬
‫ويحصل ذلك بطريقتين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يكون للعضو مفصل توضع عليه الحديدة وبيان‪ ،‬والمفصل‬
‫موضع اتصال عضو بعضو على منقطع عظمين‪ ،‬وقد يكون ذلك بمجاورة محضة‬
‫وقد يكون مع دخول عضو في عضو ‪ ،‬كالمرفق والركبة‪ ،‬فمن المفاصل‪ :‬النامل‪،‬‬
‫والكوع وهو مفصل الكف‪ ،‬والمرفق‪ ،‬ومفصل القدم‪ ،‬والركبة‪ ،‬فإذا وقع القطع على‬
‫بعضها‪ ،‬اقتص من الجاني‪ ،‬ومن المفاصل أصل الفخذ والمنكب‪.‬‬
‫الطريق الثاني‪ ،‬أن يكون للعضو حد مضبوط ينقاد للة البانة‪ ،‬فيجب‬
‫القصاص من فقء العين‪ ،‬وفي الذن‪ ،‬وفي الجفن‪ ،‬وفي المارن وهو ما لن من‬
‫النف‪ ،‬وفي الذكر‪ ،‬وفي النثيين‪ ،‬وفي الشفة‪ ،‬وفي الشفرين إذا كان القطع من‬
‫امرأة ـ والشفران طرفا الفرج ـ ‪ ،‬وفي الليين‪ ،‬وفي اللسان ‪.‬‬
‫وعلى هذا لو قطع بعض الذن أو بعض المارن من غير إبانة وجب‬
‫القصاص لحاطة الهواء بهما وإمكان الطلع عليهما من الجانبين‪ ،‬ويقدر‬
‫المقطوع بالجزئية كالثلث والربع ‪ ،‬ل بالمساحة‪.‬‬
‫ولو قطع الكوع أو بعض مفصل الساق والقدم ولم يبن فل القصاص لنها‬
‫تجمع العروق والعصاب‪ ،‬وهي مختلفة الوضع تسفلً وتصعدا‪ ،‬فل يوثق بالمماثلة‬
‫فيها بخلف المارن‪.‬‬
‫القصاص بكسر العظام‪:‬‬
‫ل قصاص بكسر العظام لعدم الوثوق بالمماثلة ‪ ،‬بل عليه الدية كما سيأتي‪،‬‬
‫لكن لو كسر عظما وأبانه فللمجني عليه قطع أقرب مفصل إلى المكسور‪ ،‬وأخذ‬
‫حكومة عن الباقي ـ والحكومة هي مال مقدر على حسب الجناية يقدره الخبراء‬

‫‪23‬‬
‫وأصحاب المعرفة بهذا الشأن ـ وعلى هذا فلو كسر يده من العضد كان له أن‬
‫يقطع يده من المرفق‪ ،‬وله على الباقي حكومة ‪ .‬ولو كسر يده من الساعد فله قطع‬
‫اليد من الكف‪ ،‬وله على الباقي حكومة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬إبطال منافع العضو‪:‬‬
‫قد تكون الجناية بإبطال منفعة عضو من العضاء‪ ،‬أو قسم منها‪ ،‬فعند ذلك‬
‫يجب فيها دية‪ ،‬على حسب ما يلي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬إزالة العقل‪ ،‬فإذا أزال إنسان عقل إنسان بسبب ما‪ ،‬وجب كمال الدية‬
‫في ذلك‪ ،‬وسيأتي بيان كمال الدية‪ .‬ول يجب فيه قصاص لعدم إمكان ذلك‪ ،‬ولو‬
‫نقص عقله ولم تستقم أحواله نظر في ذلك‪ ،‬فإن أمكن الضبط‪ ،‬وجب قسط الزائل‪،‬‬
‫والضبط قد يأتي بالزمان بأن يجن يوما ويفيق يوما‪ ،‬فيجب نصف الدية‪ ،‬أو يجن‬
‫يوما ويفيق يومين فيجب ثلث الدية‪ ،‬وقد يتأتي الضبط بغير الزمان‪ ،‬بأن يقابل‬
‫صواب قوله ومنظوم فعله بالخطأ المطروح منهما‪ ،‬وتعرف النسبة بينهما‪ ،‬فيجب‬
‫قسط الزائل‪.‬‬
‫وإن لم يمكن الضبط بأن كان يفزع أحيانا مما يفزع‪ ،‬أو يستوحش إذا خل‬
‫وجبت حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده‪.‬‬
‫وهذا الحكم إذا قال أهل الخبرة إن هذا العارض ل يتوقع زواله‪ ،‬أما إذا‬
‫ذكر أهل الخبرة أن هذا العارض قد يزول‪ ،‬فيتوقف في الدية‪ ،‬فإن عاد إليه عقله‬
‫سقطت الدية‪ ،‬وإن لم يعد وجبت الدية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬السمع‪ ،‬فإذا أبطل السمع من الذنين وجب كمال الدية‪ ،‬وإن أبطله من‬
‫أذن واحدة وجب نصف الدية‪ ،‬ولو قطع الذن وأبطل السمع وجب ديتان‪ ،‬دية‬
‫للقطع ودية لبطال السمع‪ .‬وذلك لن السمع ليس في الذن‪.‬‬
‫ولو قال أهل الخبرة‪ :‬لطيفة السمع باقية في مقرها‪ ،‬ولكن ارتتق داخل الذن‬
‫بالجناية‪ ،‬وامتنع نفوذ الصوت‪ ،‬ولم يتوقعوا زوال الرتتاق فالواجب حكومة ‪ ،‬وقيل‬
‫دية‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫هذا إذا ذهب السمع‪ ،‬أما إذا نقص السمع من الذنين أو من أحدهما‪ ،‬نظر‬
‫فإن عرف مقدار النقص وجب قسطه من الدية‪ ،‬وإن لم يعلم وجب في ذلك حكومة‬
‫يقدرها الحاكم باجتهاده‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬البصر‪ ،‬ففي إذهابه من العينين دية كاملة‪ ،‬وفي إذهابه من واحدة‬
‫منهما يجب نصف الدية‪ ،‬سواء في ذلك ضعيف البصر وغيره‪ ،‬وسواء في ذلك‬
‫الحول والخفش وغيرهم (والخفش صغر في العين وضعف البصر خلقة)‪ .‬ولو‬
‫فقأ عينيه لم يجب إل دية واحدة‪ ،‬كما لو قطع يديه‪ ،‬وهذا بخلف الذن كما مر‪.‬‬
‫ويمتحنه أهل الخبرة لمعرفة زوال البصر إذا ادعي ذلك المجني عليه‪ ،‬وأنكر ذلك‬
‫الجاني‪.‬‬
‫هذا إذا ذهب البصر بالكلية‪ ،‬وأما إذا نقص ولم يذهب‪ ،‬فإن عرف قدره بأن‬
‫كان يرى الشخص من مسافة فصار ل يراه إل من بعضها‪ ،‬وجب ممن الدية قسط‬
‫الذاهب‪ ،‬وإن لم يعرف قدره وجب في ذلك حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده‪.‬‬
‫هذا وإذا كان الجني عليه أعشى ـ وهو من يبصر بالنهار دون الليل ـ‬
‫فذهب ضوء عينيه‪ ،‬وجبت الدية كاملة‪ ،‬وفي ذهاب ضوء إحداهما نصف الدية‪،‬‬
‫ولو جنى عليه فصار أعشى وجب نصف الدية ‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬إبطال الشم‪ ،‬وفي إبطال بالكلية الدية كاملة ‪ ،‬وأن أبطال الشم من أحد‬
‫المنخرين وجب نصف الدية‪ ،‬وإن نقص الشم وأمكن ضبطه وجب قسط الناقص‬
‫من الدية‪ ،‬وإن لم يمكن ضبطه وجب فيه حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده‪ ،‬كما مر‬
‫مثل ذلك في السمع والبصر ‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬ذهاب النطق‪ ،‬إذا جنى على لسانه فأبطل كلمه‪ ،‬وجبت الدية كاملة‬
‫هذا إذا قال أهل الخبرة إنه ل يعود نطقه‪ .‬ولو بطل بالجناية بعض الحروف‬
‫وزعت الدية عليها‪ ،‬وسواء في ذلك ما خف على اللسان من الحروف وما ثقل‪.‬‬
‫والحروف مختلفة في اللغات‪ ،‬فكل من تكلم بلغة فالنظر عند التوزيع إلي حروف‬
‫تلك اللغة فإن تكلم بلغتين فبطل بالجناية حروف من هذه‪ ،‬وحروف من تلك‪ ،‬وجب‬
‫التوزيع على أكثرهما حروفا‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫هذا إذا ذهب بعض الحروف‪ ،‬وبقي في البقية كلم مفهوم‪ ،‬أما إذا لم يبق‬
‫في البقية كلم مفهوم كان ذلك كذهاب جميع النطق‪ ،‬فيجب في ذلك الدية كاملة‪.‬‬
‫وإذا جنى عليه جناية فصار يبدل حرفا بحرف وجب قسط الحرف الذي‬
‫أبطله‪ ،‬ولو ثقل لسانه بالجناية أ‪ ,‬حدث به عيب فالواجب حكومة لبقاء المنفعة‪.‬‬
‫وإن كان ل يحسن بعض الحروف كالرت واللثغ الذي ل يتكلم إل‬
‫بعشرين حرفا مثلً إذا ذهب بالجناية كلمه وجبت الدية كاملة‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬ذهاب الصوت‪ ،‬فإذا جنى على شخص فأبطل صوته وبقي اللسان‬
‫على اعتداله ويمكنه من التقطيع والترديد‪ ،‬لزمه لبطال الصوت كمال الدية‪ ،‬فإن‬
‫أبطل معه حركة اللسان حتى عجز عن التقطيع والترديد وجب ديتان‪ :‬دية للصوت‬
‫ودية للسان‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬ذهاب الذوق‪ ،‬فإذا أذهبه شخص بجناية وجبت الدية كاملة‪ .‬والمدرك‬
‫بالذوق خمسة أشياء‪ :‬الحلوة والحموضة والمرارة والملوحة والعذوبة‪ ،‬والدية‬
‫تتوزع عليها‪ ،‬فإذا أبطل إدراك واحد منها‪ ،‬وجب فيه خمس الدية‪ ،‬ولو نقص‬
‫الحساس فلم يدرك الطعوم على كمالها‪ ،‬فالواجب حينذاك حكومة يقدرها الحاكم‪.‬‬
‫ولو ضربه ضربة فزال بها ذوقه ونطقه وجب ديتان‪.‬‬
‫ثامنا‪ :‬زوال المضغ‪ ،‬فإذا زال مضغه بالجناية وجبت الدية كاملة‪.‬‬
‫تاسعا‪ :‬زوال المناء‪ ،‬فإذا كسر صلبه فأبطل قوة إمنائه وجبت الدية كاملة‪،‬‬
‫ولو قطع أنثييه فذهب ماؤه وجب في ذلك ديتان‪ :‬إحداهما للماء والخرى للنثيين‪،‬‬
‫لما سيأتي في الديات من أن قطع النثيين يوجب الدية‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬إبطال قوة الحبال‪ ،‬إذا أبطل في المرأة قوة الحبال لزمه ديتها‪،‬‬
‫ولو جنى على ثديها فانقطع لبنها لزمه حكومة‪ ،‬فإن نقص وجب حكومة تليق به‪،‬‬
‫وإن لم يكن لها لبن عند الجناية‪ ،‬ثم ولدت ولم يدر لها لبن‪ ،‬وامتنع به الرضاع‬
‫وجبت حكومة إذا قال أهل الخبرة إن النقطاع بجنايته‪ ،‬أو جوزوا أن يكون هو‬
‫سببها‪.‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬إبطال الجماع‪ ،‬إذا جنى جناية على صلبه فذهب جماعه‬
‫وجبت الدية‪ ،‬لن الجماع من المنافع المقصودة‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬إفضاء المرأة‪ ،‬وهو إزالة الحاجز بين مسلك الجماع والدبر‪،‬‬
‫وقيل رفع الحاجز بين مسلك الجماع ومخرج البول‪ .‬والواقع أ‪ ،‬كل منهما إفضاء‪،‬‬
‫وفي هذا الفضاء كمال الدية‪.‬‬
‫الثالث عشر‪ :‬زوال البطش والمشي‪ ،‬فإذا ضرب يديه فشلتا وجبت الدية‬
‫كاملة‪ ،‬ولو ضرب رجليه فزال المشي وجبت الدية كاملة أيضا‪.‬‬
‫ولو ضربه فبطلت منفعة أصبع وجب دية الصبع‪ ،‬وهو عشر الدية كما‬
‫سيأتي إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫وأما إذا نقص مشيه ففي ذلك حكومة يحكم بها الحاكم بالجتهاد‪.‬‬
‫هذا ول بد من الشارة هنا أنه قد يجب على الجاني أكثر من دية‪ ،‬وذلك‬
‫فيما إذا كانت الجناية على أكثر من موضع‪.‬‬

‫القصاص‬
‫معنى القصاص‪:‬‬
‫القصاص مصدر قص يقص‪ ،‬من قص أثره إذا تتبع مواطئ أقدامه في‬
‫المسير‪ ،‬والمقصود به أن يفعل بالشخص مثل ما فعل بغيره من وجوه الذى‬
‫الجسمي‪ ،‬سواء أكان الفعل قتلً أو دونه من الضرار الجسمية‪.‬‬
‫شروط القصاص‪:‬‬
‫يشترط في القصاص بالنفس شروط أربعة وهي‪:‬‬
‫الشرط الول‪ :‬أن يكون المقتص منه مكلفا‪ ،‬أي بالغا عاقلً‪ ،‬فل قصاص‬
‫على صبي ول مجنون وإن صدر منهما ما يستوجب القصاص‪ ،‬لن البلوغ والعقل‬
‫أساس التكليف ‪ .‬والدليل على ذلك قوله عليه الصلة والسلم‪":‬رفع القلم عن ثلثة‪:‬‬
‫عن النائم حتى يستيقظ ‪ ،‬وعن الصبي حتى يعقل‪ ،‬وعن المجنون حتى يعقل أو‬
‫يفيق" (رواه أبو داود[‪ ]4399‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬في المجنون يسرق أو يصيب‬

‫‪27‬‬
‫حدا)‪ .‬ولن القصاص عقوبة مغلظة فلم يجب على الصبي والمجنون كالحدود‪،‬‬
‫ولنهم ليس لهم قصد صحيح فهم كالقاتل خطا‪ .‬والشرط أن يكون الصبا والجنون‬
‫حال فعل الجناية‪ ،‬وعلى هذا لو قتل وهو صبي ثم بلغ فل يقتص منه‪ ،‬ولو جنى‬
‫وهو مجنون ثم أفاق فل يقتص منه‪ ،‬أما لو جنى وهو عاقل ثم جن فإنه يقتص منه‬
‫ولو أثناء جنونه‪ .‬أما من قتل وهو سكران فإنه يقتص منه إذا كان متعديا بسكره‪.‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬أن ل يكون أصلً للمقتول بأن كان أبا أو أما أو جدا أو جدة‬
‫مهما عل الفرق بينهما‪ ،‬فلو قتل شخص ابنه لم يقتص من الب القاتل‪.‬‬
‫دليل ذلك‪:‬‬
‫أولً‪ :‬ما رواه الترمذي [‪ ]1399‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في الرجل يقتل‬
‫ابنه يقاد منه أم ل ؟‪ ،‬عن سراقة بن مالك رضي ال عنه‪ ،‬قال ‪ :‬حضرت رسول‬
‫يقيد الب من ابنه‪ ،‬ول يقيد البن من أبيه‪.‬‬ ‫ال‬
‫وروي الترمذي أيضا [‪ ]1401‬في الديات ‪ ،‬في نفس الباب السابق‪ ،‬عن‬
‫يقول ‪" :‬ل تقام‬ ‫عبدال بن عباس رضي ال عنهما قال‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫الحدود في المساجد‪ ،‬ول يقتل الوالد بولده"‪.‬‬
‫وروى الترميذي [‪ ]1400‬في الديات‪ ،‬في نفس الباب السابق عن عمر‬
‫يقول‪" :‬ل يقاد الوالد بالولد"‪.‬‬ ‫رضي ال عنه قال‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫وهذه الحاديث الثلثة وإن كان كل واحد منها ضعيف السند‪ ،‬إل أن بعضها‬
‫يشهد لبعض‪ ،‬فيقوي به‪ .‬ولها شاهد عند البيهقي [‪ ]8/38‬بإسناد حسن عن عمرو‬
‫بن شعيب عن أبيه عن جده‪.‬‬
‫قال الشافعي رحمه ال تعالى‪( :‬حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم‪ :‬أنه ل‬
‫يقتل الوالد بالولد‪ ،‬وبذلك أقول)‪.‬‬
‫وثانيا‪ :‬رعاية حرمة الب‪ ،‬فإنه كان سببا في وجود ابنه‪ ،‬فما ينبغي أن‬
‫يكون البن سببا في إعدام أبيه‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أن يكون المقتول معصوم الدم بإسلم‪ ،‬أو عهد ذمة‪ ،‬أو‬
‫‪:‬‬ ‫أمان‪ ،‬أما الحربي فيهدر دمه‪ ،‬وكذلك المرتد‪ ،‬فإنه حلل الدم‪ ،‬قال رسول ال‬
‫"من بدل دينه فاقتلوه" (رواه البخاري [‪ ]2854‬في الجهاد‪ ،‬باب‪ :‬قتل النساء في‬

‫‪28‬‬
‫ش ِركِينَ كَآفّةً‬
‫الحرب)‪ .‬ويدل عليه أيضا عموم قول ال تبارك وتعالى‪ ﴿ :‬وَقَا ِتلُواْ ا ْلمُ ْ‬
‫َكمَا يُقَا ِتلُو َنكُمْ كَآفّةً ﴾ ( التوبة‪ .)36 :‬فيدخل في هذا الحربي والمرتد‪.‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬التكافؤ بين القاتل والمقتول‪ ،‬وذلك بأن ل يكون المقتول‬
‫أنقص من القاتل بكفر أو رق‪ ،‬فل يقتل مسلم بكافر‪ ،‬سواء كان ذميا أو معاهدا أو‬
‫حربيا أو لم تبلغه دعوة السلم ‪ ،‬ول يقتل حر بعيد أيضا سواء كان مدبرا أو‬
‫مكاتبا أو قنأ أو مبعضا ‪.‬‬
‫ودليل ذلك ما رواه البخاري [‪ ]6507‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬العاقلة‪ ،‬عن علي‬
‫(نهى أن يقتل مسلم بكافر)‪ .‬ورواه الترميذي [‬ ‫رضي ال عنه عن رسول ال‬
‫‪ ]1412‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء ل يقتل مسلم بكافر‪ ،‬عن علي رضي ال عنه‪،‬‬
‫وأبو دواد [‪ ]4531‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬يقاد المسلم بالكافر؟ ‪ .‬وفي رواية لبي داود [‬
‫‪ " :]4517‬ل يقتل حر بعبد" ‪.‬‬
‫حرّ‬
‫عَل ْيكُمُ الْ ِقصَاصُ فِي الْ َق ْتلَى الْ ُ‬
‫وقال عز وجل‪ ﴿ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ ُك ِتبَ َ‬
‫حرّ وَا ْل َعبْدُ بِا ْل َعبْدِ ‪ ( ﴾ . . .‬سورة البقرة‪ .)78:‬فالية تفيد أن الحر ل يقتل بالعبد‬
‫بِالْ ُ‬
‫‪ .‬هذا والمعتبر في المكافأة المشروطة ساعة العدوان‪ ،‬فل عبرة بما يطرأ بعد ذلك‬
‫من تفاوت المتكافئين‪ ،‬أو تكافؤ المتفاوتين‪.‬‬

‫شرائط القصاص بالطراف‪:‬‬


‫ما مر يتعلق في القصاص بالنفس‪ ،‬أما القصاص في الطراف كاليد‬
‫والرجل والذن ونحو ذلك ؛ فيشترط منه ما ذكر في قصاص النفس دون أي‬
‫فرق‪ ،‬ويضاف إلى ما مر من الشروط الشروط التالية‪:‬‬
‫الشرط الول‪ :‬اشتراك العضو الذي يراد قطعة قصاصا‪ ،‬مع العضو الذي‬
‫قطع عدوانا في السم الخاص لكل منهما‪ ،‬بأن تقطع اليمنى واليسرى باليسرى‪،‬‬
‫والخنصر بالخنصر‪ ،‬فل يجوز يسار بيمين أو عكسه‪ ،‬ول يجوز إبهام بخنصر‪ ،‬أو‬
‫أنملة بأنملة أصبع أخرى‪ ،‬وذلك لعدم تحقق معنى القصاص‪ ،‬الذي هو التساوي‬
‫الدقيق في المر‪ .‬ول يضر تفاوت بكبر أو طول أو قوة بطش ‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬أن ل يكون بأحد الطرفين شلل مع صحة الطرف الخر‪،‬‬
‫فل تقطع صحيحة بشلء‪ ،‬وإن رضي بذلك الجاني‪ ،‬لكن يجوز قطع اليد الشلء‬
‫بصحيحة أو بما كان دونها شللً‪ ،‬لن هذه الصورة ل تضر بملحظة المساواة‬
‫التي هي أساس معنى القصاص‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أن يكون العضو الذي يراد القصاص عنه قد قطع من‬
‫مفصل كمرفق وكوع‪ ،‬أو من حدود منضبطة كأذن‪ ،‬فلو لم يكن ذلك بأن كان خدشا‬
‫أو جرحا أو قطعا ولكن من غير مفصل وحدود معروفة؛ لم يجز القصاص فيه‪،‬‬
‫لعدم إمكان التماثل الذي هو شرط أساسي في القصاص‪.‬‬
‫روى ابن ماجه [‪ ]2636‬في الديات‪ ،‬باب ما ل قود فيه عن نمران بن‬
‫ل ضرب على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل ‪،‬‬
‫جارية عن أبيه أن رج ً‬
‫‪ ،‬فأمر له بالدية‪ ،‬قال‪ :‬إني أريد القصاص‪ ،‬قال‪" :‬خذ الدية‬ ‫فاستعدي عليه النبي‬
‫بارك ال لك فيها" ولم يقض له بالقصاص‪.‬‬
‫ملحظة‪ :‬ل يكون القصاص سواء أكان في النفس أم الطرف إل بالعمد‪،‬‬
‫وأما شبه العمد والخطأ؛ فل قصاص فيه‪ ،‬بل يثبت فيه الدية‪.‬‬
‫وإن اشترك جماعة في قطع طرف من شخص قطعوا جميعا كما في‬
‫اشتراك جماعة في قتل شخص واحد‪.‬‬
‫كيفية القصاص‪:‬‬
‫الصل في القصاص أن تتحقق فيه المساواة التامة للعمل العدواني ‪ ،‬في كل‬
‫من الشكل والمضمون‪.‬‬
‫أما المساواة بينهما في المضمون فواجب أساسي ل بد منه ‪ ،‬حتى إذا لم‬
‫يمكن تحققها سقط القصاص‪ .‬فقطع العضو قصاصه قطع عضو مثله من المكان‬
‫الذي قطع‪ ،‬فإذا لم يتيسر تحقيق هذه المساواة سقط القصاص‪ ،‬اللهم إل إذا كسر‬
‫عضده وأبانه قطع من المرفق لنه أقرب مفصل إلى الجناية‪ ،‬وله حكومة الباقي‪،‬‬
‫وهكذا له القطع من كل مفصل هو أقرب إلى موضع الكسر وحكومة في الباقي‪.‬‬
‫وأما المساواة بينهما في الشكل فحق ثابت لولي المقتول‪ ،‬يطالب بتحقيقها إذا‬
‫شاء ‪ ،‬وهي أن يقتص من القاتل بنفس الداة وبنفس الطريقة اللتين مارس المعتدي‬

‫‪30‬‬
‫بهما عدوانه على المقتول‪ ،‬فإن قتل بسيف فالمساواة الشكلية هي أن يقتص منه‬
‫بالسيف‪ ،‬أو قتله برصاص أو بحرق أو بخنق؛ فمن حق ولي المقتول أن يطالب‬
‫بقتل الجاني بنفس الطريقة التي مارسها‪ ،‬وعلى الحاكم أن يستجيب لطلبه‪.‬‬
‫هذا إذا كانت الوسيلة إلى القتل مما يجوز استعماله‪ ،‬أما إذا كانت ل يجوز‬
‫استعمالها كأن قتله بسحر أو بأي عمل محرم‪ ،‬فعند ذلك ل يكون القصاص إل‬
‫بالسيف‪.‬‬
‫من يقوم بتنفيذ القصاص؟‬
‫إذا نظر الحاكم في جناية الجاني؛ قتلً كانت الجناية أو دون ذلك كالقطع‬
‫ونحوه‪ ،‬ثم حكم عليه بالقصاص؛ فلولي المقتول أن يطلب من الحاكم تمكينه من‬
‫استيفاء القصاص بنفسه‪ ،‬وعلى الحاكم أن يمكنه من ذلك‪ ،‬ليشفي ولي المقتول‬
‫غليله بالقصاص‪ .‬ويشترط لستيفاء ولي المقتول القصاص بنفسه شرطان اثنان‪:‬‬
‫الشرط الول‪ :‬أن يكون ذلك بإذن من المام‪ ،‬فلو بادر واقتص من الجاني‬
‫دون أن يستأذن المام أو الحاكم أثم‪ ،‬وعلى الحاكم أن يعزره بالعقوبة التي يراها‬
‫من حبس أو ضرب‪ ،‬ولكن ل يجوز له أن يقتص منه‪.‬‬
‫هذا إذا كان في البلدة إمام أو حاكم‪ ،‬أما إذا وقعت الجناية حيث ل يوجد‬
‫إمام أو حاكم‪ ،‬وكان بوسع ولي المقتول أن يقتص منه دون اندلع فتنة فله ذلك‪.‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬أن يكون القصاص في قتل النفس‪ ،‬فأما إذا كان في‬
‫الطراف والعضاء‪ ،‬فالصحيح أنه ل يجوز أن يستوفيها إل الحاكم بنفسه‪ ،‬أو‬
‫بنائب عنه مفوض من قبله‪ ،‬وعلة ذلك أنه ل يؤمن من مباشرة ولي المقتول لذلك‬
‫أن يقع حيف وظلم عند القتصاص من الجاني‪ ،‬بسبب جهالته بأصول القطع‬
‫وتحري المماثلة فيه‪ .‬أما القتل فل ترد فيه هذه المخاوف‪.‬‬
‫تعدد أولياء المقتول‪:‬‬
‫وإذا كان المقتول أولياء متعددون‪ ،‬وأبوا إل أن يستوفوا القصاص بأنفسهم‬
‫وجب عليهم أن يفوضوا واحدا منهم بذلك نيابة عنهم‪ ،‬فإن اختلفوا وجب المصير‬
‫إلى القرعة‪ ،‬ويقوم بتنفيذ القصاص من خرجت عليه القرعة من بينهم‪. .‬‬

‫‪31‬‬
‫هذا ول بد من البيان هنا أنه إذا كان أحد أولياء الدم غائبا ينتظر حتى‬
‫يأتي‪ ،‬وإذا كان الجاني امرأة حاملً انتظرها حتى تضع حملها وترضعه من لبنها‬
‫حتى يستطيع الستغناء عنها‪ .‬وكذلك إذا كان في الورثة صغير ينتظر حتى يبلغ‪،‬‬
‫أو كان هناك مجنون ينتظر حتى يفيق من جنونه‪ ،‬ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي‬
‫ويفيق المجنون‪.‬‬

‫الديات‬
‫معني الدية‪:‬‬
‫الدية لغة‪ :‬اسم مصدر من ودى يدي‪ ،‬وأصلها ودية على وزن فعلة‪ ،‬وهو دفع‬
‫الدية‪ .‬قال في مختار الصحاح‪ :‬والدية واحدة الديات‪ ،‬والهاء عوض عن الواو‪،‬‬
‫ووديت القتيل أدية دية‪ :‬أعطيت ديته‪ ،‬واتديت أخذت ديته‪ ،‬وإذا أمرت منه قلت‬
‫دفلنا‪ ،‬وللثنين ديا‪ ،‬وللجماعة دوا فلنا‪.‬‬
‫والدية شرعا‪ :‬اسم للمال الواجب دفعه بسبب جناية على النفس أو ما‬
‫دونها‪ ،‬وتكون من البل أصالة‪ ،‬أو قيمتها بدلً‪.‬‬
‫أنواع الدية‪:‬‬
‫تنقسم الدية من حيث نوع العدوان إلى النوعين التاليين‪:‬‬
‫أ ‪ -‬دية نفس‪ ،‬وهي التي تكون في مقابل إزهاق للنفس عدوانا‪.‬‬
‫ب – دية أطراف أو أعضاء‪ ،‬وهي التي تكون في مقابل قطع طرف أو عضو‪.‬‬
‫وتنقسم من حيث النظر إلى درجة القصد وعدمه في العدوان إلى النوعين‬
‫التاليين‪:‬‬

‫‪32‬‬
‫أ ‪ -‬دية مغلظة‪ ،‬وهي دية العمد أو شبه العمد‪.‬‬
‫ب – دية مخففة‪ ،‬وهي دية القتل الخطأ‪.‬‬
‫مقدار الدية‪:‬‬
‫الدية كما قلنا إما أن تكون في مقابل العدوان على النفس‪ ،‬أي إزهاق‬
‫الروح‪ ،‬وإما أن تكون في مقابل العدوان على ما دون ذلك من العضاء‬
‫والطراف‪ ،‬أو في مقابل ما دون ذلك أيضا ممن الجروح ونحوها‪.‬‬
‫دية النفس‪:‬‬
‫لقد ذكرنا فيما مضى أنواع القتل وهي‪ :‬العمد ‪ ،‬وشبه العمد‪ ،‬والقتل الخطأ‪.‬‬
‫وهذه النواع الثلثة ديتها مائة من البل‪ ،‬إل أن دفعها إلى أولياء القتيل يختلف من‬
‫حيث الكيف‪ ،‬ول يختلف من حيث الكم‪ ،‬وإليك بيان ذل‪::‬‬
‫أولً‪ :‬دية العمد‪:‬‬
‫الصل في القتل العمد القصاص‪ ،‬وبما أن القصاص من حق أولياء القتيل‪،‬‬
‫فلهم أن يعفوا عن القصاص إلى الدية‪ ،‬فإن عفوا إلى الدية‪ ،‬وجب أن تكون الدية‬
‫مقسمة على ثلثة أنواع‪ :‬ثلثون حقة‪ ،‬وهي ما لها ثلث سنوات ودخلت في‬
‫الرابعة‪ ،‬وثلثون جذعة‪ ،‬وهي ما لها أربع سنوات وطعنت في الخامسة‪ ،‬وأربعون‬
‫خلفة‪ ،‬أي حوامل‪.‬‬
‫فان لم يكن هناك إبل‪ ،‬وجب أن تدفع قيمتها بالغة ما بلغت‪ ،‬ويجب أن تكون‬
‫في مال الجاني‪ ،‬وتكون معجلة غير مؤجلة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬دية شبه التعمد‪:‬‬
‫وهي مائة من إبل كما قلنا‪ ،‬وتقسم أثلثا‪ :‬ثلثون حقة‪ ،‬وثلثون جذعة‪،‬‬
‫وأربعون خلفة‪ ،‬والفرق بين العمد وشبه العمد‪ ،‬أن الدية في العمد على الجاني‪ ،‬أما‬
‫دية شبه العمد فهي على العاقلة‪ .‬وتدفع على ثلث سنوات‪ ،‬في كل سنة ثلث الدية‪.‬‬
‫والعاقلة هم عصبة الجاني ما عدا الصول والفروع‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬دية القتل الخطأ‪:‬‬
‫وهي مائة من البل مقسمة على خمسة أنواع‪ :‬عشرون بنت مخاض‪ ،‬وهي‬
‫ما لها سنة ودخلت في الثانية‪ ،‬وعشرون بنت لبون‪ ،‬وهي ما لها سنتان ودخلت في‬

‫‪33‬‬
‫الثانية‪ ،‬وعشرون ابن لبون‪ ،‬وعشرون حقة‪ ،‬وعشرون جذعة‪ .‬وهي أيضا على‬
‫العاقلة‪ ،‬وموزعة على ثلث سنوات‪.‬‬
‫العفو عن الدية‪:‬‬
‫هذا ول بد من البيان هنا أن الدية بما أنها حق لولياء القتيل فلهم العفو‬
‫عنها كلً أو جزءا‪ ،‬لن ال تعالى شرعها حقا للعبد‪ ،‬وتسوية للعلقات النسانية أن‬
‫ل يتهددها الضغائن والحقاد‪ ،‬فإذا عفا صاحب الحق عن حقه؛ فذلك هو الفضل‪،‬‬
‫حرّ‬
‫حرّ بِالْ ُ‬
‫عَل ْيكُمُ الْ ِقصَاصُ فِي الْ َق ْتلَى الْ ُ‬
‫قال ال تعالى‪ ﴿ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ ُك ِتبَ َ‬
‫شيْءٌ فَا ّتبَاعٌ بِا ْل َم ْعرُوفِ َوأَدَاء‬
‫وَا ْل َعبْدُ بِا ْل َعبْدِ وَالُنثَى بِالُنثَى َفمَنْ عُ ِفيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫عتَدَى َبعْدَ َذِلكَ َفلَهُ عَذَابٌ َألِيمٌ ‪.‬‬
‫حمَةٌ َفمَنِ ا ْ‬
‫ِإَليْهِ بِإِحْسَانٍ َذِلكَ تَخْفِيفٌ مّن ّر ّبكُمْ َورَ ْ‬
‫ل ْلبَابِ َل َعّلكُمْ َتتّقُونَ ﴾ ( سورة البقرة‪– 178:‬‬
‫حيَاةٌ يَاْ أُوِليْ ا َ‬
‫َوَلكُمْ فِي الْقِصَاصِ َ‬
‫‪.) 179‬‬
‫ن اللّهَ ِبمَا‬
‫س ُواْ الْ َفضْلَ َب ْي َنكُمْ إِ ّ‬
‫وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬وأَن َتعْفُواْ أَ ْق َربُ لِلتّ ْقوَى وَلَ تَن َ‬
‫َت ْع َملُونَ َبصِيرٌ ﴾ ( سورة البقرة‪.) 237 :‬‬
‫دية العضاء والطراف‪:‬‬
‫في مقدار الدية ينظر إلى خطورة العضو المقطوع وأهميته‪ ،‬وهي بالنظر‬
‫إلى ذلك إما أن تكون دية كاملة‪ ،‬أو بعضا من الدية‪.‬‬
‫فأما وجوب الدية كاملة فتثبت في قطع كلتا اليدين من مفصليهما‪،‬‬
‫والرجلين‪ ،‬والنف‪ ،‬أي قطع ما لن منه وهو المنخران والحاجز بينهما‪ ،‬والنثيين‪،‬‬
‫والعينين‪ ،‬والجفون الربعة‪ ،‬واللسان‪ ،‬والشفتين‪ ،‬وقد مر بك إذهاب منافع العضاء‬
‫وحكم ذلك‪.‬‬
‫كتب‬ ‫عن أبي بكر بن محمد عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي‬
‫إلى أهل اليمن وفيه‪ " :‬أن من اعتبط مؤمنا قتلً عن بينة‪ ،‬فإنه قود إل أن يرضى‬
‫أولياء المقتول‪ ،‬وإن في النفس الدية مائة من البل ‪ ،‬وفي النف إذا أوعب جدعه‬
‫الدية‪ ،‬وفي اللسان الدية‪ ،‬وفي الشفتين الدية‪ ،‬وفي الذكر الدية‪ ،‬وفي البيضتين الدية‪،‬‬
‫وفي الصلب الدية‪ ،‬وفي العينين الدية‪ ،‬وفي الرجل الواحدة نصف الدية‪ ،‬وفي‬
‫المأمومة ثلث الدية‪ ،‬وفي الجائفة ثلث الدية‪ ،‬وفي المنقلة خمس عشرة من البل‪،‬‬

‫‪34‬‬
‫وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من البل‪ ،‬وفي السن خمس من‬
‫البل‪ ،‬وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من البل‪ ،‬وفي السن خمس‬
‫من البل‪ ،‬وفي الموضحة خمس من البل‪ ،‬وإن الرجل يقتل بالمرأة’‪ ،‬وعلى أهل‬
‫الذهب ألف دينار" ( سنن النسائي [‪ ]8/57‬كتاب القسامة‪ ،‬باب‪ :‬ذكر حديث عمرو‬
‫بن حزم في العقول واختلف الناقلين له‪ ،‬مسند المام أحمد [‪ ]2/217‬عن عمرو‬
‫بن شعيب عن أبيه عن جده عبدال بن عمرو بن العاص رضي ال عنهما)‪.‬‬
‫وأما وجوب بعض الدية فما ذكر بعضه في الحديث النف الذكر‪ ،‬فاليد‬
‫الواحدة‪ ،‬والرجل الواحدة‪ ،‬والعين الواحدة‪ ،‬والذن الواحدة‪ ،‬والجفنان ‪ ،‬في كل‬
‫واحد كما ذكر نصف الدية خمسون من البل‪ .‬وفي كل أصبع من أصابع اليدين‬
‫والرجلين عشر من البل‪ ،‬كما مر‪ .‬وفي كل جفن ربع الدية خمسة وعشرون من‬
‫البل‪ .‬وفي الموضحة خمس من البل‪ ،‬وفي قلع السن الواحدة الصلية الثابتة‬
‫خمس من البل أيضا ‪ .‬وأما دية الجروح ونحوها مما ل ضابط له‪ ،‬كقطع عضو‬
‫ل منفعة فيه‪ ،‬مثل اليد الزائدة ففي ذلك حكومة كما مر ‪.‬‬
‫معنى الحكومة ‪:‬‬
‫لقد مر بنا أن بعض الجنايات يترتب عليها حكومة‪ ،‬فما هي الحكومة؟‬
‫الحكومة‪ :‬هي جزء من الدية يدفع للمجني عليه‪ ،‬وتقدير هذا الجزء يكون‬
‫بأن يقوم المجني عليه بتقديره رقيقا بصفاته التي هو عليها‪ ،‬ويقوم بعد الندمال مع‬
‫الجناية‪ ،‬فما نقص ممن ذلك وجب بقسطه من الدية‪ ،‬لن الجملة مضمونة بجميع‬
‫الدية‪ ،‬فتضمن الجزاء بالجزاء‪.‬‬
‫فلو كانت قيمته قبل الجناية مائة‪ ،‬فيقال‪ :‬كم قيمته بعد الجناية؟ فإذا قيل‬
‫تسعون‪ ،‬فالتفاوت العشر‪ ،‬فيجب عشر دية النفس ‪ ،‬وهو عشر من البل‪ ،‬إذا كان‬
‫المجني عليه بلغت نقص القاضي منها شيئا‪ ،‬وإن لم يكن مقدرا اشترط أن ل يبلغ‬
‫بها مبلغ دية النفس‪.‬‬
‫وإنما سمي ذلك حكومة لستقرارها بحكم الحاكم دون غيره‪ ،‬حتى لو اجتهد‬
‫غيره بذلك لم يكن له أثر‪.‬‬
‫دية المرأة‪:‬‬

‫‪35‬‬
‫إن دية المرأة في كل ما ذكر على النصف من دية الرجل‪ ،‬سواء أكان ذلك‬
‫في دية النفس أم كان ذلك في دية العضاء والطراف‪ ،‬أم كان في الجروح‬
‫والمنافع‪.‬‬
‫دليل ذلك‪ :‬حديث البيهقي [‪ ]8/95‬في الديات‪ ،‬باب ما جاء في دية المرأة‪:‬‬
‫"دية المرأة نصف دية الرجل" ‪.‬‬
‫وعن ابن شهاب وعن مكحول وعطاء قالوا ‪( :‬أدركنا الناس على أن دية‬
‫مائة من البل‪ ،‬فقوم عمر بن الخطاب تلك‬ ‫المسلم الحر على عهد رسول ال‬
‫الدية على أهل القرى ألف دينار‪ ،‬أو اثني عشر ألف درهم‪ ،‬ودية الحرة المسلمة إذا‬
‫كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلف درهم‪ ،‬فإذا كان الذي أصابها‬
‫من العراب فديتها خمسون من البل ‪ ،‬ل يكلف العرابي الذهب ول الورق)‬
‫( سنن البيهقي [‪ ]8/95‬كتاب الديات‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في دية المرأة‪ ،‬عن معاذ بن‬
‫جبل رضي ال عنه)‪ .‬والحكمة في كون دية المرأة نصف دية الرجل‪ ،‬أن الدية‬
‫منفعة مالية‪ ،‬والشرع قد اعتبر المنافع المالية بالنسبة للمرأة على النصف من‬
‫الرجل‪ ،‬كالميراث مثلً‪ ،‬وهذا عدل يتلءم مع واقع كل من الرجل والمرأة‬
‫وطبيعتهما‪.‬‬
‫دية الجنين‪:‬‬
‫الجنين هو الحمل الذي في بطن الم قبل الولدة‪ ،‬إذا بدأ بمرحلة التصور‬
‫والتخلق‪ ،‬فإن جنى الجاني على جنين حر مسلم سواء أكان ذكرا أو أنثى‪ ،‬بأن‬
‫ضرب بطن الم فانفصل الجنين ميتا بسبب الجناية على أمه‪ ،‬وجب على الجاني‬
‫غرة‪ ،‬وهي عبد أو أمة‪ ،‬أو نصف عشر الدية‪ ،‬وهي خمس من البل‪ ،‬فإن لم يجد‬
‫البل وجب دفع قيمتها‪ ،‬وقيل يدفع خمسين دينارا ‪.‬‬
‫قضى في الجنين بغرة‪.‬‬ ‫ودليل وجوب دية الجنين ما رواه الشيخان أنه‬
‫(رواه البخاري [‪ ]6511‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬جنين المرأة؛ ورواه مسلم [‪ ]1681‬في‬
‫القسامة‪ ،‬باب‪ :‬دية الجنين)‪.‬‬
‫[والغرة‪ :‬عبد أو أمة تساوي قيمته نصف عشر الدية‪ ،‬وهو خمس من‬
‫البل]‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫وفي البخاري أن أبا هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬اقتتلت امرأتان من هذيل‬
‫فرمت إحداهما الخرى بحجر قتلتها وما في بطنها‪ ،‬فاختصموا إلى النبي‬
‫فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة‪ ،‬وقضى دية المرأة على عاقلتها‪ ( .‬رواه‬
‫البخاري [‪ ]6511‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬جنين المرأة)‪.‬‬
‫وفي البخاري أيضا [‪ ]6509‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬جنين المرأة‪ ،‬عن المغيرة بن‬
‫شعبة عن رضي ال عنه‪ :‬أنه استشارهم في إملص المرأة فقال المغيرة‪ :‬قضي‬
‫بالغرة عبد أو أمة‪ ،‬قال‪ :‬ائت من يشهد معك‪ ،‬فشهد محمد بن مسلمة أن‬ ‫النبي‬
‫قضى به‪.‬‬ ‫النبي‬
‫وعن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬اقتتلت امرأتان من هذيل‪ ،‬فرمت‬
‫فقضى‬ ‫إحداهما الخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها‪ ،‬فاختصموا إلى رسول ال‬
‫أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة‪ ،‬وقضى بدية المرأة على عاقلتها‪،‬‬ ‫رسول ال‬
‫وورثها ولدها ومن معهم‪ .‬فقال حمل بن النابغة الهذلي‪ :‬يا رسول ال كيف أغرم‬
‫‪:‬‬ ‫من ل شرب ول أكل ول نطق ول استهل؟ فمثل ذلك يطل‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫"إنما هذا من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع‪( .‬أخرجه البخاري [‪]5426‬‬
‫في الطب‪ ،‬باب‪ :‬الكهانة؛ ومسلم [‪ ]1681‬في القسام‪ ،‬باب‪ :‬دية الجنين )‪.‬‬
‫وقد مر بك أن عمر رضي ال عنه قوم الدية بألف دينار‪ ،‬فيكون نصف‬
‫عشر الدية مساويا لخمسين دينارا‪.‬‬
‫ومثل الضرب التخويف والرعاب‪ ،‬فقد ورد أن عمر بن الخطاب استدعى‬
‫امرأة فخافت‪ ،‬وكانت حاملً فأسقطت منم الخوف‪ ،‬فاستشار الصحابة في ذلك‪،‬‬
‫فأفتاه بعضهم بأنه ل يجب عليه شيء وقال له‪ :‬أنت مؤدب‪ ،‬ولكن علي بن أبي‬
‫طالب أفتاه بوجوب الدية فعمل عمر برأي علي رضي ال عنهما‪ .‬وإذا فعلت الم‬
‫بنفسها ما سبب موت الجنين‪ ،‬بأن تناولت بعض الدوية المسقطة للجنين من غير‬
‫ضرورة وجب عليها نصف عشر الدية تدفعه لورثته‪ ،‬ول تشترك معهم فيه لنها‬
‫قاتلة والقاتل ل يرث‪ .‬وكذلك الطبيب الذي يسقط الجنين من غير ضرورة‪.‬‬
‫هذا ول بد من البيان أنه يجب إلى جانب الدية الكفارة كما سيأتي ‪.‬‬
‫شروط وجوب دية الجنين‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫يشترط لوجوب الدية في الجنين شروط هي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬أن تكون الجناية مما يؤثر في الجنين كضرب وإيجار دواء ونحوهما‪،‬‬
‫ول أثر للطمة خفيفة ونحوها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬النفصال ‪ ،‬فلو ماتت الم ولم ينفصل جنين على الضارب شيء من‬
‫دية الجنين‪ .‬ويعد النفصال بانفصال جزء منه لتحقق وجوده‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬كون المنفصل ميتا‪ ،‬فلو انفصل حيا نظر‪ ،‬فإن بقي سالما زمانا غير‬
‫متألم ثم مات فل ضمان على الضارب‪ ،‬لن الظاهر أنه مات بسبب آخر‪ ،‬وإن‬
‫مات عند خروجه أو بقي متألما حتى مات؛ وجبت فيه دية كاملة لنا تيقنا حياته‪،‬‬
‫فأشبه سائر الحياء‪ ،‬وسواء استهل أو وجد ما يدل على حياته كتنفس وامتصاص‬
‫ثدي وحركة قوية‪.‬‬
‫ولو انفصل ميتا بعد موت الم من الضرب وجبت دية الجنين‪.‬‬

‫دية الكتابي‪:‬‬
‫الكتابي هو اليهودي والنصراني‪ ،‬فإذا كان الكتابي معصوم الدم بذمة أو‬
‫عهد أو أمان فقتل فديته ثلث دية المسلم في النفس فما دونها‪.‬‬
‫ودليل ذلك ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن عمرو بن شعيب عن أبيه‬
‫" فرض على كل مسلم قتل رجلً من أهل الكتاب أربعة آلف‬ ‫عن جده أنه‬
‫درهم" وقد كانت مقدرة إذ ذاك بثلث كامل دية المسلم‪ .‬وقد روي ذلك عن عمر‬
‫وعثمان‪.‬‬
‫وروى الشافعي في الم [‪ ]6/92‬قال‪ :‬قضى عمر بن الخطاب وعثمان بن‬
‫عفان رضي ال عنهما في دية اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم‪ ،‬وانظر‪ :‬سنن‬
‫أبي داود [‪.]4542‬‬
‫ومما يجب أن يعلم أن العدوان على الذمي حرام ‪ ،‬وهو معصية كبيرة‪،‬‬
‫روي الترمذي [‪ ]1403‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء فيمن يقتل نفسا معاهدة عن أبي‬
‫قال‪ " :‬أل من قتل نفسا معاهدة له ذمة ال‬ ‫هريرة رضي ال عنه عن النبي‬

‫‪38‬‬
‫وذمة رسوله فقد أخفر بذمة ال فل يرح رائحة الجنة‪ ،‬وإن ريحها ليوجد من‬
‫مسيرة سبعين خريفا" ‪.‬‬
‫[أخفر ذمة ال‪ :‬نقض عهده‪ ،‬وغدر به]‪.‬‬
‫دية المجوسي‪:‬‬
‫ودية المجوسي وكذلك الوثني المستأمن ثلثا عشر دية المسلم وهي تساوي‬
‫‪ 1/15‬من دية المسلم‪ ،‬وهي تساوي أيضا ثمانمائة درهم من اثني عشر ألف درهم‪،‬‬
‫وذلك لما روي عن عمر أنه قال‪ :‬دية اليهودي والنصراني أربعة آلف‪ ،‬ودية‬
‫المجوسي ثمانمائة درهم‪.‬‬
‫قال الشافعي في الم [‪ ]6/92‬وقضى عمر في دية المجوسي بثمانمائة‬
‫درهم‪ .‬وذلك ثلثا عشر دية المسلم‪ ،‬لنه كان يقول‪ :‬تقوم الدية اثني عشر ألف‬
‫درهم‪ .‬وروي مثل ذلك عن عثمان وابن مسعود‪ ،‬وانتشر ذلك في الصحابة‪ ،‬فكان‬
‫إجماعا ‪ ( .‬تكملة المجموع‪.]17/375[ :‬‬

‫بم يثبت موجب القصاص؟‬


‫إنما يثبت موجب القصاص بأحد أمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬القرار فإذا أقر الشخص بما يوجب قصاصا ثبت القصاص في‬
‫حقه‪ ،‬سواء أكان موجب القصاص قتلً أو جرحا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬البينة‪ ،‬وذلك يكون بشهادة عدلين ذكرين‪ ،‬ول يكتفي في ذلك بشهادة‬
‫رجل وامرأتين‪.‬‬
‫بم يثبت موجب المال؟‬
‫يثبت موجب المال بأمور‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬القرار فإن أقر بقتل شبه عمد أو خطأ أو جرح ل قصاص فيه ثبت‬
‫ذلك في حقه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬شهادة عدلين ذكرين كما سبق‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬شهادة رجل وامرأتين‪ ،‬لن النساء تقبل شهادتهن في الموال ويكون‬
‫شهادة امرأتين تقوم مقام شهادة عدل واحد‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫الرابع‪ :‬شهادة رجل ويمين المدعي‪ ،‬وذلك لن الرسول علية الصلة‬
‫والسلم قضي بيمين وشاهد‪( .‬رواه مسلم [‪ ]1712‬في القضية‪ ،‬باب‪ :‬القضاء‬
‫باليمين والشاهد‪ ،‬عن ابن عباس رضي ال عنهما)‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬علم القاضي فإذا علم القاضي بذلك جاز حكمه وثبت على‬
‫المدعي عليه ما يستحق من المال‪.‬‬

‫أحكام القسامة‬

‫معنى القسامة‪ :‬بفتح القاف‪ :‬اسم لليمان التي تقسم على أولياء الدم‪،‬‬
‫مأخوذة من القسم وهو اليمين‪ ،‬وقيل تطلق على الولياء أنفسهم‪.‬‬
‫والمقصود بها هنا خمسون يمينا يقسمها ولي المقتول عندما يتهم شخصا‬
‫بقتله‪ ،‬مع وجود قرينة ما تقرب احتمال صدقه‪ ،‬أو يقسمها المدعي عليه عندما ل‬
‫يكون ثمة قرينة لتهامه‪.‬‬
‫وقد كانت القسامة معروفة في الجاهلية‪ ،‬وأول من قضى بها الوليد بن‬
‫المغيرة‪ ،‬ثم جاء السلم فأقرها بقيود وضوابط وشروط نبينها فيما يلي‪:‬‬
‫دليل تشريع القسامة‪:‬‬
‫القسامة واردة على خلف الصل‪ ،‬إذ الصل أن تكون البينة على المدعي‬
‫واليمين على من أنكر‪ ،‬كما جاء في الحديث "البينة على المدعي‪ ،‬واليمين على‬
‫المدعى عليه"‪ .‬روى البخاري [‪ ]4277‬في التفسير‪ ،‬باب‪ :‬اليمين على المدعي‬
‫قال‪" :‬لو يعطى الناس‬ ‫عليه‪ ،‬عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬أن النبي‬
‫بدعواهم لدعى ناس دماء رجال وأموالهم‪ ،‬ولكن اليمين على المدعى عليه"‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫وروى مسلم [‪ ]138‬في اليمان‪ ،‬باب‪ :‬وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين‬
‫فاجرة بالنار‪ ،‬عن الشعث بن قيس رضي ال عنه‪ ،‬قال ‪ :‬كان بيني وبين رجل‬
‫‪ ،‬فقال‪" :‬هل لك بين’"؟ فقلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪:‬‬ ‫أرض باليمن‪ ،‬فخاصمته إلى النبي‬
‫"فيمينه"‪ ،‬وفي رواية‪" :‬شاهداك أو يمينه"‪.‬‬
‫والدليل الذي اقتضي التخصيص ما رواه البخاري ومسلم عن رافع بن‬
‫خديج وسهل بن أبي حثمة أنهما حدثا أن عبدال بن سهل ومحيصة بن مسعود أتيا‬
‫خيبر فتفرقا في النخل‪ ،‬فقتل عبدال بن سهل‪ ،‬فجاء عبدالرحمن بن سهل وخويصة‬
‫فتكلموا في أمر صاحبهم‪ ،‬فبدأ عبدالرحمن‬ ‫ومحيصة ابنا مسعود إلى النبي‬
‫‪ " :‬كبر الكبر" قال يحيى ‪ :‬يعني ليل الكلم‬ ‫وكان أصغر القوم‪ ،‬فقال له النبي‬
‫‪" :‬أتستحقون قتيلكم أو قال‬ ‫الكبر‪ ،‬فتكلموا في أمر صاحبهم‪ ،‬فقال النبي‬
‫صاحبكم بأيمان خمسين منهم؟" قالوا‪ :‬يا رسول ال قوم كفار‪ ،‬ففداهم رسول ال‬
‫من قبله‪ ،‬قال سهل‪ :‬فأدركت ناقة من تلك البل فدخلت مربدا لهم فركضتني‬
‫برجلها‪(.‬رواه البخاري [‪ ]5791‬في الدب‪ ،‬باب إكرام الكبير؛ ومسلم [‪ ]1669‬في‬
‫القسامة‪ ،‬باب‪ :‬القسامة)‪.‬‬
‫ولهذا الحديث روايات أخرى وألفاظ أخري ولكنها كلها تتفق على غرض‬
‫واحد‪.‬‬
‫فكان هذا الحديث مخصصا لعموم قوله عليه الصلة والسلم‪" :‬البينة على‬
‫في دعوى الدم العتماد على أيمان المدعي‪ ،‬إن لم‬ ‫المدعي ‪ ". .‬فقد أجاز النبي‬
‫يكن معه بينة‪ ،‬وكان ثمة لوث يقوي دليل التهام‪.‬‬
‫كيفية القسامة‪:‬‬
‫يثبت حكم القسامة في ظل المور التالية‪:‬‬
‫أول‪ :‬أن يوجد قتيل في مكان‪ ،‬ولم يتيسر معرفة قاتله بيقين‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن يدعي أولياؤه أن رجلً معينا أو جماعة معينة قتلوه‪ ،‬وليس مع‬
‫أوليائه بينة تثبت صحة دعواهم‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أن يكون هناك لوث (أي قرينة) يقرب احتمال الصدق في دعوى‬
‫أولياء المقتول‪ ،‬كأن وجد قتيلً بين أعدائه وليس فيهم غيرهم‪ ،‬أو وجد على ثوب‬

‫‪41‬‬
‫المتهم رشاش دم‪ ،‬أو عثر في يده على سكين ملوثة بالدم‪ ،‬أو اجتمع قوم في بيت‬
‫أو صحراء وتفرقوا عن قتيل‪ ،‬أو شهد عدل واحد أن فلنا قتله‪ ،‬أو قاله جماعة من‬
‫العبيد والنسوان جاؤوا متفرقين بحيث يؤمن تواطؤهم على الكذب أو نحو ذلك من‬
‫أمارات وعلمات يغلب على القلب صدق المدعي بما ادعاه ‪.‬‬
‫فعندئذ يستغني عن البينة التي يطالب بها المدعي‪ ،‬بأن يحلف خمسين يمينا‬
‫أن هذا هو القاتل‪ ،‬أو هؤلء هم القتلة لفلن‪ ،‬يسمي كلً باسمه أو يشير إليه باسم‬
‫الشارة‪.‬‬
‫فإذا حلف المدعي ـ وهو ولي المقتول ـ هذه اليمان استحق الدية من‬
‫المدعى عليه‪ ،‬وكانت هذه اليمان بمثابة البينة‪.‬‬
‫وإذا كان للقتيل أولياء متعددون يرثون منه‪ ،‬واتهموا شخصا أو جماعة‬
‫بالقتل ووجد لوث يؤيدهم في اتهامهم ؛ اشتركوا جميعا في الحلف ووزعت اليمان‬
‫بينهم على حسب ميراثهم من المقتول‪ ،‬لن ما يثبت بأيمانهم من الدية يوزع‬
‫عليهم‪ ،‬فوجب على كل منهم من اليمان بقدر نسبة ما يرثه من المقتول‪.‬‬
‫فأما إن اتهم ولي المقتول شخصا أو جماعة‪ ،‬ولم يكن هناك لوث يرجح‬
‫صدق المدعي في اتهامه؛ فاليمين تحول إلى المدعى عليه ـ أي المتهم ـ عملً‬
‫بالفقرة الثانية من قاعدة "البينة على المدعى واليمين على من أنكر" ‪ .‬فيحلف‬
‫المدعى عليه خمسين يمينا أنه لم يقتل فلنا‪ ،‬ويسميه باسمه أو يشير إليه معبرا‬
‫عنه باسم الشارة ‪.‬‬
‫فإن حلف اليمان برئت ساحته‪ ،‬وإن لم يحلف أعيدت اليمان إلى المدعى‬
‫فحلفها بدلً عنه‪ ،‬واستحق بذلك الدية ‪.‬‬
‫وعلى المدعى وهو يحلف أن يبين نوع القتل هل كان خطأ أو عمدا أو شبه‬
‫عمد‪ ،‬فإن لم يبين ذلك لم يعتد بأيمانه‪.‬‬
‫ول يثبت بالقسامة القصاص‪ ،‬لقيام نوع من الشبهة فيها‪ ،‬بل تثبت بها الدية‪،‬‬
‫فإن كان القتل عمدا استحقها المدعي في مال المدعى عليه‪ ،‬وإن كان القتل خطا أو‬
‫شبه عمد استحقها المدعى على عاقلة المدعى عليه‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫كفارة القتل‬
‫حكمها ودليله‪:‬‬
‫يجب على قاتل النفس المحرمة ولو جنينا‪ ،‬كفارة لحق ال عز وجل‪ ،‬سواء‬
‫أكان القاتل عمدا أو خطأ أو شبه عمد‪ ،‬وسواء عفي عن الدية المستحقة عليه أم‬
‫ل ‪ ،‬وسواء كان القاتل صبيا أو مجنونا أو راشدا‪.‬‬
‫حرِيرُ رَ َقبَةٍ ّم ْؤ ِمنَةٍ وَ ِديَةٌ‬
‫دليل وجوبها قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ومَن َقتَلَ ُم ْؤمِنا خَطَئا َفتَ ْ‬
‫حرِيرُ رَ َقبَةٍ‬
‫سّلمَةٌ ِإلَى أَ ْهلِهِ إِلّ أَن َيصّدّقُواْ فَإِن كَانَ مِن َقوْمٍ عَ ُدوّ ّلكُمْ وَ ُهوَ ْم ْؤمِنٌ َفتَ ْ‬
‫مّ َ‬
‫حرِيرُ رَ َقبَةٍ‬
‫سّلمَةٌ ِإلَى أَ ْهلِهِ َوتَ ْ‬
‫ّم ْؤ ِمنَةٍ َوإِن كَانَ مِن َقوْمٍ َب ْي َنكُمْ َو َب ْي َنهُمْ مّيثَاقٌ فَ ِديَةٌ مّ َ‬
‫حكِيما‬
‫علِيما َ‬
‫ن اللّهِ َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫ش ْه َريْنِ ُم َتتَا ِب َعيْنِ َت ْوبَةً مّ َ‬
‫صيَامُ َ‬
‫ّم ْؤ ِمنَةً َفمَن لّمْ يَجِدْ َف ِ‬
‫﴾ ( سورة النساء‪.)92 :‬‬
‫ولخبر أبي داود [‪ ]3964‬في العتق‪ ،‬باب‪ :‬في ثواب العتق‪ ،‬وصححه الحاكم‬
‫في صاحب لنا قد استوجب النار‬ ‫وغيره عن واثلة بن السقع قال‪ :‬أتينا النبي‬
‫بالقتل‪ ،‬فقال‪" :‬أعتقوا عنه رقبة يعتق ال بكل عضو منها عضو منها عضوا من‬
‫النار"‪ .‬فدل هذا الحديث على أن الكفارة تجب في القتل العمد‪ ،‬لنه ل يستوجب‬
‫القاتل النار إل إذا كان عامدا‪ ،‬أخذا من قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ومَن يَ ْقتُلْ ُم ْؤمِنا ّم َت َعمّدا‬
‫عَليْهِ َوَل َعنَهُ َوأَعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما ﴾ ( سورة‬
‫ضبَ اللّهُ َ‬
‫غ ِ‬
‫ج َهنّمُ خَالِدا فِيهَا وَ َ‬
‫جزَآ ُؤهُ َ‬
‫فَ َ‬
‫النساء‪.)93 :‬‬

‫‪43‬‬
‫وإذا دلت الية السابقة على وجوب الكفارة على قاتل الخطأ فمن الولى أن‬
‫تجب على قاتل العمد وشبهه‪ ،‬لن الكفارة للجبر وهؤلء أحوج إليها‪.‬‬
‫كيفية كفارة القتل‪:‬‬
‫يجب على القاتل عتق رقبة مؤمنة تفضل عن كفايته من تلزمه نفقته كما‬
‫نصت الية النفة الذكر‪ ،‬ويشترط في هذه الرقبة أن تكون سليمة من العيوب‪ ،‬كما‬
‫في كفارة الظهار‪.‬‬
‫فإن لم يتمكن من عتق رقبة لفقره أو لعدم وجود رقيق وجب عليه أن‬
‫ش ْه َريْنِ‬
‫صيَامُ َ‬
‫يصوم شهرين متتابعين‪ ،‬أخذا من الية السابقة‪َ ﴿ :‬فمَن لّمْ يَجِدْ َف ِ‬
‫ن اللّهِ ﴾ ‪.‬‬
‫ُم َتتَا ِب َعيْنِ َت ْوبَةً مّ َ‬
‫فإن عجز عن صيام شهرين لمرض‪ ،‬بقيت الكفارة متعلقة بذمته حتى وجود‬
‫القدرة على واحد مما سبق‪ ،‬ول ينتقل عند العجز إلى الطعام‪ ،‬كما ينتقل في كفارة‬
‫الفطار بالجماع في نهار رمضان‪ ،‬وكما ينتقل أيضا في كفارة الظهار‪ ،‬لن ذلك‬
‫قياس‪ ،‬والقياس غير جائز في الكفارات ‪.‬‬
‫ملحظة‪ :‬ل تجب الكفارة على قاتل الباغي والصائل‪ ،‬لنها ل يضمنان‬
‫فأشبها الحربي والمرتد والزاني المحصن‪ ،‬وكذلك ل تجب على قتل من يقتص منه‬
‫لنه مباح الدم بالنسبة إليه‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫الحدود‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫لقد كرم ال النسان ‪ ،‬وفضله على كثير ممن خلق تفضيلً‪ .‬قال ال‬
‫ط ّيبَاتِ‬
‫حرِ َو َرزَ ْقنَاهُم مّنَ ال ّ‬
‫ح َم ْلنَاهُمْ فِي ا ْل َبرّ وَا ْلبَ ْ‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬ولَقَدْ َك ّر ْمنَا َبنِي آدَمَ وَ َ‬
‫خلَ ْقنَا تَ ْفضِيلً ﴾ ( سورة السراء‪. ) 70:‬‬
‫علَى َكثِيرٍ ّممّنْ َ‬
‫ض ْلنَاهُمْ َ‬
‫وَ َف ّ‬
‫ومن مظاهر هذا التكريم أنه أقامه خليفة في إعمار هذه الرض‪ ،‬قال‬
‫جعَلُ فِيهَا مَن‬
‫خلِيفَةً قَالُواْ َأتَ ْ‬
‫لرْضِ َ‬
‫ل ِئكَةِ ِإنّي جَاعِلٌ فِي ا َ‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬وإِذْ قَالَ َر ّبكَ ِل ْلمَ َ‬
‫علَمُ مَا لَ‬
‫حمْ ِدكَ َونُقَ ّدسُ َلكَ قَالَ ِإنّي أَ ْ‬
‫سبّحُ بِ َ‬
‫يُفْسِدُ فِيهَا َويَسْ ِفكُ ال ّدمَاء َونَحْنُ نُ َ‬
‫ل ِئفَ‬
‫ج َعَلكُمْ خَ َ‬
‫َت ْعَلمُونَ﴾ ( سورة البقرة‪ . ) 30 :‬وقال جل وعز‪ ﴿ :‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫ضكُمْ َفوْقَ َبعْضٍ َدرَجَاتٍ ّل َي ْبلُ َوكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ ( سورة النعام‪:‬‬
‫لرْضِ َورَفَعَ َب ْع َ‬
‫اَ‬
‫س َتغْ ِفرُوهُ ثُمّ تُوبُواْ ِإَليْهِ‬
‫س َت ْع َم َركُمْ فِيهَا فَا ْ‬
‫لرْضِ وَا ْ‬
‫‪ُ ﴿ .) 165‬هوَ أَنشََأكُم مّنَ ا َ‬
‫﴾ (سورة هود‪.) 61 :‬‬
‫هذا الستخلف ل يتحقق ول يتم إل بتأمين المصالح لبني النسان ودرء‬
‫المفاسد عنهم‪ ،‬ول يكون هذا إل بالمحافظة على الضروريات الخمس التي هي‪:‬‬
‫الدين والنفس والعقل والنسل والمال‪ ،‬التي هي ضرورية لبقاء هذا النوع النساني‬
‫على ظهر الرض‪ ،‬وقيامه بالمهمة التي وكلها ال إليه‪.‬‬
‫والدين السلمي جاء للمحافظة على هذه الضروريات الخمس ولدرء‬
‫المفاسد عنها‪ ،‬ومن هنا قالوا‪ :‬السلم جاء لجلب المصالح ودرء المفاسد‪ ،‬فشرع‬
‫لذلك التشريعات‪ ،‬ومن هذه التشريعات الحدود والتعزيرات أقامها لكل من تسول له‬
‫نفسه العتداء على هذه الضروريات الخمس‪ .‬وإليك بيان هذه الحدود والتعزيرات‪،‬‬
‫وبيان حرص السلم على إقامتها كي يحقق لبني النسان السعادة المنشودة‪.‬‬
‫أقسام العقوبات‪:‬‬

‫‪45‬‬
‫تنقسم العقوبات إلى قسمين‪ :‬حدود وتعزيرات‪.‬‬
‫تعريف الحد‪ :‬الحد عقوبة مقدرة من قبل الشارع‪ ،‬فل يجوز الزيادة عليها‬
‫باسم الحد ول النقصان منها‪.‬‬
‫تعريف التعزير‪ :‬التعزير عقوبة غير محددة من قبل الشارع‪ ،‬بل هي‬
‫متروكة لرأي الحاكم‪ ،‬وسنتحدث عن التعزير إن شاء ال عقيب النتهاء من‬
‫الحديث عن الحدود‪.‬‬
‫الحدود المفروضة ‪:‬‬
‫العقوبات المقدرة التي هي الحدود ستة وهي‪ :‬حد الزنى ـ حد القذف ـ حد‬
‫السرقة ـ حد شرب المسكر ـ حد الحرابة ـ حد الردة‪.‬‬

‫حد الزنى‬
‫أنواع الزنى ‪:‬‬

‫‪46‬‬
‫الزاني إما أن يكون مدفوعا إلى الفاحشة‪ ،‬بشبهة مسوغ شرعي‪ ،‬أو مدفوعا‬
‫إليها بمحض رعونة ورغبة‪ ،‬وكل منهما إما أن يكون محصنا أو غير محصن‪،‬‬
‫فالنواع إذا أربعة‪.‬‬
‫أما المدفوع إلى الزنى بشبهة مسوغ شرعي‪ ،‬كأن ظنها زوجته فتبين أنها‬
‫أجنبية‪ ،‬أو توهم أ‪،‬ها خلية أو غير محرم له فعقد نكاحه عليها‪ ،‬فتبين فيما بعد أنها‬
‫ليست خلية‪ ،‬بل هي على عصمة زوج‪ ،‬أو تبين أنها أخته في الرضاع‪.‬‬
‫فحكم الزنى في هذه الحال أن ل يستلزم إثما لصاحب الشبهة ول يستوجب‬
‫حدا‪ ،‬سواء أكان الفاعل محصنا أو غير محصن‪ ،‬لمكان الشبه في ذلك ‪ ،‬إل أنه‬
‫يترتب على فعله آثار وأحكام قضائية تذكر في مكان آخر إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫وهناك صور للشبهة تستلزم الثم ولكنها ل تستوجب الحد‪.‬‬
‫وأما المدفوع إلى الفاحشة برغبة ل شبهة فيها‪ ،‬فينظر في وضعه‪ ،‬وهو أنه‬
‫أما أن يكون محصنا أو غير محصن‪.‬‬
‫فأما المحصن فهو من توافرت فيه الصفات التالية‪:‬‬
‫‪ – 1‬أن يكون مكلفا‪ ،‬أي بالغا عاقلً‪ ،‬فل تنطبق صفة الحصان على الصبي ولو‬
‫كان مميزا‪ ،‬ول على المجنون جنونا مطبقا‪ ،‬وأما إن كان جنونه متقطعا‪ ،‬وفعل‬
‫ذلك في حال الصحو فيدخل في نطاق التكليف‪.‬‬
‫‪ – 2‬أن يكون حرا‪ ،‬وأما العبد فينصف في حقه الجلد‪ ،‬كما سيأتي سواء أكان‬
‫محصنا أم غير محصن‪.‬‬
‫‪ – 3‬وجود الوطء منه في نكاح صحيح‪ ،‬سواء أكان له زوجة عند الزنى أم لم‬
‫يكن‪.‬‬
‫أما لو مارس الوطء بشكل غير مشروع فل يعد محصنا‪.‬‬
‫فإذا وجدت فيه هذه الصفات الثلث طبق عليه حكم الزاني المحصن‪.‬‬
‫وهذه الصفات تنطبق على الناث كما تنطبق على الذكور‪.‬‬
‫وأما غير المحصن‪ ،‬فهو من لم تتكامل فيه هذه الصفات‪ ،‬بأن كان غير‬
‫مكلف‪ ،‬أو لم يمارس الجماع بطريقه المشروع بناءً على عقد صحيح‪ ،‬كما مر ذلك‬
‫آنفا‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫حكم كل من هذه النواع‪:‬‬
‫لقد مر بك آنفا أن الزنى الذي يتم بسبب شبهة مسوغ شرعي‪ ،‬ل يستوجب‬
‫الحد‪ ،‬وقد ل يستلزم الثم أيضا‪ ،‬سواء كان الزاني محصنا أم غير محصن‪.‬‬
‫أمام من لم يكن فعله مستندا إلى شبهة‪ ،‬فهو يستلزم الثم ويستوجب الحد‪،‬‬
‫ويختلف الحد على حسب صفة الزاني بالنظر إلى وجود الحصان وعدمه‪ ،‬ويكون‬
‫الحد على ما يلي‪:‬‬
‫حد الزاني المحصن‪:‬‬
‫إذا ثبتت صفة الحصان بالنسبة للزاني‪ ،‬طبق في حقه حد الزاني المحصن‪،‬‬
‫قولً وفعلً‪ ،‬كما‬ ‫وهو‪ :‬الرجم بالحجارة حتى الموت‪ .‬ثبت ذلك عن رسول ال‬
‫ثبت أن هذا الحكم كان متلوا في القرآن ثم نسخت تلوته‪.‬‬
‫روى الشيخان عن عمر رضي ال عنه أنه خطب فقال‪ ( :‬إن ال بعث‬
‫محمدا بالحق‪ ،‬وأنزل عليه الكتاب‪ ،‬فكان فيما أنزل ال عليه آية الرجم‪ ،‬قرأناها‬
‫ورجمنا بعده‪ ،‬فأخشى إن طال بالناس‬ ‫ووعيناها وعقلناها‪ ،‬فرجم رسول ال‬
‫زمان أن يقول قائل‪ :‬ما نجد الرجم في كتاب ال‪ ،‬فيضلوا بترك فريضة أنزلها ال‪،‬‬
‫وإن الرجم حق في كتاب ال على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء‪ ،‬إذا‬
‫قامت البينة أو كان الحبل أو العتراف) (رواه البخاري [‪ ]6442‬في المحاربين ‪،‬‬
‫باب‪ :‬رجم الحبلى في الزنى إذا أحصنت؛ ومسلم [‪ ]1691‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬رجم‬
‫الثيب في الزنى)‪.‬‬
‫والية التي نسخت تلوتها هي‪" :‬الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة‬
‫نكالً من ال وال عزيز حكيم"‪.‬‬
‫وروى البخاري [‪ ]6430‬في المحاربين‪ ،‬باب‪ :‬ل يرجم المجنون‪.‬‬
‫والمجنونة؛ ومسلم [‪ ]1691‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬من اعترف على نفسه بالزنى‪ ،‬عن‬
‫وهو في‬ ‫أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬أتى رجل من المسلمين رسول ال‬
‫المسجد فناداه فقال ‪ :‬يا رسول ال إني زنيت‪ ،‬فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه‬
‫أربع مرات‪ ،‬فقال‪" :‬أبك جنون"؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪" :‬فهل أحصنت"؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‬
‫النبي صلي ال عليه وآله وسلم‪" :‬اذهبوا به فارجموه"‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫وفي مسلم [‪ ]1696‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬من اعترف على نفسه بالزنى‪ ،‬عن‬
‫وهي حبلى‬ ‫عمران بن حصين رضي ال عنهما‪ :‬أن امرأة من جهينة أتت النبي‬
‫وليها‬ ‫من الزنى‪ ،‬فقالت‪ :‬يانبي ال أصبت حدا فأقمه علي‪ ،‬فدعا رسول ال‬
‫فقال‪" :‬أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها"‪ ،‬ففعل فأمر بها فشكت عليها ثيابها‪ ،‬ثم‬
‫أمر بها فرجمت ثم صلى عليها‪ ،‬فقال عمر‪ :‬أتصلي عليها يا نبي ال وقد زنت؟!‬
‫فقال‪" :‬لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لو سعتهم‪ ،‬وهل وجدت‬
‫أفضل من أن جادت بنفسها ل؟"‪.‬‬
‫حد الزاني غير المحصن‪:‬‬
‫إذا زنى شخص وهو غير محصن بالمعنى الذي سبق ذكره أقيم عليه الحد‪ ،‬وحد‬
‫غير المحصن مائة جلدة وتغريب عام‪.‬‬
‫أما جلده مائة جلدة فقد ثبت بالقرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬الزّا ِنيَةُ وَالزّانِي‬
‫ن اللّهِ إِن كُنتُمْ‬
‫جلْ َدةٍ َولَا تَأْخُ ْذكُم ِب ِهمَا َرأْفَةٌ فِي دِي ِ‬
‫جلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ ّم ْن ُهمَا ِمئَةَ َ‬
‫فَا ْ‬
‫شهَدْ عَذَا َب ُهمَا طَائِفَةٌ مّنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ ( سورة النور‪:‬‬
‫خرِ َو ْليَ ْ‬
‫ُت ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَا ْل َيوْمِ الْآ ِ‬
‫‪. )2‬‬
‫التي ذكره‪.‬‬ ‫وكذلك ثبتت بحديث رسول ال‬
‫الثابتة الصحيحة‪.‬‬ ‫وأما تغريب العام فقد ثبت في أحاديث رسول ال‬
‫روي مسلم [‪ ]1690‬في الحدود باب‪ :‬حد الزني؛ عن عبادة بن الصامت‬
‫‪ " :‬خذوا عني‪ ،‬خذوا عني‪ ،‬فقد جعل ال‬ ‫رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال‬
‫لهن سبيلً‪ ،‬البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة‪ ،‬والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"‪.‬‬
‫وروى البخاري [‪ ]6467‬في المحاربين‪ ،‬باب‪ :‬هل يأمر المام رجلً‬
‫فيضرب الحد غائبا عنه؛ ومسلم [‪ ]1697‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬من اعترف على نفسه‬
‫بالزنى‪ ،‬عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي ال عنهما‪ :‬أن رجلً من‬
‫فقال‪ :‬يا رسول ال أنشدك ال إل قضيت لي بكتاب‬ ‫العراب أتى رسول ال‬
‫ال‪ ،‬فقال الخر ـ وهو أفقه منه ـ‪ :‬نعم فاقض بيننا بكتاب ال وأذن لي‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"قل"‪ .‬قال‪ :‬إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته‪ ،‬وإني أخبرت أن على ابني‬
‫الرجم‪ ،‬فافتديت منه بمائة شاة ووليدة‪ ،‬فسألت أهل العلم فأخبروني أن علي ابني‬

‫‪49‬‬
‫‪" :‬والذي‬ ‫جلد مائة وتغريب عام‪ ،‬وأن على امرأة هذا الرجم‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫نفسي بيده لقضين بينكما بكتاب ال‪ ،‬الوليدة والغنم رد عليك ‪ ،‬وعلى ابنك جلد‬
‫مائة وتغريب عام‪ ،‬واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"‪.‬‬
‫وقد غرب عمر رضي ال عنه إلى الشام‪ ،‬وغرب عثمان رضي ال عنه‬
‫إلى مصر‪ ،‬وغرب علي رضي ال عنه إلى البصرة‪ ،‬ولم ينكر عليهم أحد فكان‬
‫ذلك إجماعا‪.‬‬
‫وروى الترمذي [‪ ]1438‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في النفي‪ ،‬عن ابن عمر‬
‫ضرب وغرب‪ ،‬وأن أبا بكر ضرب وغرب‪ ،‬وأن‬ ‫رضي ال عنهما‪" :‬أن النبي‬
‫عمر ضرب وغرب" ‪.‬‬
‫والتغريب يكون بحكم القاضي‪ ،‬فلو تغرب بنفسه عاما كاملً لم يكف‪ ،‬ولو‬
‫كان التغريب إلى ما دون مسافة القصر لم يكف أيضا‪.‬‬
‫ويستوي كل من الرجل والمرأة في وجوب التغريب ‪ ،‬غير أنه يشترط في‬
‫تغريب المرأة أن يكون معها محرم‪ ،‬فلو لم يوجد المحرم لم يجز تغريبها‪ ،‬لن‬
‫المرأة ل يجوز أن تسافر إل ومعها ذو محرم‪.‬‬
‫شروط إقامة الحد‪:‬‬
‫ل بد لقامة الحد على المحصن وغيره‪ ،‬من توافر الشروط التالية‪:‬‬
‫الشرط الول‪ :‬التكليف‪ ،‬وهو أن يكون الزاني بالغا عاقلً‪ ،‬فل يحد غير‬
‫المكلف من صبي وفاقد العقل‪ ،‬أما السكران فإن كان متعمدا في سكره جرى عليه‬
‫حكم التكليف‪ ،‬وطبق في حقه الحد إذا توافرت فيه الشروط الخرى‪ ،‬وأما إذا كان‬
‫غير معتمد بسكره‪ ،‬كأن شرب مسكرا يظنه ماء فسكر‪ ،‬فهذا يعد الن غير مكلف‪.‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬عدم الكراه‪ ،‬فلو أكره أو أكرهت على الزنى‪ ،‬بأن هدد أو‬
‫هددت بالقتل‪ ،‬فقام بهذا المر؛ لم يقم عليه حد‪ ،‬لما جاء في الحديث‪" :‬رفع عن‬
‫أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "‪ .‬رواه ابن ماجه [‪ ]2045‬في الطلق‬
‫باب‪ :‬طلق المكره والناسي عن ابن عباس‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬خلو الزنى عن شبهة مسوغ شرعي‪ ،‬فل حد على الزنى‬
‫الذي وقع في ظروف شبهة‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫مثاله‪ :‬أن يجد على فراشه امرأة فيظنها زوجته‪ ،‬فيطأها ثم يتبين أنها‬
‫أجنبية‪ ،‬أو أن يعقد نكاحه على فتاة بل شهود ثم يجامعها؛ إذ يوجد من العلماء من‬
‫لم يشترط الشهود في النكاح‪ ،‬وهذا مثل للشبهة التي تستلزم إثما‪ ،‬ولكنها ل‬
‫تستوجب حدا‪ ،‬أما الثم فل تباعه القول الشاذ الذي ل سند له‪ ،‬بل الدليل قائم على‬
‫اشتراط الشهود في العقد‪ ،‬إذ يقول عليه الصلة والسلم‪" :‬ل نكاح إل بولي‬
‫وشاهدي عدل" (رواه ابن حبان [‪ .)]1247‬وأما الشبهة فترجيحا لجانب المعذرة‬
‫للجاني‪ ،‬وعملً بقوله عليه الصلة والسلم‪" :‬ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما‬
‫استطعتم" (رواه الترمذي [‪ ]1424‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في درء الحدود‪ ،‬عن‬
‫عائشة رضي ال عنها)‪.‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬ثبوت الزنى إما بإقراره أو بقيام بينة‪.‬‬
‫أما القرار فينبغي أن يقر الزاني بعمله بعبارة واضحة جازمة ل تقبل‬
‫احتمالً‪ ،‬ويكفي عند ذلك إقرار واحد‪ ،‬ول يشترط تكرار القرار‪ ،‬فإن رجع عن‬
‫القرار سقط عنه الحد‪ ،‬وبطل إقراره‪.‬‬
‫رجم ماعزا والغامدية بإقرارهما‪( .‬أخرجه مسلم [‬ ‫دليل ذلك أن النبي‬
‫‪ ]1695‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬من اعترف على نفسه بالزنى)‪.‬‬
‫ودليل صحة الرجوع عن القرار‪ ،‬وسقوط الحد بالرجوع عنه أنه‬
‫عرض لماعز بالرجوع عن القرار‪.‬‬
‫روى البخاري [‪ ]6438‬في المحاربين‪ ،‬باب‪ :‬هل يقول المام للمقر‪ :‬لعلك‬
‫لمست أو غمزت‪ ،‬عن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪ :‬لما أتى ماعز بن مالك‬
‫قال له‪" :‬لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت"‪ ،‬قال ‪ :‬ل يا رسول ال‪.‬‬ ‫إلى النبي‬
‫فلو لم يسقط الحد بالرجوع عن القرار؛ لما كان لهذا القول أي معنى‪.‬‬
‫وأما البينة فهي شهادة أربعة رجال عدول على الزنى‪ ،‬بتعبير صريح غير‬
‫قابل للحتمال‪ ،‬مع تعيين المكان الذي جرى فيه‪ ،‬واتفاقهم جميعا عليه‪ ،‬فلو لم‬
‫يذكروا المكان‪ ،‬أو اختلفوا في تعيينه لم تثبت البينة ويقام الحد على هؤلء الشهود‪،‬‬
‫حد القذف الذي يأتي الحديث عنه‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫لتِي يَ ْأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن‬
‫والدليل على اشتراط شهود أربعة قوله تعالى‪ ﴿ :‬وَال ّ‬
‫عَل ْيهِنّ َأ ْربَعةً مّنكُمْ ﴾ ( سورة النساء‪ ،)15:‬وقوله تعالى‪َ﴿ :‬ل ْولَا‬
‫شهِدُواْ َ‬
‫ستَ ْ‬
‫نّسَآ ِئكُمْ فَا ْ‬
‫شهَدَاء فَُأ ْوَل ِئكَ عِن َد اللّهِ هُمُ ا ْلكَا ِذبُونَ‬
‫شهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَ ْأتُوا بِال ّ‬
‫عَليْهِ بَِأ ْر َبعَةِ ُ‬
‫جَاؤُوا َ‬
‫﴾ (سورة النور‪.)13 :‬‬
‫حد المة والرقيق‪:‬‬
‫إذ زنت المة أو العبد وثبت ذلك في حقهما أقيم عليهما الحد‪ ،‬وحد المة‬
‫والعبد خمسون جلدة وتغريب نصف عام‪ ،‬سواء كانا محصنين أم غير محصنين‪،‬‬
‫صفُ مَا‬
‫حصِنّ فَإِنْ َأ َتيْنَ بِفَاحِشَةٍ َف َعَل ْيهِنّ ِن ْ‬
‫وذلك لقوله تعالى في حق الماء‪ ﴿ :‬فَإِذَا أُ ْ‬
‫صنَاتِ مِنَ ا ْلعَذَابِ ﴾ ( سورة النساء‪ )25:‬وقيس العبد على المة في ذلك‬
‫ح َ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫َ‬
‫بجامع الرق فيهما‪.‬‬
‫حكم ما يتبع الزنى اللواط ونحوه‪:‬‬
‫اللواط هو التيان في الدبر‪ ،‬سواء أكان المأتي ذكرا أم أنثى‪ ،‬والصحيح من‬
‫المذهب أن حكمه حكم الزنى‪ ،‬بالنسبة إلى الفاعل‪ ،‬فإن قامت البينة أو أقر‪ ،‬فإن‬
‫كان محصنا رجم حتى الموت‪ ،‬وإن كان غير محصن جلد مائة جلدة‪ ،‬وغرب عن‬
‫بلده عاما كاملً‪.‬‬
‫ودليل ذلك العموم في قوله تعالى‪ ﴿ :‬وَلَ تَ ْق َربُواْ الزّنَى ِإنّهُ كَانَ فَاحِشَةً‬
‫سبَ َقكُم ِبهَا‬
‫سبِيلً ﴾‪ .‬مع قوله سبحانه في عمل لوط ‪َ ﴿ :‬أتَ ْأتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا َ‬
‫وَسَاء َ‬
‫مِنْ أَحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ ﴾ ( سورة العراف‪.)80 :‬‬
‫وقد ورد في الحديث تسمية من يفعل ذلك زانيا‪ .‬فقد روى البيهقي [‪]8/233‬‬
‫قال‪" :‬إذا أتى‬ ‫في الحدود‪ ،‬باب ما جاء في حد اللوطي عن أبي موسى أن النبي‬
‫الرجل فهما زانيان"‪.‬‬
‫أما المفعول به غير الزوجة فيجلد ويغرب كالبكر وإن كان محصنا‪ ،‬سواء‬
‫أكان ذكرا أم أنثى‪ ،‬لن المحل ل يتصور فيه إحصان‪ .‬وقيل ترجم المرأة‬
‫المحصنة‪.‬‬
‫وفي قول للشافعي أن من يفعل ذلك يقتل‪ ،‬أخذا من الحديث الذي رواه‬
‫قال‪" :‬من وجدتموه‬ ‫أصحاب السنن عن ابن عباس رضي ال عنهما أن النبي‬

‫‪52‬‬
‫يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (أخرجه الترمذي [‪ ]1456‬في‬
‫الحدود‪ ،‬باب‪ :‬في حد اللواط؛ وأبو داود [‪ ]2561‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬من عمل عمل‬
‫قوم لوط)‪.‬‬
‫وهناك رأي لغير الشافعية أنه يحرق بالنار لما أخرجه البيهقي "أنه اجتمع‬
‫على تحريق الفاعل والمفعول به" (سنن البيهقي [‬ ‫رأي أصحاب رسول ال‬
‫‪ ]8/233‬كتاب الحدود‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في حد اللوطي)‪.‬‬
‫وقال الحافظ المنذري‪ :‬حرق اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء‪ :‬أبو بكر‬
‫الصديق‪ ،‬وعلي بن أبي طالب‪ ،‬وعبد ال بن الزبير‪ ،‬وهشام بن عبد الملك‬
‫(الترغيب والترهيب [‪.)]3/289‬‬
‫هذا وأما إتيان الزوجة في الدبر فهو حرام ومنم الكبائر لما ورد فيه من‬
‫الحاديث الكثيرة التي تلعن من يفعل ذلك‪:‬‬
‫فمن هذه الحاديث التي وردت في التنفير من ذلك ما روي عن أبي هريرة‬
‫قال‪" :‬ل ينظر ال إلى رجل جامع امرأته في دبرها"‬ ‫وابن عباس عن النبي‬
‫(أخرجه الترمذي [ ‪ ]1176‬في الرضاع‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في كراهية إتيان النساء في‬
‫أدبارهن)‪.‬‬
‫قال‪" :‬من أتي حائضا في فرجها أو‬ ‫وما روي عن أبي هريرة عن النبي‬
‫امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد" (أخرجه الترمذي [‪]135‬‬
‫في الطهارة‪ ،‬باب‪ :‬في كراهية إتيان الحائض)‪.‬‬
‫قال‪" :‬ملعون من أتى‬ ‫وما روي عن أبي هريرة أيضا أن رسول ال‬
‫امرأة في دبرها" ( أخرجه أبو داود [‪ ]2162‬في النكاح‪ ،‬باب‪ :‬جامع النكاح)‪.‬‬
‫لكن إن فعل ذلك مع زوجته وارتكب هذا المحرم عزره القاضي بما يراه‬
‫مناسبا من العقوبات المختلفة‪ ،‬بشرط أن ل تصل إلى أدنى الحدود المقررة‪ .‬ودليل‬
‫ذلك ما رواه البيهقي [‪ ]8/327‬عن النعمان بن بشير رضي ال عنهما‪ ،‬قال‪ :‬قال‬
‫‪" :‬من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين"‪.‬‬ ‫رسول ال‬
‫حكم إتيان البهائم‪:‬‬

‫‪53‬‬
‫من أتى بهيمة‪ ,‬فإنه يعزر‪ ،‬ول حد عليه على القول الراجح في الذهب‪ ،‬لن‬
‫فعله مما ل يشتهى عند أصحاب الذواق السليمة‪ ،‬بل هو مما ينفر منه الطبع‬
‫الصحيح ول تميل إليه النفس السليمة‪ ،‬فل يحتاج إلى زجر‪ ،‬والحد إنما شرع زجرا‬
‫للنفوس عن مقاربة ما يشتهى طبعا على وجه غير مشروع‪.‬‬
‫والتعزير إنما هو عقوبة غير مقدرة‪ ،‬يفرضها القاضي المسلم العادل حسبما‬
‫يراه رادعا لمثل هؤلء عن مثل هذه الدنايا‪ ،‬من ضرب أو نفي أو حبس أو توبيخ‪،‬‬
‫لنه فعل معصية ل حد لها ول كفارة‪ ،‬وإذا انتفي الحد وجب التعزير‪.‬‬
‫روى الترمذي [‪ ]1455‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء فيمن يقع على البهيمة؛‬
‫وأبو داود [‪ ]4465‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬فيمن أتى بهيمة‪ ،‬عن ابن عباس رضي ال‬
‫عنهما قال‪( :‬ليس على يأتي البهيمة حد)‪.‬‬
‫ممن يتولى إقامة الحد‪:‬‬
‫إنما يستوفي الحد المام أو نائبه‪ ،‬ول يتولى ذلك أحد غير ما ذكر‪ ،‬إل‬
‫الرقيق ذكرا كان أو أثنى فللسيد إقامة الحد عليهما‪ ،‬وذلك لما ورد في الحديث عن‬
‫يقول‪" :‬إذا زنت أمة أحدكم‬ ‫أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫فتبين زناها فليجلدها الحد ول يثرب عليها‪ ،‬ثم إن زنت فليجلدها الحد ول يثرب‬
‫عليها‪ ،‬ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر"‪( .‬أخرجه‬
‫الترمذي [‪ ]2045‬في البيوع‪ ،‬باب‪ :‬بيع العبد الزاني؛ ومسلم [‪ ]1703‬في الحدود‪،‬‬
‫باب‪ :‬رجم اليهود أهل الذمة في الزنى)‪.‬‬
‫‪" :‬أقيموا الحدود على‬ ‫وعن علي رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال‬
‫أرقائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن"‪( .‬رواه مسلم [‪ ]1705‬في الحدود‪ ،‬باب‪:‬‬
‫تأخير الحد عن النفساء؛ والترمذي [‪ ]1441‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في إقامة‬
‫الحد على الماء)‪.‬‬
‫إقامة الحد على الضعيف‪:‬‬
‫إذا استحق الزاني الرجم وكان ضعيفا أو مريضا أو كان هناك حر أو برد‬
‫مفرطان ل يؤخر الرجم‪ ،‬لن النفس مستوفاة ‪ ،‬ول فرق بينه وبين الصحيح‪ .‬وأما‬
‫إن كان مستحقا للجلد فيؤخر إلى أن يقوي أو يذهب الحر أو البرد‪ ،‬لكن إذا جلد‬

‫‪54‬‬
‫المام في هذه الحالة فمات المجلود فل ضمان عليه‪ ،‬لن التلف حصل من واجب‬
‫أقيم عليه‪.‬‬
‫ويجلد الضعيف بعثكال عليه مائة غصن‪ ،‬فإن كان به خمسون غصنا‬
‫ضرب به مرتين‪ ،‬وتمسه الغصان‪ ،‬أو ينكبس بعضها على بعض ليناله بعض‬
‫اللم‪ ،‬أو يضرب بالنعال أو بالثياب‪.‬‬
‫فقد روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن ماجه عن سعيد بن سعد بن عبادة‬
‫رضي ال عنهما قال‪ :‬كان بين أبياتنا رويجل ضعيف فخبث بأمة من إمائهم‪ ،‬فذكر‬
‫فقال‪" :‬اضربوه حده"‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول ال إنه أضعف من‬ ‫ذلك سعد لرسول ال‬
‫ذلك‪ ،‬قال‪" :‬خذوا عثكالً فيه مائة شمراخ ثم اضربوه ضربة واحدة‪ ،‬ففعلوا"‪( .‬سنن‬
‫أبي داود [‪ ]4472‬كتاب الحدود‪ ،‬باب‪ :‬في إقامة الحد على المريض؛ سنن ابن‬
‫ماجه [‪ ]2574‬كتاب الحدود‪ ،‬باب‪ :‬الكبير والمريض يجب عليه الحد؛ مسند المام‬
‫أحمد [‪ ،]5/212‬عن سعيد بن سعد بن عبادة رضي ال عنهما)‪.‬‬
‫كيفية الرجم‪:‬‬
‫يستحب أن يحفر للمرأة حفرة إن ثبت زناها ببينة‪ ،‬وأما إن كان ثبت زناها‬
‫بإقرار فل يحفر لها كي تتمكن من الهرب إن رجعت عن القرار‪.‬‬
‫أما الرجل فل يحفر له حفرة‪.‬‬
‫وجميع بدن المحصن محل للرجم‪ :‬المقاتل وغيرها‪ ،‬ولكن يختار أن يتوقى‬
‫الوجه‪ ،‬لورود بعض الحاديث بتجنبه‪.‬‬
‫ويكون موقف الرامي بحيث ل يبعد عنه فيخطئه‪ ،‬ول يدنو منه فيؤلمه‪.‬‬
‫والولي لمن حضره أن يشارك في رجمه إن ثبت زناه ببينة‪ ،‬وأن يمسك إن رجم‬
‫بالقرار‪ ،‬ويجب أن تستر عورة الرجل وجميع بدن الحرة عند الرجم‪ ،‬ول يربط‬
‫ول يقيد‪.‬‬
‫ويكون الرجم بمدر أي طين متحجر‪ ،‬وبحجارة معتدلة أي ملء الكف ل‬
‫بحصيات خفيفة لئل يطول تعذيبه‪ ،‬ول بصخرات تذففه وتجهز عليه‪ ،‬فيفوت‬
‫التنكيل المقصود‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫ويستحب حضور المام وشهود الزنى‪ ،‬وحضور جمع من المسلمين‬
‫شهَدْ عَذَا َب ُهمَا طَائِفَةٌ مّنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ ( سورة النور‪:‬‬
‫الحرار‪ ،‬لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ْليَ ْ‬
‫‪.)2‬‬
‫والسنة أن يبدأ المام بالرجم ثم الناس إن ثبت الزنى بالقرار‪ ،‬فإن ثبت‬
‫بالبينة فالسنة أن يبدأ الشهود بالرجم ثم المام ثم الناس‪ ،‬وتعرض عليه التوبة ـ‬
‫كما قال الماوردي ـ قبل رجمه‪ ،‬لتكون خاتمة أمره‪ ،‬وإن حضر وقت صلة أمره‬
‫بها‪ ،‬وإن أراد التطوع مكنه من صلة ركعتين‪ ،‬وإن استسقى ماء سقي ‪ ،‬وإن‬
‫استطعم لم يطعم‪ ،‬لن الشرب لعطش سابق‪ ،‬والكل لشبع مستقبل‪.‬‬

‫حد القذف‬

‫لقد ذكرنا فيما مضى أن السلم حريص على صيانة الضروريات الخمس‪،‬‬
‫وهي‪ :‬حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال‪ .‬ولذلك شرع الحدود والعقوبة‬
‫لمن يريد أن يعتدي على واحدة منها‪ ،‬ومن الحدود التي شرعها السلم صيانة‬
‫للعرض ومحافظة على النسب عقوبة القذف‪ ،‬فما القذف وما عقوبته؟ إليك بيان‬
‫ذلك فيما يلي‪:‬‬
‫معنى القذف في اللغة‪:‬‬

‫‪56‬‬
‫القذف في اللغة معناه الرمي‪ ،‬ومنه قذف الحجارة وقذف الجمار‪ ،‬قال في‬
‫مختار الصحاح‪ :‬القذف بالحجارة الرمي بها‪.‬‬
‫معنى القذف في اصطلح الشرع‪:‬‬
‫القذف في الشرع هو الرمي بالزنى في معرض الشتم والتعيير‪ ،‬والمقصود‬
‫بقولنا‪ :‬في معرض الشتم والتعيير‪ ،‬إخراج كلم الطبيب مثلً عندما يفحص حال‬
‫فتاة‪ ،‬فيقرر أنها قد مارست الزنى‪ ،‬وإخراج الشهادة بالزنى‪ ،‬فل حد في ذلك‪ ،‬إل‬
‫أن يشهد به دون أربعة من الشهود‪ ،‬فيحدون كما سيأتي‪.‬‬
‫حكم القذف‪:‬‬
‫يحرم على المسلم أن يرمي أخاه المسلم بالفاحشة‪ ،‬سواء كان صادقا عند‬
‫نفسه في اتهامه أم كاذبا‪ ،‬أما في حالة الكذب فلنه بهتان وظلم‪ ،‬والكذب من أقبح‬
‫المحرمات‪ ،‬وأما في حالة كونه صادقا عند نفسه فلنه كشف للسرار‪ ،‬وهتك‬
‫للعراض‪ ،‬وفضح لما أمره ال بالستر عليه‪ ،‬إذا انزلقت نفسه في فاحشة أو‬
‫معصية‪ ،‬ونشر لمقالة السوء في المجتمع‪.‬‬
‫ولهذا عد الشرع الشريف القذف من الكبائر فقال عليه الصلة والسلم‪" :‬‬
‫اجتنبوا السبع الموبقات‪ :‬الشرك بال‪ ،‬والسحر‪ ،‬وقتل النفس التي حرم ال إل‬
‫بالحق‪ ،‬وأكل الربا‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬والتولي يوم الزحف‪ ،‬وقذف المحصنات‬
‫المؤمنات الغافلت"‪( .‬أخرجه البخاري [‪ ]2615‬في الوصايا‪ ،‬باب‪ :‬قول ال تعالى‪:‬‬
‫إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما؛ ومسلم [‪ ]89‬في اليمان‪ ،‬باب‪ :‬تحريم‬
‫الكبائر؛ وأبو داود [‪ ]2874‬في الوصايا‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في التشديد في أكل مال‬
‫اليتيم؛ والنسائي [‪ ]6/257‬في الوصايا‪ ،‬باب‪ :‬اجتناب أكل مال اليتيم)‪.‬‬
‫حد القذف ودليله‪:‬‬
‫الحد في الشرع هو عقوبة مقدرة‪ ،‬وجبت حقا ل كحد الزنى‪ ،‬أو حقا لدمي‬
‫كحد القذف‪.‬‬
‫وحد القذف إذا استوفى شروطه‪ :‬ثمانون جلدة ‪ ،‬وكذلك إسقاط شهادته ‪ ،‬إل‬
‫صنَاتِ ثُمّ لَمْ يَ ْأتُوا‬
‫ح َ‬
‫إذا تاب فتعود إليه شهادته‪ .‬قال ال تعالى‪ ﴿ :‬وَالّذِينَ َي ْرمُونَ ا ْلمُ ْ‬

‫‪57‬‬
‫شهَا َدةً َأبَدا َوُأ ْوَل ِئكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‬
‫جلْ َدةً َولَا تَ ْق َبلُوا َلهُمْ َ‬
‫جلِدُوهُمْ َثمَانِينَ َ‬
‫شهَدَاء فَا ْ‬
‫بَِأ ْر َبعَةِ ُ‬
‫ن اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ ﴾ (سورة النور‪.)5-4:‬‬
‫صلَحُوا فَإِ ّ‬
‫‪ِ.‬إلّا الّذِينَ تَابُوا مِن َبعْدِ َذِلكَ َوأَ ْ‬
‫شروط حد القذف‪:‬‬
‫ل يقام حد القذف على القاذف إل بعشرة شروط‪ ،‬خمسة منها يجب أن‬
‫تتحقق في القاذف‪ ،‬وخمسة منها يجب أن تتحقق في المقذوف‪.‬‬
‫•الشروط الخمسة في القاذف هي‪:‬‬
‫الول‪ :‬البلوغ‪ ،‬فل يقام حد على من دون البلوغ‪ ،‬لنه غير مكلف لحديث‪" :‬رفع‬
‫القلم عن ثلثة‪ :‬عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ‪ ،‬وعن النائم حتى‬
‫يستيقظ‪ ،‬وعن الصبي حتى يحتلم"‪( .‬رواه أبو داود [‪ ]4399‬في الحدود‪ ،‬باب‪:‬‬
‫في المجنون يسرق أو يصيب حدا‪ ،‬عن ابن عباس رضي ال عنهما)‪.‬‬
‫وأما إذا كان مميزا فيعزر‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬العقل‪ ،‬فل يقام الحد على قاذف مجنون‪ ،‬لنه رفع القلم عنه كما‬
‫مر في الحديث السابق‪ ،‬والحكمة من عدم إقامة الحد على الصبي والمجنون أنه‬
‫ل إيذاء في قذفهما‪ .‬وأما السكران المتعدي بسكره فهو كالمكلف ‪ ،‬فإنه يقام‬
‫عليه الحد‪.‬‬
‫ل للمقذوف‪ ،‬كالب والجد مهما ارتفع‪ ،‬وكالم‬
‫الثالث‪ :‬أن ل يكون أص ً‬
‫والجدة مهما علت‪ ،‬فل يحد هؤلء بقذف الولد وإن سفل‪ ،‬كما أنهم ل يقتلون به‬
‫كما مر ذلك في مبحث الجنايات‪ ،‬وكذلك ل يحدون بقذف من ورثه الولد‪ ،‬ولم‬
‫يشاركه فيه غيره‪ ،‬كما لو قذف امرأة له منها ولد ثم ماتت‪ ،‬لنه إذا لم يثبت له‬
‫ابتداء لم يثبت له انتهاء كالقصاص‪.‬‬
‫أما لو كان لها ولد من غيره‪ ،‬فإنه ل يسقط عنه حد القذف‪ ،‬وحيث قلنا‬
‫إنه ل يجب فيحقه حد القذف‪ ،‬ل يسقط ذلك عنه عقوبة التعزير‪ ،‬بل يعزر بما‬
‫يراه الحاكم عقوبة لذلك‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن يكون مختارا‪ ،‬فل حد على من أكره على القذف‪ ،‬لقوله عليه‬
‫الصلة والسلم‪" :‬رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه|‪( .‬سنن‬
‫ابن ماجه [‪ ]2045-2043‬الطلق‪ ،‬باب‪ :‬طلق المكره والناسي)‪ .‬ولنه لم‬

‫‪58‬‬
‫يقصد الذى بذلك لجباره عليه‪ ،‬وكذلك ل يجب على المكره لنه ل يسمي‬
‫قاذفا‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أن يكون عالما بالتحريم ‪ ،‬فل حد على جاهل بحكم القذف‪،‬‬
‫لقرب عهده بالسلم‪ ،‬أو لبعده عن العلماء‪ ،‬أما لو كان عالما بالتحريم‪ ،‬ولكنه‬
‫يجهل وجوب الحد‪ ،‬فل يعفيه جهله هذا من إقامة الحد عليه‪.‬‬
‫•الشروط الخمسة في المقذوف هي‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أن يكون المقذوف مسلما‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن يكون بالغا‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أن يكون عاقلً ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أن يكون عفيفا‪ ،‬بأن ل يكون قد ثبت عليه الزنى من قبل‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أن ل يكون قد أذن المقذوف بقذفه‪ .‬فإن الذن وإن كان ل يسوغ‬
‫القذف ول يبيحه‪ ،‬إل أنه يجعل في القذف شبهة‪ ،‬وفي الحديث "ادرؤوا الحدود عن‬
‫المسلمين ما استطعتم‪ ،‬فإن كان له مخرج فخلوا سبيله‪ ،‬فإن المام أن يخطىء في‬
‫العفو خير من أن يخطىء في العقوبة"‪( .‬رواه الترمذي [‪ ]1424‬في الحدود‪ ،‬باب‪:‬‬
‫ما جاء في درء الحدود)‪.‬‬
‫وجوب التعزير إذا لم تتكامل الشروط‪:‬‬
‫إذا لم تتحقق هذه الشروط العشرة أو لم يتحقق واحد منها‪ ،‬سقط الحد‪.‬‬
‫وليس معنى سقوط الحد أنه ل عقوبة على القاذف ‪ ،‬بل هناك عقوبة التعزير‪،‬‬
‫وكان للحاكم أن يعزره بعقوبة يراها صالحة‪ ،‬من حبس وضرب‪ ،‬شريطة أن ل‬
‫يبلغ في التعزير أدنى الحدود إذا كان من جنسها‪ .‬روى البيهقي [‪ ]8/327‬عن‬
‫‪ " :‬من بلغ حدا في‬ ‫النعمان بن بشير رضي ال عنهما‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫غير حد فهو من المعتدين"‪.‬‬
‫بعض ألفاظ القذف‪:‬‬
‫من ألفاظ القذف أن يقول‪ :‬زنيت‪ ،‬أو يا زاني ‪ ،‬أو يا مخنث‪ ،‬أو لطت‪ ،‬أو‬
‫لط بك فلن‪ ،‬أويا لئط‪ ،‬أو يا لوطي‪ ،‬أو للمرأة يا قحبة‪ ،‬أو يقول لبنها من زيد‬
‫لست ابنه أو لست منه‪ ،‬أو ما أشبه ذلك من ألفاظ تدل على هذه المعاني‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫مسقطات حد القذف‪:‬‬
‫يسقط حد القذف على القاذف بثلثة أشياء‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬إقامة البينة على ثبوت الزنى‪ ،‬أو إقرار المقذوف بذلك‪ ،‬فإذا انضم‬
‫إلى القاذف ثلثة شهود‪ ،‬وكانوا جميعا ممن تصح شهادتهم‪ ،‬وشهدوا على الزنى‬
‫بصريح القول‪ ،‬أو أقر المقذوف بما قذف به سقط بذلك حد القذف‪ ،‬وتحول الحد‬
‫على المقذوف‪.‬‬
‫فإن شهد أقل من ثلثة معه‪ ،‬لم تثبت البينة وكانوا جميعا قذفة يتعلق بهم حد‬
‫القذف جميعا‪.‬‬
‫ففي البخاري ‪( ،‬كتاب الشهادات‪ ،‬باب‪ :‬شهادة القاذف والسارق والزاني) ‪،‬‬
‫أن عمر جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة بن شعبة‪ ،‬ثم استتابهم‬
‫وقال‪ :‬من تاب قبلت شهادته‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬عفو المقذوف عن القاذف‪ ،‬كعفو ولي المقتول عن القصاص‪ ،‬لن هذا‬
‫الحد حق من حقوق العباد فيسقط بالسقاط ‪ .‬فإذا عفا المقذوف عن القاذف أمام‬
‫القضاء؛ سقط الحد بذلك عن القاذف‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أداء اللعان إذا كان القاذف زوجا‪ ،‬والمقذوفة الزوجة‪ ،‬لقوله تعالى‪﴿:‬‬
‫شهَادَاتٍ‬
‫شهَا َدةُ أَحَدِهِمْ َأ ْربَعُ َ‬
‫سهُمْ َف َ‬
‫شهَدَاء ِإلّا أَنفُ ُ‬
‫جهُمْ َولَمْ َيكُن ّلهُمْ ُ‬
‫وَالّذِينَ َي ْرمُونَ َأ ْزوَا َ‬
‫عَليْهِ إِن كَانَ مِنَ ا ْلكَا ِذبِينَ‬
‫بِاللّهِ ِإنّهُ َلمِنَ الصّادِقِينَ{‪ }6‬وَالْخَامِسَةُ أَنّ َل ْع َنتَ اللّهِ َ‬
‫﴾ (سورة النور‪.)7-6:‬‬
‫والحكمة من أن يكون هذا المسقط خاصا بالزوج إذا قذف زوجه‪ ،‬هي أن‬
‫الزوج قلما يتهم زوجته بالزنى أمام الحاكم إل وهو صادق فيما فعل‪ ،‬وفي تكليفه‬
‫بإحضار شهود على زناها إحراج له‪ ،‬وجرح لكرامته ومنافاة لما تقتضيه المحافظة‬
‫على عرضه‪ ،‬وبينهما من التعايش ما ل يسمح بتغاضيه عن المر‪ ،‬كما لو كانت‬
‫أجنبية عنه‪ ،‬من أجل كل ذلك شرع ال اللعان بكل أحكامه التي مرت بك‬
‫وعرفتها؛ حل لهذه المشكلة‪.‬‬
‫روى البخاري عن ابن عباس‪ :‬أن هلل بن أمية قذف امرأته عند النبي‬
‫البينة أو حد في ظهرك" ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال إذا رأي أحدنا على امرأته رجلً‬ ‫‪":‬‬

‫‪60‬‬
‫يقول‪" :‬البينة وإل حد في ظهرك"‪ ،‬فقال‬ ‫ينطق يلتمس البينة ؟! فجعل النبي‬
‫هلل‪ :‬والذي بعثك بالحق إني لصادق‪ ،‬فلينزلن ال ما يبرئ ظهري من الحد‪،‬‬
‫فنزل جبريل وأنزل عليه ‪ ﴿:‬والذين يرمون أزواجهم ‪ ﴾ . . .‬فقرأ حتى بلغ‪﴿: :‬‬
‫فأرسل إليها ‪ ،‬فجاء هلل فشهد والنبي‬ ‫إن كان من الصادقين ﴾ فانصرف النبي‬
‫يقول‪ " :‬إن ال يعلم أن أحدكما كاذب‪ ،‬فهل منكما تائب"‪ ،‬ثم قامت فشهدت‪ ،‬فلما‬
‫كانت عند الخامسة وقفوهها وقالوا‪ :‬إنها موجبة‪ ،‬قال ابن عباس‪ :‬فتلكأت‬
‫ونكصت حى ظننا أنها ترجع‪ ،‬ثم قالت‪ :‬ل أفضح قومي سائر اليوم‪ ،‬فمضت‪ ،‬فقال‬
‫‪ " :‬أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين‪ ،‬سابغ الليتين ‪ ،‬خدلج الساقين‬ ‫النبي‬
‫‪" :‬لول ما مضى من كتاب‬ ‫فهو لشريك بن سحماء"‪ ،‬فجاءت به كذلك‪ ،‬فقال النبي‬
‫ال لكان لي ولها شأن"‪( .‬رواه البخاري [‪ ]4470‬تفسير سورة النور باب‪ :‬ويدرأ‬
‫عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بال إنه لمن الكاذبين)‪.‬‬
‫شروط الشهود‪:‬‬
‫يشترط في كل شاهد أن يكون ذكرا‪ ،‬فلو شهد أربع نسوة‪ ،‬لم تقبل شهادتهن‬
‫وأقيم عليهن حد القذف‪ .‬وكذلك يجب أن يكونوا أحرارا فلو شهد عبيد أقيم عليهم‬
‫الحد‪ ،‬وكذلك يشترط أن يكونوا من المسلمين‪ ،‬فإن كانوا كفرة لم تقبل شهادتهم‪،‬‬
‫ويقام عليهم الحد‪ ،‬وليعلم أن حد العبد على النصف من حد الحر‪ ،‬فيجلد أربعين‬
‫جلدة‪.‬‬

‫حد شرب الخمر‬

‫لقد مر هذا البحث كاملً في الجزء الثالث‪ ،‬عند البحث في الشربة‬


‫المحرمة‪.‬‬
‫ونكتفي هنا بهذه العجالة‪ ،‬ليكون هذا البحث في مكانه بين الحدود‪.‬‬
‫من شرب خمرا‪ ،‬أو مسكرا مهما كان منشؤه‪ ،‬ومهما اختلف اسمه‪ ،‬أقيم‬
‫عن‬ ‫عليه حد الشرب‪ ،‬سواء حصل السكار بقليل منه‪ ،‬أو كثير‪ .‬فقد سئل النبي‬
‫البتع‪ ،‬وهو شراب يصنع من العسل‪ ،‬والمزر وهو شراب يصنع من الشعير أو‬

‫‪61‬‬
‫‪" :‬أو مسكر هو" ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪" :‬كل مسكر حرام‪ ،‬إن على ال‬ ‫الذرة‪ ،‬فقال‬
‫عز وجل عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال"‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول‬
‫ال‪ ،‬وما طينة الخبال؟ قال‪" :‬عرق أهل النار‪ ،‬أو عصارة أهل النار" (رواه مسلم [‬
‫‪ ]2001،2002‬في الشربة ‪ ،‬باب‪ :‬بيان أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام)‪.‬‬
‫وحد شرب الخمر أربعون جلدة أربعون جلدة‪ ،‬ويجوز أن يبلغ به ثمانين‬
‫جلدة‪ ،‬على وجه التعزير ل الحد‪ .‬روى مسلم [‪ ]1706‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬حد‬
‫كان يضرب في الخمر‬ ‫الخمر‪ ،‬عن أنس بن مالك رضي ال عنه‪ :‬أن النبي‬
‫بالنعال والجريد أربعين‪.‬‬
‫[الجريد‪ :‬أغصان النخل إذا جردت من الورق]‪.‬‬
‫وإنما يزيد المام على الربعين جلدة تعزيرا إن رأى مصلحة في ذلك‪ ،‬ل‬
‫سيما إذا فشا شرب الخمر‪ ،‬وانتشر شرها‪ ،‬ليحصل الردع والزجر‪.‬‬
‫ودليل أن الزيادة على الربعين جلدة تعزير وليس بحد‪ ،‬ما رواه مسلم [‬
‫‪ ]1707‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬حدد الخمر‪ ،‬أن عثمان رضي ال عنه أمر بجلد الوليد‬
‫بن ابي معيط‪ ،‬فجلده عبدال بن جعفر رضي ال عنهما‪ ،‬وعلي رضي ال عنه‬
‫أربعين‪ ،‬وجلد أبو بكر‬ ‫يعد‪ ،‬حتى بلغ أربعين‪ ،‬فقال‪( :‬أمسك‪ ،‬ثم قال‪ :‬جلد النبي‬
‫أربعين‪ ،‬وعمر ثمانين‪ ،‬وكل سنة‪ ،‬وهذا أحب إلى)‪ .‬أي الكتفاء بأربعين‪ ،‬لنه‬
‫‪ ،‬وهو أحوط في باب العقوبة‪ ،‬من أن يزيد فيها عن‬ ‫الذي فعله رسول ال‬
‫المستحق‪ ،‬فيكون ظلما‪.‬‬
‫بم يثبت الحد ؟‬
‫يثبت حد شرب المسكر‪ ،‬ويجب عليه بأمرين‪:‬‬
‫الول ‪ :‬البينة‪ :‬أي شهادة رجلين مسلمين عدلين‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬القرار‪ ،‬وذلك بأن أقر على نفسه بشرب مسكر ‪ .‬ول شك أن‬
‫القرار حجة يقوم مقام البينة‪.‬‬
‫هذا ول يثبت الحد بالقيء‪ ،‬والستنكاه ـ وهو شم رائحة الفم ـ لحتمال أن‬
‫يكون شربه مكرها‪ ،‬أو مخطئا‪ ،‬والحدود تسقط بالشبهات‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫المخدرات‬

‫معنى التخدير‪ :‬التخدير هنا يقصد به الحالة التي تغشى العقل والفكر من‬
‫الكسل والثقل والفتور‪.‬‬
‫والمخدرات كل ما يسبب هذه الحالة للعقل‪ ،‬من بنج وأفيون وحشيشة‬
‫ونحوها‪.‬‬
‫حكم المخدرات‪:‬‬
‫المخدرات حرام كيفما كان تعاطيها‪ ،‬لما فيها من الضرار بالعقل والجسم ‪.‬‬
‫روى أبو داود [‪ ]3686‬في الشربة‪ ،‬باب‪:‬النهي عن المسكر‪ ،‬عن أم سلمة رضي‬
‫عن كل مسكر ومفتر)‪.‬‬ ‫ال عنها قالت‪ ( :‬نهي رسول ال‬
‫عقوبة تناول المخدرات‪:‬‬

‫‪63‬‬
‫عقوبة المخدرات عقوبة تعزيرية‪ ،‬مفوضة من حيث نوعها وشدتها إلى ما‬
‫يراه القضاء السلمي العادل من سجن‪ ،‬أو ضرب‪ ،‬أو تقريع‪ ،‬بشرط أن ل يبلغ به‬
‫أدنى حد من الحدود الشرعية‪.‬‬
‫وبحث المخدرات قد مر مفصلً في الجزء الثالث من بحث الشربة‬
‫المحرمة‪ .‬ولذلك نكتفي هنا بهذه الخلصة‪ ،‬وال‪ ،‬وال الموفق‪.‬‬

‫حد السرقة‬

‫كما جاء السلم بالمحافظة على النفس والعراض‪ ،‬كذلك جاء بالمحافظة‬
‫على الموال‪ ،‬فشرع حد السرقة لمن يعتدي على الموال صيانة لها‪ .‬فما هي‬
‫السرقة وما حدها ؟ إليك بيان ذلك فيما يلي‪:‬‬
‫ما هي السرقة ؟‬
‫السرقة في اللغة أخذ المال خفية‪ ،‬وشرعا ‪:‬أخذ مال الغير خفية ظلما من‬
‫حرز مثله بشروط معينة‪.‬‬
‫فخرج بقولنا خفية الغصب‪ ،‬فالغاصب يستلب المال جهرا‪ ،‬فل يسمى‬
‫سارقا‪ ،‬ول يدخل في عقوبة السرقة‪.‬‬
‫وخرج بقيد مال الغير النباش وهو الذي يسرق ما في القبور من أكفان‬
‫الموتى‪ ،‬فإنها ل تدخل في تعريف السرقة‪ ،‬لعدم وجود مالك لها‪ ،‬وإن كانت حرمة‬
‫الميت تمنع من جواز العدوان عليها‪ .‬إل إن كان القبر في بيت أو بمقبرة بطرف‬
‫عمارة فإن النباش عندئذ يعد سارقا‪ ،‬ويقام عليه حد السرقة‪ .‬روى الترمذي [‬

‫‪64‬‬
‫‪ ]1448‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في الخائن ول منتهب ول مختلس والمنتهب‪،‬‬
‫قال‪" :‬ليس على خائن ول منتهب ول‬ ‫عن جابر رضي ال عنه عن النبي‬
‫مختلس قطع"‪.‬‬
‫[الخائن‪ :‬الذي يأخذ المال خفية‪ ،‬ويظهر النصح للمالك‪ .‬والمنتهب‪ :‬هو الذي‬
‫يأخذ المال على وجه القهر والغلبة‪ .‬والمختلس‪ :‬هو الذي يأخذ المال على سبيل‬
‫الخلسة]‪.‬‬
‫حد السرقة ‪:‬‬
‫إذا ثبتت السرقة بالشروط التي ذكرها أمام القضاء‪ ،‬وجب إقامة الحد على‬
‫هذا السارق‪ ،‬والحد هو قطع اليد من مفصل الكوع ـ والكوع طرف الزند الذي‬
‫يلي البهام ـ أي تقطع اليد من مفصل الكف‪ ،‬ودليل ذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫عزِيزٌ‬
‫سبَا َنكَالً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ َ‬
‫جزَاء ِبمَا كَ َ‬
‫طعُواْ َأيْ ِد َي ُهمَا َ‬
‫‪﴿:‬وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْ َ‬
‫بسارق‬ ‫حكِيمٌ ﴾ ( سورة المائدة‪ .)38 :‬وحديث عمرو بن شعيب‪ :‬أتي النبي‬
‫َ‬
‫فقطع يده من مفصل الكف ‪( .‬رواه الطبراني‪ ،‬انظر‪ :‬مغني المحتاج [‪.) ]4/77‬‬
‫وروى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم عن عائشة رضي ال عنها‪ :‬أن قريشا‬
‫؟‬ ‫أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت‪ ،‬فقالوا‪ :‬من يكلم فيها رسول ال‬
‫‪ ،‬فكلمه أسامة فقال رسول‬ ‫فقالوا ‪ :‬ومن يجترئ عليه إل أسامة حب رسول ال‬
‫‪ :‬أتشفع في حد من حدود ال ؟ ! ثم قام فاختطب فقال ‪ :‬أيها الناس إنما‬ ‫ال‬
‫أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه‪ ،‬وإذا سرق فيهم‬
‫الضعيف أقاموا عليه الحد‪ ،‬وايم ال لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها‪،‬ثم‬
‫أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها"‪ ( .‬رواه البخاري [‪ ]6406‬في الحدود‪،‬‬
‫باب‪ :‬كراهية الشفاعة في الحدود إذا رفع إلى السلطان ؛ ومسلم [‪ ]1688‬في‬
‫الحدود‪ ،‬باب‪ :‬قطع السارق الشريف‪ ،‬عن عائشة رضي ال عنها)‪.‬‬
‫تقطع يد السارق اليمنى ـ كما قلنا ـ إن سرق أول مرة ‪ ،‬فإن سرق ثانية‬
‫بعد قطع اليمنى تقطع رجله اليسرى‪ ،‬فإن سرق ثالثة بعد قطع رجله اليسرى‬
‫قطعت يده اليسرى ‪ ،‬فإن سرق رابعة بعد قطع يده اليسرى قطعت رجله اليمنى ‪،‬‬
‫فإن سرق بعد ذلك يعزر ‪ ،‬فيعاقبه الحاكم بما يراه رادعا ‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫روى الشافعي في مسنده عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال‬
‫قال في السارق ‪" :‬إن سرق فاقطعوا يده ‪ ،‬ثم إن سرق فاقطعوا رجله‪ ،‬ثم إن سرق‬
‫فاقطعوا يده‪ ،‬ثم إن سرق فاقطعوا رجله"‪( .‬الم [‪.)]6/138‬‬
‫شروط إقامة الحد على السارق ‪:‬‬
‫ليس كل سارق تقطع يده‪ ،‬بل ل بد لقامة حد القطع من استيفاء ثمانية‬
‫شروط‪:‬‬
‫الول ‪ :‬البلوغ ‪ ،‬فل تقطع يد الصبي الذي لم يبلغ‪ ،‬لنه رفع التكليف عنه‪،‬‬
‫لحديث "رفع القلم عن ثلثة ‪ ". . .‬ومنها الصبي حتى يحتلم ‪( .‬رواه ابن ماجه [‬
‫‪ ]2045‬في الطلق‪ ،‬باب‪ :‬طلق المكره)‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬العقل ‪ ،‬فل تقطع يد المجنون ‪ ،‬لنه رفع التكليف عنه للحديث‬
‫السابق أما السكران الذي زال عقله بسبب السكر‪ ،‬فإنه يقام عليه إن كان متعديا في‬
‫سكره‪ ،‬وإل فل ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أن ل يكون مكرها ‪ ،‬لن المكره رفع القلم عنه كما في الحديث ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أن يبلغ المال الذي سرقه نصابا‪ ،‬والنصاب ما يساوي ربع دينار‬
‫فصاعدا‪ ،‬والدينار الواحد يساوي ثلثة دراهم‪ ،‬لن صرف الدينار على عهد رسول‬
‫كان اثني عشر درهما ‪ ،‬فربع الدينار يساوي ثلثة دراهم‪.‬‬ ‫ال‬
‫روى البخاري [‪ ]6407‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬قول ال ﴿ وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ‬
‫طعُواْ َأيْ ِد َي ُهمَا ﴾ ؛ ومسلم [‪ ]1684‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬حد السرقة ونصابها ـ‬
‫فَاقْ َ‬
‫‪" :‬ل تقطع‬ ‫واللفظ لمسلم ـ عن عائشة رضي ال عنها قالت‪ :‬قال رسول ال‬
‫يد السارق إل في ربع دينار فصاعدا"‪.‬‬
‫وروى البخاري [‪ ]6411‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬وفي كم يقطع؛ ومسلم [‪]1686‬‬
‫في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬حد السرقة ونصابها‪ ،‬عن ابن عمر رضي ال عنهما‪ :‬أن النبي‬
‫قطع في مجن ثمنه ثلثة دراهم‪.‬‬
‫[والمجن‪ :‬الترس ] ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬أن يؤخذ المال المسروق من حرز مثله‪ ،‬وحرز المثل هو المكان‬
‫الذي يحفظ فيه أو في مثله عادة المال المسروق ‪ ،‬فالنقود إنما تحفظ في الصناديق‬

‫‪66‬‬
‫وما على شاكلتها‪ ،‬والثياب تحفظ في الخزائن ونحوها ‪ ،‬ومرجع ذلك كله إلى‬
‫العرف وأهله‪.‬‬
‫فلو سرق المال من مكان لم يجر العرف والعادة بوضعه فيه وجعله حرزا‬
‫له‪ ،‬لم يجز معاقبة السارق بالقطع‪ ،‬دليل ذلك خبر أبي داود [‪ ]4390‬في الحدود‪،‬‬
‫باب‪ :‬ما ل قطع فيه‪ ،‬عن عبدال بن العاص رضي ال عنهما ؛ وغيره‪ ،‬مرفوعا‪:‬‬
‫"ل قطع في شيء من الماشية إل فيما آواه المراح‪ ،‬ومن سرق شيئا من التمر بعد‬
‫أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع"‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬أن ل يكون للسارق ملك أو شبهة ملك‪ ،‬فإن كان شريكا فيه لم‬
‫يقطع‪ ،‬لن له ملكا‪ ،‬ولو سرق الولد من مال أبيه‪ ،‬أو العبد من مال سيده‪ ،‬أو أحد‬
‫الناس من مال الدولة وهو فقير‪ ،‬أو في وقت مجاعة‪ ،‬فل قطع في ذلك‪ ،‬لقيام شبهة‬
‫ملكية ما في المال المسروق‪.‬‬

‫دليل ذلك حديث عائشة‪" :‬ادرؤوا الحدود ما استطعتم‪ ،‬فإن الحاكم لن‬
‫يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"‪ ( .‬رواه الترمذي [‪ ]1424‬في‬
‫الحدود‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في درء الحدود)‪.‬‬

‫السابع ‪ :‬أن يكون السارق عالما بالتحريم‪ ،‬فلو تناول رجل من متجر جاره‬
‫بضاعة أو طعاما‪ ،‬وهو ل يعلم أن ما أقدم عليه محرم‪ ،‬لجهله بأصول السلم أو‬
‫لقرب عهده بالدخول في السلم‪ ،‬لم يعاقب بقطع اليد‪ ،‬وعوقب بالتعزيز مع‬
‫الضمان ‪.‬‬

‫الشرط الثامن ‪ :‬أن يكون المال المسروق طاهرا‪ ،‬فلو سرق خمرا أو‬
‫خنزيرا أو كلبا أو جلد ميتة بل دبغ فل قطع‪.‬‬

‫وكذلك يجب أن يكون مباح الستعمال‪ ،‬فلو سرق طنبورا أو عودا أو‬
‫مزمارا أو ضمنا أو صليبا ل يقطع‪ ،‬لن التوصل إلى إزالة المعصية مندوب إليه‪،‬‬
‫فصار شبهة كإراقة الخمر‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫واعلم أن هذه الشروط كلها إنما هي شروط لمعاقبة السارق بالقطع‪ ،‬وليست‬
‫شروطا لصل العقوبة‪ ،‬فإذا فقد شرط منها سقط القطع‪ ،‬لكن تخير الحاكم من‬
‫العقوبات التعزيرية إلى جانب الغرامة ما يراه زاجرا للسارق‪.‬‬

‫ثبوت السرقة‪:‬‬

‫تثبت السرقة بواحد من المور التالية‪:‬‬

‫الول ‪ :‬القرار فإذا أقر ثبت في حقه السرقة وما يستحق عليها من عقوبة‪،‬‬
‫لكن إذا رجع بعد القرار قبل رجوعه‪ ،‬وللقاضي أن يعرض له بالرجوع كما في‬
‫القرار بالزنى‪ ،‬لكن هنا ل يقبل إقراره إل بعد حضور المالك وطلبه‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬البينة وتكون بشهادة رجلين عدلين قد استوفيا شروط الشهادة ‪،‬‬
‫فإن شهد رجل وامرأتان ثبت المال‪ ،‬ول يثبت بهذه الشهادة القطع‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬حلف المدعي اليمين‪ ،‬بعد نكول المدعى عليه عن حلف اليمين‪.‬‬

‫ضمان السارق المال المسروق ‪:‬‬

‫إذا ثبتت السرقة وقطعت يد السارق‪ ،‬وجب عليه أيضا أن يرد ما سرق إن‬
‫كان المسروق ل يزال موجودا‪ ،‬فإن كان قد تلف ضمنه‪.‬‬

‫ودليل ذلك قوله عليه الصلة والسلم‪" :‬على اليد ما أخذت حتى تؤديه"‪.‬‬
‫(أخرجه أبو داود [‪ ]3561‬في البيوع‪ ،‬باب‪ :‬في تضمين العارية‪ ،‬والترمذي [‬
‫‪ ]1266‬في البيوع‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في أن العارية مؤداة‪ ،‬عن سمرة بن جندب‬
‫رضي ال عنه)‪.‬‬

‫القطع حق ال تعالى‪:‬‬

‫إذا ثبتت السرقة ورفع المر إلى القاضي وجب تنفيذ العقوبة ول يجوز‬
‫التوسط في إسقاط الحد‪ ،‬ودليه ما سبق من حديث المخزومية التي سرقت‪ ،‬أما إذا‬

‫‪68‬‬
‫لم يصل المر إلى القاضي فيجوز إسقاطه والتوسط في إسقاطه ففي الحديث‪ :‬بينما‬
‫صفوان بن أمية مضطجع بالبطحاء إذ جاء إنسان فأخذ بردة من تحت رأسه‪ ،‬فأتي‬
‫فأمر بقطعه فقال‪ :‬إني أعفو وأتجاوز‪ ،‬فقال‪ :‬هل قبل أن تأتيني به ؟‪.‬‬ ‫به النبي‬

‫(سنن النسائي [‪ ]8/68‬كتاب قطع السارق‪ ،‬باب‪ :‬الرجل يتجاوز للسارق؛ مسند‬
‫أحمد [‪ ،]3/401‬عن صفوان بن أمية رضي ال عنه)‪.‬‬

‫الرد على خصوم السلم في تقولهم عن مشروعية الحدود ‪:‬‬

‫ل شك أنك تسمع من خصوم السلم وأعداء تشريعه‪ ،‬عبارات تنبىء عن‬


‫الشمئزاز من أن تكون عقوبة السارق قطعا لليد‪ ،‬وعقوبة الزاني المحصن الرجم‪.‬‬

‫وإن لنا كلمة ينبغي أن تستوعبها في الرد على هؤلء في ذلك ‪.‬‬

‫أولً ‪ :‬إن سبب اشمئزاز خصوم السلم وأعدائه من عقوبة القطع والرجم؛‬
‫هو كونهم خصوما للسلم قبل كل شيء‪ ،‬فل يريدون أن يحكموا عقولهم في‬
‫حقيقة هذه الحدود‪ ،‬وأسبابها وأهدافها ونتائجها‪ ،‬ودوافعها وشروطها‪ ،‬إذ إن من‬
‫المعلوم بداهة أن الخصم حينما يمارس خصومته ؛ إنما ينطلق من دافع أنه خصم‪،‬‬
‫قبل أن ينظر فيما يقتضيه المنطق والحق والتفكير السليم‪ ،‬وإل لم يكن اسمه‬
‫خصما‪.‬‬

‫وهذه الحقيقة تجعل النقاش مع أمثال هؤلء الناس في جزئية من جزئيات‬


‫السلم الذي هم خصومه ـ كجزئية الحدود مثلً ـ سعيا عابثا ل طائل من‬
‫ورائه‪ ،‬ول يؤدي إلى النتيجة المطلوبة ‪.‬‬

‫ولكننا إذا ناقشنا وبحثنا في أمثال ذلك‪ ،‬فلكي ل يعلق شيء من انتقاداتهم‬
‫الفكرية المصطنعة في عقول وأذهان المسلمين الصادقين في إسلمهم‪ ،‬ممن‬
‫يعوزهم التعمق في فهم السلم وسبر حكمه وأهدافه ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ثانيا ‪ :‬إن المنهج المنطقي الذي نسير على أساسه في تقبل هذه الحكام‬
‫واليمان بها‪ ،‬والتعيين بأنها الدواء الذي ل بديل له للمجتمع ؛ هو إيماننا بأن‬
‫القرآن الكريم الذي تضمن هذه الحكام وغيرها ؛ إنما هو كلم ال المنزل على‬
‫وحيا ‪ ،‬وإذا كان إيماننا بال وكتابه حقيقة مفروغا منها ؛ فل سبيل‬ ‫نبيه محمد‬
‫إلى تسرب أي شك أو وسواس في روعة هذه الحكام ودقة فائدتها وضرورة‬
‫التشبث بها ‪.‬‬

‫ومحال أن يتشكك في شيء من هذه الحكام إل من تشكك قبل ذلك بال عز‬
‫نبيه ‪ ،‬وإنما يناقش هذا النسان‬ ‫وجل ‪ ،‬وبأ‪ ،‬هذا القرآن كلمه ‪ ،‬وبأن محمدا‬
‫في الصل الذي تفرع عنه هذا الشك ‪ ،‬ل في الفرع الصغير الذي هو ثمرة الكفر‬
‫الكبير ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬نتجاوز ما يقوله علماء النفس عن خطورة السرقة واليد التي تعتاد‬
‫عليها ‪ ،‬ومن أن مثل هذه الجرائم تنقلب في كيان أصحابها إلى أمراض متأصلة ‪،‬‬
‫ل يجدي في علجها شيء من العقوبات التقليدية المألوفة ‪ ،‬ونتجاوز الحديث عن‬
‫خطورة الزنى وسوء عاقبته في المجتمع من كل الجوانب ‪ ،‬ول سيما إصابته‬
‫بمرض اليدز الذي أخذ ينتشر في المجتمع الذي يبيح الزنى ‪ ،‬والذي أصبح يهدده‬
‫بالخراب والدمار ‪.‬‬

‫إذا أعرضنا عن ذلك كله ولفتنا النظر إلى ما هو واقع مشاهد في‬
‫المجتمعات التي أعرضت عن شرع ال عز وجل ‪ ،‬وقارنا بينها وبين الوساط‬
‫التي تقييم حدود ال ‪ ،‬وجدنا الفرق واضحا جليا ‪.‬‬

‫إن اللصوص في هذه المجتمعات المعرضة عن أحكام ال ‪ ،‬يتمتعون‬


‫بكيانات ل يتمتع بها كثير من أرباب الشركات وأعضاء النقابات ‪ ،‬وعصاباتهم‬
‫تستعصي على كل إرهاب أو عقاب ‪ ،‬وإن المراض التناسلية فيها تفتك بشيبها‬
‫وشبابها وصغارها وكبارها ‪ ،‬وتفعل بهم أضعاف بهم أضعاف أضعاف ما يفعله‬
‫عقاب جلد أو رجم ‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫بينما ننظر إلى المة التي تقيم فيما بينها حدود ال تعالى وأحكامه ‪ ،‬فنجدها‬
‫أمة تنعم بالمن والرفاهية والخلو من هذه المراض التي تعصف بحياة البشر ‪،‬‬
‫وتؤدي إلى دمارهم وهلكهم ‪.‬‬

‫إن في هذا لبلغا وذكرى لكل عاقل منصف ‪ ،‬آمن بال وبرسوله أولً ‪ ،‬ثم‬
‫تمتع بحرية الفكر والبحث ثانيا ‪ ،‬وال الهادي إلى طريق الرشاد‪.‬‬

‫هذا ول بد هنا ـ ونحن بصدد الحديث عن الحدود ـ ل بد من الشارة‬


‫إلى أمرين هامين في هذا الموضوع ‪:‬‬

‫أحدهما ‪ :‬أن السلم حينما شرع هذه الحدود الزاجرة ‪ ،‬شرع إلى جانبها‬
‫تشريعات تقي من الوقوع في أعمال تؤدي إلى إقامة الحد ‪.‬‬

‫ففي موضوع حد السرقة شرع تأمين حاجيات الفرد ‪ ،‬فإن كان الفرد عاملً‬
‫فرض له من بيت مال المسلمين ما يهمىء له فرص العمل من رأس مال وأدوات‪،‬‬
‫وما يتصل بذلك ‪ ،‬فيصبح الفرد بعد زمن قليل منتجا مستغنيا عن مساعدة غيره ‪،‬‬
‫بل يصبح مساعدا غيره في تهيئة فرص العمل ‪ ،‬فيكون المجتمع كله مساعدا‬
‫متضامنا متكافلً ‪.‬‬

‫وفي موضوع حد الزنى أمر السلم بالستر والحجاب وعدم اختلط‬


‫الرجال بالنساء ‪ ،‬وعدم خلوة الرجل بالمرأة ‪ ،‬وحث على ترخيص المهور ‪،‬‬
‫وعلى تزويج من يرضى خلقه ودينه ‪ ،‬من غير تفتيش معه على المال والثروة ‪،‬‬
‫"إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ‪ ،‬إل تفعلوا تكن فتنة في الرض‬
‫وفساد" (أخرجه الترمذي [‪ ]1085‬في النكاح‪ ،‬باب‪ :‬إذا جاءكم من ترضون دينه‬
‫فزوجوه‪ ،‬عن أبي هريرة رضي ال عنه)‪ .‬هذا إلى كثير من الحكام التي يجدها‬
‫الباحث مبثوثة في كتب الفقه‪.‬‬

‫المر الثاني ‪ :‬هو أن الهدف من العقوبة في السلم‪ ،‬ليس هو تعذيب‬


‫الجاني‪ ،‬بل الهدف سلمة المجتمع‪ ،‬فيجب أن تكون العقوبة مؤدية إلى الهدف‬

‫‪71‬‬
‫المنشود‪ ،‬وأما كيفية العقوبة فهي وسيلة ل غاية‪ ،‬فما كان من الوسائل مؤديا إلى‬
‫الهدف فهذا هو المطلوب‪ .‬ولقد ثبت أن هذه العقوبات التي شرعها السلم قد أدت‬
‫إلى الغاية المنشودة‪ ،‬وسجل التاريخ يتحدث عن ذلك عبر العصور الماضية‬
‫والحاضرة‪ ،‬فهي إذا الدواء الناجح الناجع‪ .‬بينما نري القوانين الوضعية في أرقى‬
‫الدول لم تؤد إلى هذه الغاية ‪ ،‬وهي سلمة المجتمع وأمنه واستقراره والحداث‬
‫التي تنشرها الصحف اليومية والنشرات والحصاءات التي تنشر بين حين وآخر‬
‫تتحدث عن ذلك بما ل يقبل الشك‪.‬‬

‫الحرابة وحدها‬

‫معنى الحرابة ‪:‬‬

‫الحرابة في اصطلح الشريعة ‪ :‬هي البروز لخذ مال أو لقتل أو لرعاب‬


‫مكابرة‪ ،‬اعتمادا على الشوكة‪ ،‬مع البعد عن مسافة الغوث‪ ،‬من كل مكلف ملتزم‬
‫للحكام‪ ،‬ولو كان ذميا أو مرتدا‪.‬‬

‫فخرج بقيد " اعتمادا على الشوكة" ما لو كان العتماد على المغافلة‬
‫والهرب‪ ،‬أو على ضعف المجني عليه‪ ،‬فل يسمي ذلك في الصطلح الشرعي‬
‫حرابة‪ ،‬وإنما هو من قبيل النهبة ونحوها‪ ،‬وله حكمه الخاص به‪.‬‬

‫خرج بقيد "البعد عن مسافة الغوث" ـ وهي المسافة القريبة من المدينة أو‬
‫القرية‪ ،‬بحيث لو استغاث النسان منها لبلغ صوته أهلها ـ ما لو كانت المسافة‬
‫داخلة في حدود الغوث‪ ،‬فل يسمي العدوان حينئذ حرابة‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫وخرج بقيد " ملتزم للحكام " الكافر الحربي‪ ،‬فهو وإن قتل وأخذ المال ‪ ،‬ل‬
‫يدخل في هذا الباب‪ ،‬وإنما هو كافر حربي مهدر الدم على كل حال‪ ،‬فإن دخل في‬
‫السلم لم يؤاخذ بجناية جناها من قبل‪ ،‬لن السلم يجب ما قبله‪.‬‬

‫ويدخل في التعريف العبد والمرأة والسكران المتعدي بسكره ‪ ،‬لنهم جميعا‬


‫مكلفون ‪.‬‬

‫ويدخل في ذلك أيضا الواحد والجماعة ‪ ،‬إذا تحققت بهم بقية الصفات‪.‬‬

‫ويدخل على أرباب هذا الشأن‪ :‬قطاع الطريق‪ ،‬وسموا بذلك لن الناس‬
‫يمتنعون من سلوك الطريق التي يكون بها هؤلء ‪ ،‬فكأنهم قد قطعوها حقيقة ‪.‬‬

‫أقسام أهل الحرابة "قطاع الطريق"‪.‬‬

‫ينقسم أهل الحرابة "قطاع الطريق" إلى أربعة أقسام‪:‬‬

‫القسم الول ‪ :‬من يقتلون من يمر بهم‪ ،‬ويستلبون أموالهم‪.‬‬

‫القسم الثاني ‪ :‬من يقتلون من يمر بهم ول يأخذون أموالهم أو شيئا منها‪.‬‬

‫القسم الثالث ‪ :‬من يأخذون الموال‪ ،‬ول يعتدون على الحياة ‪.‬‬

‫القسم الرابع ‪ :‬من يخيفون المارين بهم‪ ،‬من دون أن يعتدوا على حياتهم‪،‬‬
‫أو أن يسلبوهم شيئا من أموالهم‪.‬‬

‫فهؤلء أربعة أقسام‪ ،‬أشدهم خطرا من يقتل النفس ويسلب المال‪ ،‬وأخفهم‬
‫شأنا من يخيف‪ ،‬ول يعتدي على حياة ول مال‪ ،‬ولهذا تنوعت عقوبتهم على حسب‬
‫ما يقومون به من أعمال ‪ ،‬وبيان ذلك فيما يلي‪:‬‬

‫حكم كل قسم من هذه القسام ‪:‬‬

‫‪73‬‬
‫أما القسم الول ـ وهم من يمارسون القتل ويستلبون المال ـ فيجب قتلهم‬
‫ثم صلبهم ثلثا على مرتفع كخشبة ونحوها‪ ،‬زيادة في التنكيل بهم‪ ،‬وليشتهر حالهم‪،‬‬
‫وإنما يصلبون بعد الغسل والتكفين والصلة عليهم‪ ،‬لنهم لم يخرجوا بعملهم هذا‬
‫عن كونهم مسلمين‪ ،‬والمسلم واجب غسله وتكفينه والصلة عليه ودفنه ‪.‬‬

‫وأما القسم الثاني ـ وهم الذين يقتلون فقط ـ فجزاؤهم القتل دون صلب‪،‬‬
‫ول أثر هنا لعفو أولياء الدم في إسقاط القصاص لنه أصبح من حقوق ال ‪.‬‬

‫والفرق بين هذا الباب وباب القصاص أن القاتل هنا يضيف إلى القتل‬
‫الخافة وقطع الطريق على السابلة‪ ،‬والعتماد على القوة والشوكة‪ ،‬وعدم الترصد‬
‫لشخص واحد بذاته‪ ،‬بل يفتك بكل من مر به‪ ،‬فقد أصبح حده من حقوق ال تعالى‪،‬‬
‫ولذلك لم يكن لعفو الولي عن القصاص أثر‪.‬‬

‫وأما القسم الثالث ـ وهم من يأخذون المال فقط ـ فجزاؤهم قطع يدهم‬
‫ورجلهم من خلف‪ ،‬أي قطع اليد اليمنى من مفصل الكف‪ ،‬وقطع الرجل اليسرى‬
‫من مفصل القدم‪ ،‬فإن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى الباقيتان‪.‬‬

‫ول بد من اشتراط كون المأخوذ من المال بالغا نصاب السرقة ‪ ،‬وهو ربع‬
‫دينار فصاعدا‪ ،‬أو ما يساوي ذلك ذلك‪ ،‬فإن لم يبلغ هذا المقدار عزره القاضي بما‬
‫يراه مناسبا من عقوبات التعزير ‪.‬‬

‫والفرق بين المحارب والسارق أن السارق يأخذ المال خفية‪ ،‬أما هذا‬
‫فيضيف إلى ذلك قطع الطريق والتخويف‪ ،‬معتمدا على القوة والشوكة ‪ ،‬وعلى بعد‬
‫الضحية عن المدينة والناس‪.‬‬

‫وأما القسم الرابع ـ وهم الذين يخيفون المارة ‪ ،‬دون أن يأخذوا منهم مالً‬
‫أو أن يعتدوا منهم على حياة ـ فجزاؤهم عقوبة من عقوبات التعزير من نفي أو‬
‫حبس أو غير ذلك‪ ،‬والمر في ذلك راجع إلى المام ‪ ،‬ول يقدر الحبس بمدة ‪،‬‬
‫وللمام أ‪ ،‬يعفو عن هؤلء إن رأي مصلحة في العفو عنهم ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫الدليل على حكم هذه القسام ‪:‬‬

‫الصل في أحكام باب الحرابة‪ ،‬والدليل على ما ذكرناه قوله تعالى‪ِ ﴿ :‬إ ّنمَا‬
‫صّلبُواْ‬
‫لرْضِ فَسَادا أَن يُ َق ّتلُواْ َأوْ ُي َ‬
‫س َعوْنَ فِي ا َ‬
‫جزَاء الّذِينَ يُحَا ِربُونَ اللّهَ َورَسُولَهُ َويَ ْ‬
‫َ‬
‫خ ْزيٌ فِي ال ّد ْنيَا‬
‫لرْضِ َذِلكَ َلهُمْ ِ‬
‫جُلهُم مّنْ خِلفٍ َأوْ يُن َف ْواْ مِنَ ا َ‬
‫َأوْ تُقَطّعَ َأيْدِيهِمْ َوَأرْ ُ‬
‫خ َرةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ( المائدة ‪. ) 33 :‬‬
‫َوَلهُمْ فِي ال ِ‬

‫فالقتل وحده منصرف إلى الحالة الثانية ‪ ،‬وهي ما إذا كان هناك قتل ولم‬
‫يكن استلب للمال‪ ،‬والقتل مع الصلب منصرف إلى الحالة الولى ‪ ،‬وهي ما إذا‬
‫كان قتل واستلب مال‪ ،‬وقطع اليد والرجل منصرف إلى الحالة الثالثة‪ ،‬وهي ما‬
‫إذا كان هناك أخذ مال ولم يكن اعتداء على حياة‪ ،‬والنفي من الرض منصرف‬
‫إلى الحالة الرابعة‪ ،‬وهي ما أذا كان هناك إخافة دون قتل واستلب مال‪.‬‬

‫متى يسقط حد الحرابة ؟‬

‫هذه العقوبات التي ذكرناها تسقط في حالة واحد ‪ ،‬وهي أن يتوب الجاني‬
‫المحارب قبل أن تمتد إليه يد الحاكم ‪ ،‬لهرب أو اختفاء أو لعدم شعور الحاكم به‪،‬‬
‫فإذا تاب هذا الجاني قبل أن يقع في قبضة القضاء ‪ ،‬سقطت عنه العقوبات‬
‫المختصة بقطاع الطريق "أي الحرابة" وهي تحتم القتل والصلب وقطع اليد‬
‫عَل ْيهِمْ‬
‫والرجل معا ‪ ،‬ودليل قوله تعالى‪ ﴿ :‬إِلّ الّذِينَ تَابُواْ مِن َقبْلِ أَن تَقْ ِدرُواْ َ‬
‫ن اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ ﴾ ( المائدة ‪. ) 34 :‬‬
‫عَلمُواْ أَ ّ‬
‫فَا ْ‬

‫ويؤول أمره عندئذ إلى كونه مجرد قاتل أو غاصب ‪ ،‬فيؤخذ بما قد ترتب‬
‫عليه من حقوق القتل والغصب والنهب ‪ ،‬كل على حسب قواعده وأحكامه‬
‫المعروفة ‪ ،‬ول تسقط التوبة شيئا مما جناه قبل الحرابة‪.‬‬

‫فالقتل التائب قبل أن يقبض عليه الحاكم يؤخذ بعقوبة القصاص ‪ ،‬إل إذا‬
‫عفا عنه ولي المقتول إلى الدية أو إلى غير شيء‪ ،‬والغاصب يؤخذ بضمان المال‬
‫الذي أخذ مع التعزيرات التي قد يراها الحاكم ‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫وبهذا نعلم أن قاطع الطريق إذا كان قد سرق مثلً أو شرب خمرا أثناء‬
‫ممارسته للحرابة وقطع الطريق‪ ،‬أو قبل ذلك؛ فإن توبته ل تسقط عنه حد السرقة‬
‫والشرب‪ ،‬لن مثل هذه الحدود ل تسقطها التوبة‪.‬‬

‫بيان موجز للحدود التي تسقط‬

‫بالتوبة ‪ ،‬والتي ل تسقط بها‬

‫وأثر الفرق بين كونها حقا ل أو حقا للنسان في ذلك‬

‫الحقوق المتعلقة بالنسان أنواع‪ ،‬منها ما هو خالص حق ال تعالى ‪ ،‬ومنها‬


‫ما هو خالص حق النسان‪ ،‬فما كان خالص حق ال قد يسقط بالتوبة ‪ ،‬وما كان‬
‫خالص حق النسان فإنه ل يسقط بالتوبة أو العفو عن الجاني ‪ ،‬وإليك بيان ما‬
‫يسقط منها بالتوبة وما ل يسقط ‪.‬‬

‫ما يسقط من الحدود بالتوبة أو العفو‪:‬‬

‫‪76‬‬
‫‪ – 1‬حد تارك الصلة ‪ :‬فإنه إذا تاب توبة صادقة نصوحا‪ ،‬سقط عنه الحد ولو بعد‬
‫رفعه إلى الحاكم ؛ لن موجبه الصرار على الترك‪ ،‬ل الترك الماضي ‪.‬‬

‫‪ – 2‬حد القذف‪ :‬إذا عفا المقذوف عن القاذف أمام الحاكم‪ ،‬ذلك لن حد القذف حق‬
‫شرعه ال للنسان ‪ ،‬فإذا أسقط صاحب الحق حقه؛ سقط الحد المترتب عليه ‪.‬‬

‫‪ – 3‬حد الحرابة‪ :‬إذا تاب صاحبها قبل وقوعه في قبضة القضاء ‪ ،‬ولكنه يلحق‬
‫بما عدا ذلك من حقوق الشخاص وحقوق ال تعالى‪ ،‬من قتل وسرقة وشرب‬
‫وغصب ونحو ذلك‪ ،‬كما مر آنفا‪.‬‬

‫ما ل يسقط من الحدود بالتوبة ‪:‬‬

‫ما عدا هذه الحدود الثلثة النفة الذكر ‪ ،‬من سائر الحدود الخرى ‪ ،‬ل‬
‫تسقك بعد الثبوت بالتوبة ‪ ،‬كحد السرقة والشرب والزنى‪.‬‬

‫ففي البخاري [‪ ]6406‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬كراهية الشفاعة في الحدود ‪،. .‬‬
‫عن عائشة رضي ال عنها‪ :‬أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ‪.‬‬

‫؟ قالوا ‪ :‬ومن يجترئ عليه إل أسامة حب‬ ‫قالوا ‪ :‬من يكلم فيها رسول ال‬
‫فقال ‪ :‬أتشفع في حد من حدود ال ؟ ! ثم قام‬ ‫؟ فكلم رسول ال‬ ‫رسول ال‬
‫فاختطب فقال‪ :‬يا أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم‬
‫الشريف تركوه ‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ‪ ،‬وايم ال لو أن‬
‫فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها‪ ،‬ثم أمر بها فقطعت يدها"‪( .‬ورواه مسلم‬
‫أيضا [‪ ]1688‬في الحدود‪ ،‬باب‪ :‬قطع السارق الشريف)‪.‬‬

‫وروى أصحاب السنن الربعة عن صفوان بن أمية رضي ال عنه‪ ،‬أن‬


‫قال لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه‪" :‬هل كان ذلك قبل أن‬ ‫النبي‬
‫تأتيني به؟" ‪[ .‬مر تخريجه في الصفحة ‪. ]78‬‬

‫‪77‬‬
‫وذلك لعموم أدلة هذه الحدود من غير تفصيل ول استثناء ‪ ،‬ولن حق ال‬
‫فيها هو المتغلب ‪.‬‬

‫ومعنى أن التوبة ل تسقطها ‪ ،‬أي ل تسقط وجوب تنفيذ هذه الحدود في دار‬
‫الدنيا أمام القضاء‪ ،‬أما ما بين مستحق الحد وربه‪ ،‬فان التوبة الصادقة تسقط جميع‬
‫تبعات ذلك الجرم‪ ،‬وآثار تلك المعصية يوم القيامة ‪ .‬قال ال تعالى ‪ ﴿ :‬وإني لغفار‬
‫لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدي ﴾ ( سورة طه‪ ، ) 82 :‬وقال سبحانه‪﴿ :‬‬
‫ن اللّهَ َيغْ ِفرُ‬
‫حمَ ِة اللّهِ إِ ّ‬
‫سهِمْ لَا تَ ْقنَطُوا مِن رّ ْ‬
‫علَى أَنفُ ِ‬
‫سرَفُوا َ‬
‫عبَا ِديَ الّذِينَ أَ ْ‬
‫قُلْ يَا ِ‬
‫جمِيعا ﴾ ( سورة الزمر‪. ) 53 :‬‬
‫ال ّذنُوبَ َ‬

‫قال‪" :‬بايعوني على‬ ‫وفي الصحيح عن عبادة بن الصامت أن رسول ال‬


‫أن ل تشركوا بال شيئا ول تسرقوا ول تزنوا ول تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم‬
‫وأرجلكم ول تعصوا في معروف‪ ،‬فمن وفى منكم فأجره على ال ومن أصاب من‬
‫ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له‪ ،‬ومن أصاب من ذلك شيئا فستره ال فهو‬
‫إلى ال إن شاء عفا عنه‪ ،‬وإن شاء عاقبه‪ ،‬فبايعناه على ذلك"‪( .‬رواه البخاري [‪]18‬‬
‫في اليمان‪ ،‬باب ‪ :‬علمة اليمان حب النصار ؛ ومسلم [‪ ]1709‬في الحدود‪ ،‬باب‬
‫‪ :‬الحدود كفارة لهلها)‪.‬‬

‫هذا والفرق بين هذا وذاك أن الحدود القضائية في الدنيا تقام من أجل‬
‫التسويات الحقوقية‪ ،‬وحراسة النظام والوضع الجتماعي‪ ،‬ول شأن للتوبة في ذلك‪.‬‬

‫أما التبعات والثام الخروية المترتبة على المعاصي أيا كان نوعها‪ ،‬فهي‬
‫بسبب تفريطه في جنب ال عز وجل ‪ ،‬إذ لم يلتزم أوامره ونواهيه‪ ،‬والتوبة‬
‫الصادقة تمحو كل ذلك كما أسلفنا ‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫الصيال‬

‫تعرفه ‪:‬‬

‫الصيال لغة ‪ :‬مصدر من صال يصول صولً وصيالً‪ ،‬وهي الستطالة‬


‫والمواثبة ‪.‬‬

‫والصائل شرعا‪ :‬كل من قصد مسلما بأذى في جسمه أو عرضه أو ماله ‪.‬‬

‫دليل الصيال ‪:‬‬

‫والصل في حكم الصيال قوله تعالي‪ ﴿ :‬فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه‬
‫بمثل ما اعتدي عليكم واتقوا ال واعلموا أن ال مع المتقين ﴾ ( سورة البقرة‪:‬‬
‫‪ ، ) 194‬وقوله عليه الصلة والسلم‪ " :‬من قتل دون أهله فهو شهيد‪ ،‬ومن قتل‬
‫دون ماله فهو شهيد ‪ ،‬ومن قتل دون دمه فهو شهيد‪ ،‬ومن قتل دون دينه فهو‬
‫شهيد"‪( .‬رواه أبو داود [‪ ]4771‬في السنة ‪ ،‬باب ‪ :‬قتال اللصوص ؛ والترمذي [‬
‫‪ ]1421‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد)‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫أنواع الصائل ‪:‬‬

‫يتنوع الصائل حسب تنوع ما يهدف إليه في عدوانه ‪ ،‬فهو ينقسم بناء على‬
‫ذلك إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬

‫القسم الول ‪ :‬الصائل على النفس ‪ ،‬وهو الذي يستطيل بالظلم على غيره‬
‫بقصد القتل أو الضرار بالجسم بجرح ونحوه ‪.‬‬

‫القسم الثاني ‪ :‬الصائل على العرض ‪ ،‬وهو الذي يتجه بالعدوان إلى امرأة‬
‫ليست زوجته‪ ،‬قريبة كانت له أو أجنبية عنه‪ ،‬بقصد ارتكاب الزنى أو ارتكاب ما‬
‫يتيسر له من مقدماته‪ ،‬وكالمرأة في ذلك الذكر‪.‬‬

‫القسم الثالث‪ :‬الصائل على مال الغير ‪ ،‬والمال كل ما يتمول ويتقوم‬


‫شرعا‪ ،‬سواء في ذلك ما يمتلك بوجه من وجوه التملك الشرعي‪ ،‬أو بوضع اليد‬
‫عليه مثل كلب الصيد والحراسة والسمدة النجسة ونحوها‪.‬‬

‫فيدخل في المال النقد والمتقومات المختلفة من أرض ودور ومنتفعات سواء‬


‫أكانت طاهرة أم نجسة ‪.‬‬

‫حكم الصائل‪:‬‬

‫مر بنا آنفا أن الصل في باب الصيال قوله تعالى‪ ﴿ :‬فمن اعتدي عليكم‬
‫فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم ﴾ ( سورة البقرة‪ . ) 194 :‬فهذه الية توضح‬
‫لنا حكم الصائل ‪ ،‬وهو جواز مقابلة اعتدائه بالمثل ‪ ،‬أي بالرد والصد ‪ ،‬وإن‬
‫استلزم ذلك قتله ‪.‬‬

‫ويدخل في معنى العتداء الستطالة بالذى على كل من النفس والمال‬


‫والعرض‪ .‬فإذا قصد إنسان إلى أذى المسلم في نفسه أو عرضه أو ماله ؛ فهو‬
‫صائل ‪ ،‬ويشرع للمسلم المصول عليه رده ‪ ،‬وإن كان الصائل مساما أو قريبا‪ ،‬إل‬
‫أن يكون والدا يصول على ابنه من أجل المال فل يجوز رده بالمقاومة والعنف‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫متى يجب رد الصائل ومتى يجوز ذلك ؟‬

‫قلنا إن رد الصائل مشروع‪ ،‬وقد عرفت دليل ذلك من القرآن الكريم والسنة‬
‫النبوية‪ ،‬ولكن هل يجب على المصول عليه أن يقاوم ويرد عنه صائله في كل‬
‫الحوال أو يجب عليه في بعض الحوال ويجوز له في بعض الخر؟‬

‫الواقع أنه يجب عليه الدفع في بعض الحوال ويجوز له في البعض الخر‪،‬‬
‫وإليك بيان ذلك‪.‬‬

‫الصيال على المال‪:‬‬

‫إن الصيال إن كان على المال وكان المصول عليه هو المالك له فالمقاومة‬
‫في مثل هذه الحال ل تعدو أن تكون جائزة ‪ ،‬فإن شاء أن يستسلم ويترك للصائل‬
‫المال‪ ،‬فله ذلك ‪ ،‬وإن شاء أن يدفع الصائل فله ذلك أيضا‪.‬‬

‫هذا إذا كان المصول عليه مالكا لهذا المال‪ ،‬وأما إذا لم يكن مالكا له‪ ،‬بل‬
‫كان أمينا عليه لصحابه‪ ،‬كرئيس الدولة ونوابه والقائمين على حراسة أراضي‬
‫المسلمين وممتلكاتهم‪ ،‬كالجيش والجند‪ ،‬فيجب عليهم مقاومة الصائل ورده‪ ،‬لن‬
‫المين على مال غيره ملزم بالمحافظة عليه‪ ،‬ول يملك التبرع به ‪.‬‬

‫الصيال على البضع‪:‬‬

‫وإن كان الصيال على بضع ‪ ،‬فإن الرد والمقاومة ودفع الصائل تجب‬
‫عندئذ أيا كان الصائل ‪ ،‬مسلما أو كافرا‪ ،‬قريبا أو غريبا‪ ،‬لنه ل سبيل إلى إباحته‪،‬‬
‫ومثل البضع مقدماته‪.‬‬

‫الصيال على النفس‪:‬‬

‫وإن كان الصيال على النفس نظر‪ ،‬فإن كان الصائل كافرا وجب رده‪ ،‬فإن‬
‫تراخى عن ذلك باء بالثم والعصيان‪ ،‬لن الستسلم للكافر ذل في الدين‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫وكذلك يجب الدفع إذا كان الصائل بهيمة‪ ،‬لنها تذبح لستبقاء الدمي‪ ،‬فل‬
‫وجه للستسلم لها‪.‬‬

‫وكذلك يجب الدفع إن كان الصيال على عضو أو على منفعة عضو‪.‬‬

‫وأما إن كان الصائل مسلما وكان المصول عليه هو المقصود باليذاء‬


‫والقتل ‪ ،‬فإن الرد والمقاومة تكون عند ذاك جائزة ليست بواجبة‪ ،‬إذ له أن يضحي‬
‫بحياته في سبيل أن يحقن دم أخيه المسلم ولو كان معتديا عليه‪ ،‬بل استحب بعض‬
‫قال ‪" :‬فليكن كخير ابني آدم"‪( .‬سنن‬ ‫الفقهاء ذلك لما رواه أبو داود عن النبي‬
‫أبي داود [‪ ]4259‬في الفتن والملحم ‪،‬باب‪ :‬في النهي عن السعي في الفتنة؛ كما‬
‫أخرجه الترمذي وابن ماجه في الفتن أيضا)‪ .‬يعني قابيل وهابيل‪ ،‬أي كن كالذي لم‬
‫يبسط يده إلى أخيه بالقتل وهو هابيل ‪ ،‬ول تكن كالمعتدي القاتل وهو قابيل ‪ ،‬ولقد‬
‫عَل ْيهِمْ َنبَأَ ا ْب َنيْ آدَمَ‬
‫قص ال علينا قصتهما في القرآن الكريم إذ قال ‪ ﴿ :‬وَاتْلُ َ‬
‫خرِ قَالَ لَأَ ْق ُتَل ّنكَ قَالَ ِإ ّنمَا‬
‫بِالْحَقّ إِذْ َق ّربَا ُق ْربَانا َفتُ ُقبّلَ مِن َأحَدِ ِهمَا َولَمْ ُيتَ َقبّلْ مِنَ ال َ‬
‫َيتَ َقبّلُ اللّهُ مِنَ ا ْل ُمتّقِينَ ‪َ .‬لئِن بَسَطتَ ِإَليّ يَ َدكَ ِلتَ ْق ُتَلنِي مَا َأنَاْ ِببَاسِطٍ يَ ِديَ ِإَل ْيكَ لَأَ ْق ُتَلكَ‬
‫ف اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ‪ِ .‬إنّي ُأرِيدُ أَن َتبُوءَ بِِإ ْثمِي َوِإ ْث ِمكَ َف َتكُونَ مِنْ أَصْحَابِ‬
‫ِإنّي أَخَا ُ‬
‫صبَحَ مِنَ‬
‫طوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ َقتْلَ أَخِيهِ فَ َق َتلَهُ َفَأ ْ‬
‫جزَاء الظّاِلمِينَ ‪ .‬فَ َ‬
‫النّارِ وَ َذِلكَ َ‬
‫سرِينَ﴾ ( سورة المائة ‪.) 30- 27 :‬‬
‫الْخَا ِ‬

‫ولن عثمان رضي ال عنه يوم الدار منع عبيده من الدفاع عنه‪ ،‬وكانوا‬
‫أربعمائة ‪ ،‬وقال لهم‪ :‬من ألقى سلحه فهو حر‪ ،‬واشتهر ذلك في الصحابة فلم‬
‫ينكره أحد منهم‪.‬‬

‫وأما إن كان المصول عليه غير مقصود باليذاء أو القتل‪ ،‬بل كان المعتدي‬
‫يهدف إلى أسرته وأولده‪ ،‬أو يهدف إلى رعيته وشعبه‪ ،‬فإن المقاومة حينذاك‬
‫واجبة‪ ،‬لن المعتدي عليه أمين على أرواح الخرين‪ ،‬لكونه رب أسرة ‪ ،‬أو حاكم‬
‫أمة‪.‬‬

‫كيف يدفع الصائل ومتى يذهب دمه هدرا؟‬

‫‪82‬‬
‫الصائل إما أن يكون معصوم الدم كالمسلم‪ ،‬أو غير معصوم الدم كالمرتد‬
‫والزاني المحصن ‪ ،‬فإن كان غير معصوم الدم ‪ ،‬فللطرف المعتدى عليه أن يبدأ‬
‫مباشرة بقتله‪ ،‬وليس عليه أن ينذر أو يبدأ بالخف ثم الشد‪.‬‬

‫وأما إن كان معصوم الدم كمسلم وذمي ومعاهد‪ ،‬فإن تنبه المعتدى عليه إليه‬
‫وهو يباشر الجريمة‪ ،‬كتلبسه بالفاحشة‪ ،‬أو قتل بريء فله أن يباشر القتل دون أية‬
‫مقدمات ‪ ،‬وإذا قتل الصائل في هذه الحالة فدمه هدر‪ ،‬ل قصاص فيه ول دية‪.‬‬

‫وأما إن تنبه إليه المعتدى عليه وهو يحاول الوصول إلى غايته العدوانية‪،‬‬
‫من قتل أو سرقة أو فاحشة أو نحو ذلك؛ وجب عليه أن يدفع الصائل بالخف‬
‫فالخف‪ ،‬على حسب غلبة الظن‪ ،‬فان أمكن دفعه بكلم واستغاثة حرم الضرب ‪،‬‬
‫وإن أمكن بضرب بيد حرم الضرب بسوط‪ ،‬وإن أمكن بالضرب بسوط حرم‬
‫الضرب بعصا ‪ ،‬وإن أمكن بقطع عضو حرم القتل‪ ،‬لن ذلك جوز للضرورة‪ ،‬ول‬
‫ضرورة للثقل متى ما أمكن بالخف‪.‬‬

‫فإن لم يندفع إل بالقتل فقتله كان دمه هدرا ل قصاص فيه ول دية‪ ،‬أما إذا‬
‫أمكن دفعه بالخف فقتله لزمه القصاص‪ ،‬لنه حينذاك معتد فهو ضامن‪.‬‬

‫صور من الصيال وأحكامها‪:‬‬

‫أولً‪ :‬من نظر إلى حرم رجل في داره‪ ،‬من كوة أو ثقب عمدا‪ ،‬فرماه‬
‫صاحب الدار بخفيف كحصاة ونحوها‪ ،‬فأعماه أو أصاب قرب عينه فمات فهدر‪،‬‬
‫ودليل ذلك ما ورد في الصحيحين ‪" :‬لو اطلع أحد في بيتك‪ ،‬ولم تأذن له فخذفته‬
‫بحصاة ففقأت عينه ما كلن عليك جناح"‪( .‬رواه البخاري[‪ ]2158‬في الداب ‪،‬‬
‫باب‪ :‬تحريم النظر في بيت غيره‪ ،‬عن أبي هريرة رضي ال عنه)‪ .‬وهذا مشروط‬
‫بأن ل يكون للناظر محرم وزوجة‪ ،‬لن له في النظر شبهة ‪ ،‬كما ل يقطع بشركة‬
‫المال المشترك‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫ثانيا‪ :‬لو عزر ولي ووال من تحت أيديهما ‪ :‬زوج زوجته‪ ،‬ومعلم صغيرا‬
‫يتعلم منه؛ فإذا حصل به هلك ‪ ،‬فإن كان بضرب يقتل غالبا فالقصاص ما لم يكن‬
‫ذلك من أصل ‪ ،‬وإذا لم يكن الضرب قاتلً فمات فعليهم دية شبه العمد تدفعها‬
‫العاقلة‪ ،‬لن ذلك مشروط بسلمة العاقبة‪ ،‬إذ المقصود التأديب ل الهلك‪ ،‬فإذا‬
‫حصل هلك تبين أنه جاوز الحد المشروع‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬لو حد المام أو نائبه الحد المقدر من غير زيادة فمات المحدود فل‬
‫ضمان‪ ،‬لن المام بما يجب عليه‪ ،‬وسواء أكان ذلك الحد جلدا أو قطعا‪ ،‬وسواء‬
‫جلده في حر أو برد مفرطين أم ل‪ ،‬وسواء أكان في مرض يرجى برؤه أم ل ‪.‬‬

‫رابعا ‪ :‬للبالغ العاقل الحر إذا ظهر في بدنه سلعة أي خراج كهيئة الغدة أن‬
‫يقطعها إذا لم تكن مخوفة‪ ،‬أما إذا كانت مخوفة ول خطر في تركها فل يجوز له‬
‫قطعها‪ ،‬وكذلك الحكم إذا كان الخطر في قطعها أكثر‪.‬‬

‫ولب وجد قطع السلعة من صبي ومجنون مع الخطر إن زاد خطر الترك‬
‫على خطر القطع‪ ،‬لنها يليان صون مالهما عن الضياع‪ ،‬فصون بدنهما أولى ‪.‬‬

‫ومثل قطع السلعة ما يجري من العمليات الجراحية كقطع عضو متآكل‪ ،‬وقطع‬
‫العروق والكي وما أشبه ذلك‪.‬‬

‫وللسلطان فعل ذلك بل خطر‪ ،‬ويجوز للسلطان والب والجد وبقية الولياء‬
‫فصد وحجامة بل خطر‪ ،‬إذا أشار الطباء بذلك ‪ ،‬للمصلحة مع عدم الضرر‪ ،‬ول‬
‫يجوز ذلك للجنبي‪ ،‬لنه ل ولية له عليهما‪ .‬فلو فعل هؤلء ما يجوز لهم فمات‬
‫الشخص فل ضمان عليهم‪.‬‬

‫خامسا ‪ :‬إذا قتل جلد أو ضرب بأمر المام‪ ،‬فإن جهل ظلم المام وخطأه‬
‫لم يضمن هو‪ ،‬وكان الضمان على إمام قودا ومالً ل على الجلد‪ ،‬أما إذا علم‬
‫ظلمه وخطأه فالقصاص والضمان على الجلد وحده‪ ،‬هذا إذا لم يكن إكراه من‬
‫جهة المام ‪ ،‬فإن كان إكراه فالضمان عليهما بالمال قطعا ‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫سادسا ‪ :‬لو عضت يده خلصها بالسهل من فك لحييه فضرب شدقيه فإن‬
‫عجز فسلها فسقطت أسنانه فهدر ول ضمان‪ ،‬وذلك لما في الصحيحين ‪ :‬أن رجلً‬
‫فقال‪:‬‬ ‫عض يد رجل فنزع يده من فيه ‪ ،‬فوقعت ثناياه‪ ،‬فاختصما إلى رسول ال‬
‫" أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل‪ ،‬ل دية لك " ‪ ( .‬رواه البخاري [‪ ]6497‬في‬
‫الديات‪ ،‬باب‪ :‬إذا عض رجلً فوقعت ثناياه‪ ،‬ومسلم [‪ ]1673‬في القسامة‪ ،‬باب ‪:‬‬
‫الصائل على نفس النسان أو عضوه‪ ،‬عن عمران بن حصين رضي ال عنه)‪.‬‬

‫ولن النفس ل تضمن بالدفع‪ ،‬فالجزاء أولى‪.‬‬

‫" تنبيه " ‪:‬‬

‫يحرم على المتألم تعجيل الموت وإن عظم ألمه ولم يطقه‪ ،‬لن برءه‬
‫مرجو‪.‬‬

‫وذكر الخطيب الشربيني أن الشخص إذا ألقى نفسه في محرق علم أنه ل‬
‫ينجو منه إل إلى مائع مغرق ورآه أهون عليه من الصبر على لفحات المحرق‪،‬‬
‫جاز لنه أهون عليه‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫المسؤولية التقصيرية‬

‫المقصود بالمسؤولية التقصيرية ‪:‬‬


‫المسؤولية التي تقع على عاتق المكلف‪ ،‬ل تعدو أن تكون لحد سببين‪:‬‬
‫الول ‪ :‬قصد عدواني كمسؤولية القاتل عمدا‪ ،‬والسارق ‪ ،‬والمغتصب‪،‬‬
‫والقاذف‪ ،‬وقاطع الطريق ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إهمال وتقصير في الرعاية والحذر‪ ،‬تسبب عنها ضرر مالي أو‬
‫جسمي أصاب بريئا محترما معصوم الدم‪ ،‬كدابة رجل أتلفت زرعا لصاحب‬
‫بستان‪.‬‬
‫فالمسؤولية التقصيرية‪ :‬هي الحكم الشرعي الناتج عن تقصير النسان في‬
‫تقدير الظروف ‪ ،‬أو القيام بالرعاية والحذر المطلوبين‪ ،‬من ضمان ونحوه‪.‬‬
‫الثر الشرعي المترتب على المسؤولية التقصيرية‪:‬‬
‫إذا أمكن تصور التقصير في ميزان النظر الشرعي ؛ ثبتت المسؤولية‬
‫المترتبة عليه ‪ ،‬وإنما يظهر أثر هذه المسؤولية بضمان المقصر للمثل أو القيمة ‪،‬‬
‫أو بتكليفه بما ينزل منزلة الضمان كالدية والرش ونحوهما‪.‬‬
‫واعلم أن التقصير في نظر الشرع يثبت حكما إذا كانت الواقعة تحتمله ‪،‬‬
‫سواء أكان صاحب الواقعة مقصرا في الحقيقة أم ل ‪ ،‬فل يشترط لتكليفه بالضمان‬
‫أن يقوم تحقيق لبيان الدليل على تقصيره ‪ ،‬بل الشرط الوحيد أن يكون الواقعة مما‬
‫يتصور إمكان التفريط والتقصير فيها ‪ ،‬فيحكم على صاحبها بالضمان جبرا‬
‫للضرر‪ ،‬وحيطة في المر ‪ ،‬وتسوية للحقوق بين الناس ‪.‬‬
‫أمثلة تطبيقية للمسؤولية التقصيرية ‪:‬‬

‫‪86‬‬
‫‪ – 1‬القتل الخطأ ـ وقد مر بك تعريفه ـ يستوجب الدية‪ ،‬ول شك أن القاتل ل‬
‫يتحملها لذنب ارتكبه‪ ،‬أو لعدوان بدر منه‪ ،‬ولكنه يتحملها لتصور تقصيره في أخذ‬
‫الحيطة‪ ،‬حتى وإن لم يكن مقصرا في الواقع ونفس المر ‪.‬‬
‫‪ – 2‬أقام جدار بيته مائلً ‪ ،‬فانقض بدون قصد منه‪ ،‬فهلك تحته إنسان معصوم‬
‫الدم‪ ،‬أو تلف تحته مال‪ ،‬وجبت على عاقلته دية النسان‪ ،‬وعلى صاحب الجدار‬
‫ضمان المال لصاحبه‪ ،‬ل زجرا له عن عدوان أو معصية ارتكبها‪ ،‬بل جبرا‬
‫لمصيبة وقعت على أخيه‪ ،‬لسبب يتصور أن لتقصيره دخلً فيه ‪.‬‬
‫‪ – 3‬أتلفت الدابة أو السيارة مالً‪ ،‬كزرع ونحوه‪ ،‬أو أهلكت أو جرحت إنسانا‬
‫معصوم الدم؛ وجب على راكبها أو سائقها أو قائدها مالكا كان أو مستأجرا ضمان‬
‫الزرع والمال‪ ،‬ووجبت الدية على العاقلة ‪ ،‬لن جناية الدابة أو السيارة ونحوها‬
‫تعتبر في الحكم جناية من هي في يده ‪ ،‬أيا كان صاحب اليد‪.‬‬
‫صور احترازية ل مسؤولية فيها‪:‬‬
‫‪ – 1‬سقطت الدابة ميتة أو مات سائق السيارة أثناء قيادتها‪ ،‬فأهلكت الدابة أثناء‬
‫وقوعها أو السيارة أثناء اقتحامها مالً‪ ،‬أو قضت على إنسان‪ ،‬فل مسؤولية على‬
‫سائق الدابة‪ ،‬ول على أحد من ورثة سائق السيارة ‪ ،‬إذ ل مجال لتصور التقصير‬
‫على أحد‪.‬‬
‫‪ – 2‬نخس الدابة إنسان بغير إذن صاحبها أو مستأجرها الذي يضمن جنايتها‪،‬‬
‫فجمحت فأتلفت مالً ‪ ،‬فليس من ضمان على من هي في يده‪ ،‬لعدم تصور أي‬
‫تقصير منه في المر‪ ،‬وإنما الضمان على الناخس‪ ،‬إذ هو المتسبب المباشر‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما إذا سلم أجنبي سيارة شخص إلي مجنون؛ فساقها فأتلفت شيئا‬
‫فإن صاحب السيارة ـ وهو صاحب اليد ـ ل يعد ضامنا‪ ،‬إذ ل مجال لسناد أي‬
‫تقصير إليه‪ ،‬وإنما الضمان على الجنبي‪.‬‬
‫‪ – 3‬أرسل الدابة نهارا وأسلمها إلى طريقها الذي ألفته وعرفته‪ ،‬فأتلفت زرعا أو‬
‫نحوه في طريقها ؛ ل يضمن صاحبها ما أتلفت‪ ،‬إذ ل مجال لسناد أي تقصير‬
‫إليه‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫بخلف ما لو أرسلها ليلً فأتلفت شيئا ؛ فإنه لتقصيره في إرسالها في وقت‬
‫غير صالح لذلك ‪.‬‬
‫ـ فيما رواه أبو داود [‪]3570‬‬ ‫وتحقيقا لهذا الفرق قضى رسول ال‬
‫وغيره ـ على أهل الحوائط "أي البساتين" حفظ بساتينهم بالنهار‪ ،‬وعلى أهل‬
‫المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل ‪.‬‬
‫ذلك لن العرف جار على حفظ الزر وع ونحوها نهارا‪ ،‬وحفظ النعام‬
‫ليلً‪ ،‬فلو اختلف العرف اختلف الحكم تبعا له‪.‬‬
‫القاعدة المستخلصة للمسؤولية وعدمها‪:‬‬
‫نستخلص من المثلة السابقة القاعدة المعتمدة التالية ‪:‬‬
‫أ – تناط المسؤولية بمن باشر إحداث ضرر بالغير‪ ،‬أو تسبب لما ينتهي بإحداث‬
‫ضرر بالغير قصدا أو بغير قصد‪ ،‬وهي إما أن تكون مسؤولية عدوان أو مسؤولية‬
‫تقصير ‪.‬‬
‫ب – ل تناط المسؤولية بالمتسبب غير المباشر ‪ ،‬إذا انقطعت فاعلية تسببه‪ ،‬لتدخل‬
‫عنصر أجنبي‪ ،‬كأن حفر رجل بئرا في الطريق‪ ،‬فألقى آخر بنفسه فيها متعمدا‪ ،‬فل‬
‫يضمن الحافر‪ ،‬لن تسببه قد انقطع أثره بتدخل هذا الذي ألقي بنفسه في البئر‬
‫عمدا‪ .‬وكأن ترك رجل دابته أمام زرع بدون أن يوثقها ‪ ،‬فجاء آخر فنخسها‬
‫فجمحت فأتلفت بذلك شيئا‪ ،‬فإن المسؤولية تزول عن صاحبها المتسبب‪ ،‬لنتساخ‬
‫تسببه ذاك بفعل هذا الجنبي ‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬ل تحمل المسؤولية لحد في ضرر نجم عن قوة قاهرة ل يستطيع النسان‬
‫دفعها ‪ ،‬كمثال موت الدابة ‪ ،‬وموت سائق السيارة ‪ ،‬وكما لو وضع حجرا في‬
‫مكان آمن ‪ ،‬فأقبل سيل داهم جرف الحجر من مكانه‪ ،‬وألقي به حيث أتلف شيئا ‪،‬‬
‫إذ ل مجال لتصور التقصير في ذلك ‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫البغاة وأحكامهم‬

‫ممن هم البغاة ؟‬
‫البغاة ‪ :‬جمع باغ ‪ ،‬وهو كل متجاوز للحد الذي ينبغي أن يلتزمه‪ .‬والبغي‬
‫في أصل اللغة الظلم‪.‬‬
‫والمقصود بالبغاة هنا‪ :‬جماعة من المسلمين خرجوا على أمام المسلمين‪،‬‬
‫وتمردوا على أوامره‪ ،‬أو منعوا حقا من الحقوق‪ ،‬سواء أكان هذا الحق ل أم‬
‫للناس‪.‬‬
‫حكمهم ‪:‬‬
‫يجب على أمام المسلمين إذا بدرت بادرة البغي بالمعني الذي ذكرناه‪ ،‬من‬
‫أي فئة من فئات المسلمين؛ أ‪ ،‬يبادر فيبعث إليهم من يسألهم عن مطالبهم ‪ ،‬وما قد‬
‫يكرهونه من أمره‪ ،‬فإن ذكروا علة يمكن إزالتها دون أن تترك أثرا سيئا أو‬
‫تستلزم ضررا؛ وجب إجابتهم إلى ما يريدون ‪ ،‬وإن لم يكن ذلك أو لم يذكروا علة‬
‫وجيهة لبغيهم‪ ،‬وعظهم وخوفهم بالقتال‪ ،‬وأمرهم بالعود إلى الطاعة‪ ،‬فإن لم يتعظوا‬
‫أعلمهم بالقتال‪ ،‬فإن أبوا وأصروا على ما هم عليه قاتلهم وجوبا ‪.‬‬
‫شروط قتال البغاة‪:‬‬
‫يشترط لقتال البغاة الشروط التالية‪:‬‬
‫أولً‪ :‬أن يكونوا في شوكة ومنعة‪ ،‬لكثرة أو قوة‪ ،‬ولو بحصن بحيث يمكنهم‬
‫معها مقاومة المام‪ ،‬فيحتاج في ردهم إلى الطاعة لكلفة من بذل مال وتحصيل‬
‫رجال‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن يخرجوا بشكل فعلي عن قبضة المام بسبب المنعة التي ذكرناها‪،‬‬
‫إذ لو كانوا في قبضته وتحت سلطانه؛ لكان في غنى عن أن يناصبهم القتال‪،‬‬
‫ولمكن أن يكتفي بمعاقبتهم بما يراه من حبس وغيره‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أن يعتمدوا تأويلً سائغا له مجال في النظر والجتهاد‪ ،‬يسوغون به‬
‫تمردهم عليه‪ ،‬وإن كان هذا التأويل فاسدا إل أنه ل يقطع بفساده‪ ،‬وذلك كتأويل‬

‫‪89‬‬
‫الذين خرجوا على علي رضي ال عنه من أهل الجمل وصفين‪ ،‬بأنه يعرف قتلة‬
‫عثمان رضي ال عنه‪ ،‬ويقدر عليهم ول يقتص منهم لمواطأته إياهم ‪.‬‬
‫فلو لم يكن لهم تأويل أو اجتهاد يعتمدون عليه في عصيانهم للمام ؛ لم‬
‫يترتب عليهم حكم البغاة‪ ،‬ووجب قتالهم بوصف كونهم فسقة‪ ،‬بل ربما يكفرون إذا‬
‫استحلوا عصيان إمام المسلمين‪ ،‬والخروج على أمره دون معتمد شرعي يستندون‬
‫إليه‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬أن يكون لهم مطاع فيهم يحصل به قوة لشوكنهم ‪ ،‬وإن لم يكن إماما‬
‫منصوبا فيهم‪ ،‬يصدرون عن رأيه‪ ،‬إذ ل قوة لمن ل يجمع كلمتهم مطاع ‪.‬‬
‫هذا ومن المهم أن تعرف أن البغاة ل يفسقون ول يكفرون ‪ ،‬وإن وجب‬
‫على المام قتالهم ؛ لن لهم من وجهة النظر الشرعي ما يعتبر عذرا لهم بزعمهم‬
‫هم ‪.‬‬
‫دليل حكم قتالهم وحكمته‪:‬‬
‫أما دليل وجوب قتالهم فقوله عز وجل‪َ ﴿ :‬وإِن طَائِ َفتَانِ مِنَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ ا ْق َت َتلُوا‬
‫حتّى تَفِيءَ ِإلَى‬
‫خرَى فَقَا ِتلُوا اّلتِي َت ْبغِي َ‬
‫علَى الْأُ ْ‬
‫صلِحُوا َب ْي َن ُهمَا فَإِن َب َغتْ إِحْدَا ُهمَا َ‬
‫فََأ ْ‬
‫حبّ ا ْلمُقْسِطِينَ‬
‫ن اللّهَ يُ ِ‬
‫صلِحُوا َب ْي َن ُهمَا بِا ْلعَدْلِ َوأَقْسِطُوا إِ ّ‬
‫َأ ْمرِ اللّهِ َفإِن فَاءتْ َفَأ ْ‬
‫﴾ (الحجرات‪. ) 9 :‬‬
‫قال العلماء‪ :‬هذه الية وإن لم يكن فيها ذكر الخروج على المام‪ ،‬لكنها‬
‫تشمله لعمومها‪ ،‬أو تقتضيه قياسا‪ ،‬لنه إذا طلب القتال لبغي طائفة على طائفة‬
‫فلن يطلب ذلك للبغي على المام من باب أولي‪.‬‬
‫‪ " :‬من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة‬ ‫وكالية حديث رسول ال‬
‫السلم من عنقه "‪( .‬أخرجه أبو داود [‪ ]4758‬في السنة‪ ،‬باب ‪:‬في القتل الخوارج‪،‬‬
‫عن أبي ذر رضي ال عنه)‪.‬‬
‫وأما الحكمة من وجوب قتالهم ـ رغم ما قلنا من أنهم يعتمدون في‬
‫عصيانهم على شبهة شرعية ـ فهي أن استتباب المر للمام بعد صحة إمامته‬
‫على المسلمين وشرعيتها‪ ،‬أساس كلي هام لجتماع شمل المسلمين وبقاء وحدتهم‪،‬‬
‫وخوف العداء منهم‪ ،‬وهو ما أمر ال المسلمين بالدخول في بيعة أمام لهم من‬

‫‪90‬‬
‫أجله‪ ،‬وذلك كان من الواجب على عامة المسلمين طاعة المام ولو كان جائرا‪،‬‬
‫لكن الطاعة مشروطة بما ل معصية فيه‪ ،‬وذلك لن عصيان العامة للمام أخطر‬
‫على المسلمين من وجوره في حقهم ‪.‬‬
‫فمن أجل ذلك أمر ال الحاكم بقتال أهل البغي ‪ ،‬دون أن يشفع لهم‬
‫اجتهادهم ومعتمدهم الذي يستندون إليه ‪ ،‬إذ إن خضوعهم لمره أعظم خيرا‬
‫للمسلمين من تمسكهم باجتهادهم ‪.‬‬
‫طبيعة قتال البغاة ومظاهر الفرق بينه وبين غيره ‪:‬‬
‫يمتاز قتال البغاة عن القتال غيرهم من الكفار والفسقة والعداء بمظاهر‬
‫هامة ‪ ،‬نظرا إلى أن البغاة ل يفسقون كما قلنا ‪ ،‬ول ينسبون إلى أي بدعة ‪ ،‬وإنما‬
‫الضرورة هي التي تدعو إلى قتالهم حفظا للمن ‪ ،‬ووقاية لوحدة المسلمين أن ل‬
‫تصدعها الفتن ‪ ،‬وإليك خلصة هذه المظاهر‪:‬‬
‫أ – يجب أن يسبق القتال نصح وحوار بينهم وبين ممثلي المام ‪ ،‬كما فعل علي‬
‫بن أبي طالب رضي ال عنه مع الذين خرجوا عليه ‪ ،‬فقد بعث إليهم عبد ال بن‬
‫عباس رضي ال عنه ليناظرهم فيما يدعون ‪ .‬فلعلهم يرجعون إلي الحق أو يرجع‬
‫بعضهم ‪.‬‬
‫ففي الحلية لبي نعيم عن ابن عباس قال ‪ :‬لما اعتزلت الحرورية قلت لعلي‬
‫‪ :‬يا أمير المؤمنين أبرد عني الصلة لعلي آتي هؤلء القوم فأكلمهم‪ ،‬قال ‪:‬أني‬
‫أتخوفهم عليك ‪ ،‬قال قلت كل إن شاء ال‪ ،‬فليست أحسن ما أقدر عليه من هذه‬
‫اليمانية ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة‪ ،‬فدخلت علي قوم لم أر قوما‬
‫أشد اجتهادا منهم‪ ،‬أيديهم كأنها ثفن إبل ـ جمع ثفنة وهي ركبة البعير وما مس‬
‫الرض من كركرته ـ ووجوههم مقلبة من آثار السجود‪ ،‬قال‪ :‬فدخلت فقالوا‪:‬‬
‫مرحبا بك يا ابن عباس‪ ،‬ما جاء بك؟ قال؟ جئت أحدثكم‪ ،‬على أصحاب رسول ال‬
‫نزل الوحي ‪ ،‬وهم أعلم بتأويله‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬ل تحدثوه‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫وختنه وأول‬ ‫لنحدثنه‪ .‬قال ‪ :‬فقلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول ال‬
‫ممن آمن به‪ ،‬وأصحاب رسول ال معه؟ قالوا‪ :‬أولهن أنه حكم الرجال في دين‬
‫ال ‪ ،‬وقد قال ال عز وجل ‪ ﴿ :‬إن الحكم إل ال ﴾ (سورة النعام ‪ ، )57 :‬قال‪:‬‬

‫‪91‬‬
‫قلت‪ :‬وماذا؟ قالوا ‪ :‬قاتل ولم يسب ولم يغنم‪ ،‬لئن كانوا كفارا لقد حلت له أموالهم‪،‬‬
‫وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬ثم ماذا؟ قالوا‪ :‬ومحا نفسه‬
‫من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين ‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب ال المحكم‪ ،‬وحدثتكم من سنة‬
‫ما ل تنكرون أترجعون ؟ قالوا‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت أما قولكم إنه حكم‬ ‫نبيكم‬
‫حرُمٌ‬
‫صيْدَ َوأَنتُمْ ُ‬
‫الرجال في دين ال فإنه يقولك ﴿ يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ لَ تَ ْق ُتلُواْ ال ّ‬
‫حكُمُ بِهِ َذوَا عَدْلٍ مّنكُمْ ﴾‬
‫جزَاء ّمثْلُ مَا َقتَلَ مِنَ ال ّنعَمِ يَ ْ‬
‫َومَن َق َتلَهُ مِنكُم ّم َت َعمّدا فَ َ‬
‫( سورة المائدة‪ . ) 95 :‬وقال في المرأة وزوجها‪َ ﴿ :‬وإِنْ خِ ْفتُمْ شِقَاقَ َب ْي ِن ِهمَا‬
‫حكَما مّنْ أَ ْهِلهَا ﴾ ( سورة النساء ‪ . ) 35 :‬أنشدكم ال‬
‫حكَما مّنْ أَ ْهلِهِ وَ َ‬
‫فَا ْب َعثُواْ َ‬
‫أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلح ذات بينهم أحق‪ ،‬أم في أرنب‬
‫ثمنها ربع درهم؟ فقالوا‪ :‬اللهم في حقن دمائهم وصلح ذات بينهم‪ ،‬فقال ‪ :‬أخرجت‬
‫من هذه؟ قالوا‪ :‬اللهم نعم ‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأما قولكم إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم‪ ،‬أتسبون أمكم ثم تستحلون منها‬
‫ما تستحلون من غيرها؟ فقد كفرتم‪ ،‬وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم‬
‫سهِمْ‬
‫وخرجتم من السلم‪ ،‬أن ال عز وجل يقول ‪ ﴿ :‬ال ّن ِبيّ َأ ْولَى بِا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ مِنْ أَنفُ ِ‬
‫َوَأ ْزوَاجُهُ ُأ ّمهَا ُتهُمْ ﴾ (سورة الحزاب‪ ، )6 :‬فأنتم تترددون بين ضللتين‪ ،‬فاختاروا‬
‫أيتهما شئتم‪ ،‬أخرجت من هذه؟ قالوا‪ :‬اللهم نعم ‪.‬‬
‫دعا‬ ‫قال ‪ :‬وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين؛ فإن‪ ،‬رسول ال‬
‫قريشا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابا‪ ،‬فقال‪ :‬اكتب هذا ما قاضي‬
‫عليه محمد رسول ال‪ ،‬فقالوا ‪ :‬وال لو كنا نعلم أنك رسول ال ما صددناك عن‬
‫البيت ول قاتلناك‪ ،‬ولكن اكتب محمد بن عبدال‪ ،‬فقال ‪ :‬وال إني لرسول ال وإن‬
‫كذبتموني‪ ،‬اكتب يا على محمد بن عبدال ‪ .‬فرسول ال كان أفضل من علي‪،‬‬
‫أخرجت من هذه ؟ قالوا‪ :‬اللهم نعم ‪ ،‬فرجع منهم عشرون ألفا‪ ،‬وبقي منهم أربعة‬
‫آلف فقتلوا‪( .‬انظر كتاب الحلية لبي نعيم [‪ 1/318‬ـ ‪. ) ]320‬‬
‫وفي البداية والنهاية لبن كثير‪ :‬أن عليا بعث إلى الخوارج عبدال بن‬
‫عباس‪ ،‬حتى إذا توسط عسكرهم‪ ،‬فقام ابن الكوا فخطب الناس فقال‪ :‬يا حملة‬

‫‪92‬‬
‫القرآن‪ ،‬هذا عبدال بن عباس‪ ،‬فمن لم يكن يعرفه فإني أعرفه‪ ،‬ممن يخاصم في‬
‫كتاب ال بما ل يعرفه‪ ،‬هذا ممن نزل فيه وفي قومه‪ ﴿ :‬بل هم قوم خصمون ﴾‬
‫فردوه إلى صاحبه ول تواضعوه كتاب ال‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬وال لنواضعنه‪ ،‬فإن‬
‫جاء بحق نعرفه لنتبعنه‪ ،‬وإن جاء بباطل لنكبتنه بباطلة‪ ،‬فواضعوا عبدال الكتاب‬
‫ثلثة أيام‪ ،‬فرجع منهم أربعة آلف كلهم تائب‪ ،‬فيهم ابن الكوا‪ ،‬حتى أدخلهم على‬
‫علي الكوفة ‪. 1‬‬
‫فإن لم يجد الحوار والنصح بينهم وبين ممثلي المام؛ يتل ذلك التحذير‬
‫والتخويف من عاقبة الستمرار على العصيان‪ ،‬ثم يتبع ذلك النذار بالقتال ‪ ،‬حتى‬
‫إذا لم تجد هذه السباب كلها شيئا؛ وجب القتال‪ .‬وقد مر بيان هذا غي أول البحث‪.‬‬
‫ب – ل يجوز بعد بدء القتال ملحقة المدبرين منهم ‪ ،‬ول القضاء على المثحنين‬
‫بالجراح منهم‪ ،‬وإنما يحصر القتال في مواجهة من يواجه القتال بمثله‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬ل يجوز قتل كم يؤسر منهم‪ ،‬لصريح ما ورد من النهي عن ذلك في حديث‬
‫قال لبن مسعود‪ :‬يا ابن أم عبد ما‬ ‫البيهقي [‪ ]8/182‬عن ابن عمر أن النبي‬
‫‪ :‬ل يتبع‬ ‫حكم من بغي من أمتي ؟ قال‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫مدبرهم‪ ،‬ول يجهز على جريحهم‪ ،‬ول يقتل جريحهم ‪ ،‬وزاد البيهقي ‪ :‬ول يغنم‬
‫فيئهم‪ .‬وروى ابن أبي شيبة ـ مغني المحتاج [‪ ]4/127‬ـ أن عليا رضي ال عنه‬
‫أمر مناديه يوم الجمل فنادي‪ :‬ل يتبع مدبر‪ ،‬ول يذفف على جريح‪ ،‬ول يقتل أسير‪،‬‬
‫ومن أغلق بابه فهو آمن‪ ،‬ومن ألقى سلحه فهو آمن ‪.‬‬
‫نعم يجب حبسه إن لم يذعن للمبايعة والحتفاظ به‪ ،‬إلى أن تنقضي الحرب‬
‫ويتفرق جمع البغاة‪ ،‬ليكفى شره‪ ،‬ثم يطلق سراحه بعد أن يأخذ عليه العهد أن ل‬
‫يعود إلى القتال‪ ،‬فإن خيف من نكثه العهد جاز إبقاؤه في السجن‪ ،‬حتى يغلب على‬
‫الظن صدقه في العهد ‪.‬‬
‫أما إذا أذعن للطاعة قبل انقضاء الحرب؛ وظهرت علئم الصدق عليه‪،‬‬
‫فيجب المبادرة إلى إطلق سراحه‪.‬‬
‫د – ل يجوز امتلك شيء من أموالهم على وجه الغنيمة‪ ،‬بل ينظر‪:‬‬
‫‪ 1‬البداية والنهاية‪ . ]7/281[ :‬لنواضعنه‪ :‬في القاموس‪ :‬المواضعة المراهنة ومشاركة البيع والموافقة في المر‪ .‬وهلم أواضعك الرأي‪:‬‬
‫أطلعك على رأيي وتطلعني على رأيك ‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫فما كان منها آلت حرب فيحتفظ بها إلى أن تضع الحرب أوزارها‪،‬‬
‫ويطمئن الحاكم إلى أنهم لم يعودوا إلى القتال‪ ،‬فتعاد إليهم عند ذاك‪ ،‬فإن بقي‬
‫الخوف قائما من عودهم إلى القتال لم تسلم إليهم‪ ،‬وبقيت تحت يد الدولة على وجه‬
‫الحتفاظ ل المتلك‪.‬‬
‫وما كان منها أموالً عادية؛ فيجب إعادته إلى أصحابه عند انقضاء‬
‫الحرب‪ ،‬وإن خفنا عودهم إلى القتال‪.‬‬
‫الثار المترتبة على قتال البغاة ‪:‬‬
‫‪ – 1‬إذا بدأ المام قتال البغاة بالشروط التي ذكرناها‪ ،‬وبعد المقدمات التي‬
‫أوضحناها‪ ،‬فمن قتل منهم أثناء المعركة فدمه هدر‪ ،‬ل يتابع قاتله بقصاص ول‬
‫دية‪ ،‬لما عرفت من مشروعية هذا القتال ووجوبه‪.‬‬
‫‪ – 2‬إذا انقضت الحرب وقتل جنود المام أحد البغاة‪ ،‬فإن كان قد بايع على السمع‬
‫والطاعة اقتص من القاتل‪ ،‬إل أن يحلف القاتل أنه ظنه باغيا أي مصرا على‬
‫العصيان‪ ،‬فيطالب بالدية ويسقط القصاص‪.‬‬
‫‪ – 3‬إذا قتل السير أو ذفف الجريح وجبت ديته على القاتل‪ ،‬وسقط القصاص‬
‫‪" :‬ادرؤوا الحدود‬ ‫لوجود الشبهة في جواز قتله‪ ،‬وقد مر بك حديث رسول ال‬
‫ما استطعتم"‪.‬‬

‫أحكام الردة‬

‫معنى الردة‪:‬‬

‫‪94‬‬
‫الردة في اللغة‪ :‬الرجوع عن الشيء إلى غيره ‪ ،‬وهي في اصطلح‬
‫الشريعة السلمية‪ :‬الرجوع عن السلم بعد اعتناقه إلى أي دين من الديان‪ ،‬أو‬
‫عقيدة من العقائد‪.‬‬
‫والردة أفحش أنواع الكفر‪ ،‬وأغلظه حكما وأثرا‪ ،‬ومن الدلة على ذلك قول‬
‫طتْ‬
‫حبِ َ‬
‫ال تبارك وتعالى‪َ ﴿ :‬ومَن َي ْرتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ َف َي ُمتْ وَ ُهوَ كَا ِفرٌ فَُأ ْولَـ ِئكَ َ‬
‫خ َرةِ َوُأوْلَـ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ (سورة‬
‫عمَاُلهُمْ فِي ال ّد ْنيَا وَال ِ‬
‫أَ ْ‬
‫البقرة ‪.)217 :‬‬
‫ضابط ما تكون به الردة ‪:‬‬
‫تقع الردة عن السلم بواحد من ثلثة أشياء‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إنكار حكم مجمع عليه‪ ،‬معروف في الدين بالضرورة‪ :‬كإنكار‬
‫وجوب الزكاة والصوم والحج‪ ،‬وكإنكار حرمة شرب الخمر‪ ،‬أو أكل الربا‪ ،‬وإنكار‬
‫أن القرآن كلم ال عز وجل‪ ،‬فهذه أحكام معروفة بالضرورة لكل مسلم‪ ،‬يستوي‬
‫فيها علماء الدين وغيرهم‪ ،‬ولذلك كان الجحود بها من أسباب الردة‪.‬‬
‫أما إن أنكر حكما غير مجمع عليه‪ ،‬أو مجمع عليه ولكنه خفي عن كثير‬
‫من الناس‪ ،‬فإن إنكاره ل يستلزم الردة ‪ ،‬كما أنكر مشروعية صلة الضحي‪ ،‬أو‬
‫أنكر حرمة زواج المطلقة قبل انقضاء عدتها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يفعل فعلً من خصائص الكفار‪ :‬كالسجود لصنم‪ ،‬وممارسة‬
‫شيء من عبادات الكفار ‪ ،‬أو أن يفعل فعلً يتنافي مع التزامه لدين السلم‪ :‬كأن‬
‫يلقي مصحفا في قاذورة متعمدا‪ ،‬وكالمصحف كتب الحديث والتفسير‪ ،‬بشرط أن‬
‫يفعل ذلك مختارا ل مكرها ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أن ينطق بقول يتنافى مع التزامه السلم ‪ ،‬سواء صدر ذلك عنه‬
‫اعتقادا‪ ،‬أو عنادا‪ ،‬أو استهزاء ؛ مثاله‪ :‬أن يسب الدين‪ ،‬أو الله‪ ،‬أو أحد النبياء‪،‬‬
‫أو أن يقول مثلً‪ :‬السلم ل يتلءم مع الرقي النساني‪ ،‬أو الخالق غير موجود‪،‬‬
‫أو الزكاة تتنافى مع المجتمع الشتراكي‪ ،‬أو إن إلزام المرأة بالحجاب مظهر من‬
‫مظاهر التخلف‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫فمثل هذه القوال مستوجبة للردة‪ ،‬سواء كان الدافع إلى النطق بها اعتقادا‪،‬‬
‫أو غضبا‪ ،‬أو عنادا‪ :‬كأكثر الذين يسبون الدين‪ ،‬أو يشتمون الله عز وجل في‬
‫ظروف غضب أو مشاكسة‪ ،‬أو استهزاء لمجرد إثارة الضحك وأسباب اللهو‬
‫والسخرية‪ :‬كمن يقول لزميله الذي يعظه ‪ :‬إذا دخلت الجنة غدا فأغلق الباب‬
‫خلفك‪ ،‬ول تدخلني معك‪.‬‬
‫التحذير من الوقوع في الردة ‪:‬‬
‫لحظت مما مضي بيانه أن الردة قد تكون بكلمة يتلفظ بها القائل‪ ،‬أو‬
‫بتصرف يراه بسيطا غير ذي مدلول‪ ،‬أو بتكذيب لحقيقة يظن صاحبه أنه ل يعبر‬
‫بذلك عن أكثر من حرية الرأي والتفكير‪.‬‬
‫غير أن هذا التصرف أو الكلم الذي يراه صاحبه أمرا غير ذي بال‪ ،‬ينبني‬
‫عليه انقلب كلي خطير في مصير صاحبه بعد الموت‪ ،‬فهو بعد أن كان في حكم‬
‫ال تعالى من المسلمين الذين يجوز أن يتجاوز ال عن جميع سيآتهم‪ ،‬ويجعل ذلك‬
‫كله داخلً في شفاعة إسلمهم‪ ،‬أصبح من الكافرين الذين يئسوا من رحمة ال‬
‫تعالى مهما جاؤوا بد من العمال النسانية المبرورة ‪.‬‬
‫كما ينبني عليه انقلب خطير في حكم النظر إليه‪ ،‬والتعامل معه‪ ،‬في نطاق‬
‫المجتمع السلمي في دار الدنيا‪ ،‬حيث تسلب منه الحقوق التالية‪:‬‬
‫أ – حق الحياة ‪ ،‬إذ يجب إعدامه‪.‬‬
‫ب – حق المتلك‪ ،‬حيث تسقط ملكيته‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬تلغى سائر أوضاعه الشرعية بالنسبة لحالته الشخصية من زواج وميراث‬
‫وغير ذلك ‪ .‬وسنذكر تفصيل ذلك فيما يلي‪.‬‬
‫إذا علمت هذا‪ ،‬فيجب على المسلم أن يحجز لسانه عن التفوه بالكلمات التي‬
‫تستوجب الردة‪ ،‬مهما ثار به غضبه‪ ،‬وليجهد جهده أن يعبر عن غضبه وثورته‬
‫بأي شيء أخر غير الكلمات التي تستوجب الردة‪ ،‬فتستوجب على أثر ذلك خراب‬
‫داره في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫حد الردة‪:‬‬

‫‪96‬‬
‫وحد الردة يشمل الرجل والمرأة على السواء دون بينهما‪ ،‬فإذا صدر من‬
‫الرجل أو المرأة ما يستوجب الردة مما مر ضابطه آنفا‪ ،‬وكان كل منهما بالغا‬
‫عاقلً‪ ،‬ترتيب الحكام التالية‪:‬‬
‫أولً‪ :‬وجوب استتابته فورا‪ ،‬إذ يفرض أنه لم يرتد إل لشبهة اعترضته‪ ،‬أو‬
‫لغضب أفقده الرشد والضبط أفقده الرشد والضبط ‪ ،‬فينبه إلى الحق والرشد‪ ،‬عن‬
‫طريق الستتابة والنصح‪ ،‬والتنبيه إلى بطلن ما ارتد إليه‪ ،‬وخطورة ما انقلب إليه‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬التحذير من عواقب الصرار على ردته إن لم يستجب لطلب التوبة‪،‬‬
‫حيث يوضح له أنه سيقتل إن هو أصر على كفره‪ ،‬عنادا كان‪ ،‬أو اعتقادا‪ ،‬أو‬
‫استهزاءً‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬وجوب القتل إن أصر على ردته‪ ،‬ولم يتب ‪ ،‬لقوله ‪ " :‬من بدل دينه‬
‫فاقتلوه "‪( .‬رواه البخاري [‪ ]2854‬في الجهاد‪ ،‬باب‪ :‬ل يعذب بعذاب ال ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس رضي ال عنهما)‪.‬‬
‫وروى البخاري [‪ ]6484‬في الديات‪ ،‬باب‪ :‬قول ال تعالى‪ :‬أن النفس‬
‫بالنفس؛ ومسلم [‪ ]1676‬في كتاب القسامة‪ ،‬باب‪ :‬ما يباح بد دم المسلم‪ ،‬عن عبدال‬
‫قال‪ " :‬ل يحل دم امرئ مسلم يشهد أن ل أله إل ال‬ ‫رضي ال عنه أن النبي‬
‫وأني رسول ال إل بإحدى ثلث‪ :‬النفس بالنفس‪ ،‬والثيب الزاني ‪ ،‬والمفارق لدينه‬
‫التارك للجماعة "‪.‬‬
‫وروى الدار قطني [‪ ]3/118‬عن جابر رضي ال عنه‪ :‬أن امرأة يقال لها‬
‫أن يعرض عليها السلم ‪ ،‬فإن تابت وإل قتلت‪.‬‬ ‫أم رومان ارتدت‪ ،‬فأمر النبي‬
‫شروط إقامة الحد على المرتد‪:‬‬
‫قلنا فيما سبق‪ :‬إن حد الردة هو القتل فورا‪ ،‬ولكن ل يقام حد الردة أل إذا‬
‫توفرت الشروط التالية‪:‬‬
‫‪ – 1‬البلوغ والعقل ‪ ،‬فل عبرة بردة الصبي والمجنون ‪ ،‬لنهما غير مكلفين‪ ،‬إل‬
‫أن على ولي الصبي تأديبه وزجره واستتابته مما تصرف أو تفوه به‪.‬‬
‫‪ – 2‬الستتابة‪ ،‬فل يجوز قتل المرتد قبل أن يستتاب‪ ،‬ولكنه بعد الستتابة يقتل‬
‫فورا‪ ،‬ول يمهل إن لم يتب‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫روى البخاري [‪ ]6525‬في كتاب استتابة المرتدين ‪ ،‬باب‪ :‬حكم المرتد‬
‫والمرتدة واستتابتهم‪ :‬حديث تولية أبي موسى الشعري رضي ال عنه على اليمن‪،‬‬
‫فيه‪ :‬ثم اتبعه معاذ بن جبل رضي ال عنه‪ ،‬فلما قدم عليه ألقى له وسادة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫انزل‪ ،‬وإذا رجل عنده موثق‪ ،‬قال‪ :‬ما هذا؟ قال‪ :‬كان يهوديا فأسلم‪ ،‬ثم تهود‪ ،‬قال‪:‬‬
‫اجلس‪ ،‬قال ‪ :‬ل أجلس حتى يقتل‪ ،‬قضاء ال ورسوله‪ ،‬ثلث مرات‪ ،‬فأمر به فقتل‪.‬‬
‫[قضاء ال‪ :‬أي هذا قضاء ال ‪ .‬ثلث مرات‪ :‬أي كرر قوله ثلثا]‪.‬‬
‫‪ – 3‬ثبوت ردته بإقرار أو شهادة صحيحة متوفرة الشروط‪.‬‬
‫الثار المترتبة على الرتداد‪:‬‬
‫إذا ارتد المسلم‪ ،‬وثبت على ردته‪ ،‬ولم يتب‪ ،‬ترتبت‪ ،‬آثار هامة على ذلك‪،‬‬
‫علوة على ما ذكرنا من وجوب إقامة الحد عليه قتلً‪ ،‬وهذه الثار هي‪:‬‬
‫‪ – 1‬الحجر التام على سائر أمواله‪ ،‬حيث توضع تحت إشراف المام الكبر‪ ،‬أو‬
‫من يرفع الحجر عنها‪ ،‬ويتبين أنه كان خلل ارتداده مالكا لها‪ .‬وإن لم يتب وقتل‪،‬‬
‫تبين أن ملكيته عليها زالت منذ ارتداده‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أن الحكم بمصير ملكيته يكون موقوفا على معرفة نتيجة أمره‬
‫من توبة‪ ،‬أو إصرار يعقبه قتل‪.‬‬
‫‪ – 2‬بطلن سائر تصرفاته وعقوده المدنية من بيع وشراء وهبة ورهن‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬إذ يفقد بالردة أهليته لذلك كله‪.‬‬
‫‪ – 3‬انقطاع حق التوارث فيما بينه وبين أقاربه‪ .‬فلو مات قريب له مسلم أثناء‬
‫ردته‪ ،‬لم يرث منه شيئا‪ ،‬وإن كان في الصل معدودا من الورثة له‪ ،‬لقوله عليه‬
‫الصلة والسلم‪" :‬ل يرث المسلم الكافر‪ ،‬ول الكافر المسلم"‪( .‬رواه البخاري [‬
‫‪ ]6383‬في الفرائض‪ ،‬باب‪ :‬ل يرث المسلم الكافر ول الكافر المسلم؛ ومسلم [‬
‫‪ ]1614‬في الفرائض‪ ،‬في فاتحته‪ ،‬عن أسامة بن زيد رضي ال عنهما)‪.‬‬
‫‪ – 4‬يفصل بينه وبين زوجته‪ ،‬ويعتبر عقد الزواج ببينهما موقوفا‪ ،‬فإن تاب ورجع‬
‫إلى السلم خلل مدة العدة ‪ ،‬عادت إليه زوجته بدون عقد‪ ،‬ول رجعة‪ ،‬ويتبين‬
‫استمرار عقده الصلي صحيحا‪ ،‬وإن لم يتب خلل مدة العدة‪ ،‬فسخ العقد ‪ ،‬وتبين‬

‫‪98‬‬
‫أن فسخه كان منذ ساعة ارتداده‪ ،‬فإذا تاب بعد ذلك لم يكن له أن يعود إليها إل‬
‫بعقد ومهر جديدين ‪.‬‬
‫الثار المترتبة على قتل المرتد ‪:‬‬
‫وهي غير الثار المترتبة على ردته بقطع النظر عن القتل‪ ،‬وهي تتلخص‬
‫فيما يلي‪:‬‬
‫‪ – 1‬حرمة تغسيله وتكفينه والصلة عليه‪ ،‬إذ لم يستوجب القتل إل لخروجه عن‬
‫دارة السلم وحكمه‪ ،‬وإنما يغسل ويكفن ويصلي عليه من كان خاضعا لدين‬
‫السلم ملتزما لحكمه‪ ،‬قال ال عز وجل‪َ ﴿ :‬ومَن َي ْرتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ َف َي ُمتْ وَ ُهوَ‬
‫كَا ِفرٌَ ﴾ (سورة البقرة ‪.)217 :‬‬
‫‪ – 2‬ل يدفن في مقابر المسلمين‪ ،‬بل تحفر له حفرة في مكان ما بعيدا عن مقابر‬
‫المسلمين‪ ،‬ويوارى فيها ‪.‬‬
‫‪ – 3‬ل يرثه أحد من أقاربه‪ ،‬لنقطاع الساس الذي تقوم عليه القرابة المعتبرة في‬
‫السلم‪ ،‬وهو وحدة الدين‪ ،‬للحديث السابق ذكره‪ ،‬ولن ملكيته تزول عن الموال‬
‫التي في حوزته بالردة‪ ،‬غير أنه ل يقضي بذلك إل بعد موته مرتدا‪ ،‬إذ يتبين بذلك‬
‫أنه منذ اللحظة التي ارتد فيها عن السلم لم يعد مالكا لشيء مما تمتد يده عليه ‪.‬‬

‫أحكام ترك الصلة‬

‫‪99‬‬
‫أهمية الصلة في السلم ‪:‬‬
‫الصلة أول مظهر من مظاهر السلم في حياة المسلم ‪ ،‬وأهم تعبير عن‬
‫عبودية النسان ل عز وجل ‪ ،‬وحسبك من أهميتها خطورة أمرها قول ال عز‬
‫علَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِكتَابا ّموْقُوتا ﴾ (سورة النساء ‪، )103 :‬‬
‫لةَ كَا َنتْ َ‬
‫وجل‪ ﴿ :‬إِنّ الصّ َ‬
‫عَل ْيهَا ﴾ (سورة طه‪:‬‬
‫ط ِبرْ َ‬
‫وقوله تبارك وتعالى‪َ ﴿ :‬و ْأ ُمرْ أَ ْهَلكَ بِالصّلَاةِ وَاصْ َ‬
‫‪.)132‬‬
‫فإذا ترك المسلم الصلة ‪ ،‬فقد قطع بذلك شوطا كبيرا إلى الكفر‪ ،‬وقلما‬
‫يواظب المرء على ترك الصلة ‪ ،‬ثم تسلم في قلبه عقيدة السلم‪ ،‬فقد قال عليه‬
‫الصلة والسلم‪" :‬إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلة" ‪ ( .‬رواه مسلم‬
‫[‪ ]82‬في اليمان‪ ،‬باب‪:‬إطلق اسم الكفر على من ترك الصلة )‪.‬‬
‫وإذا واظب المسلم على الصلة جعل ال له منها كفارة لثامه‪ ،‬وطهورا‬
‫لدرانه‪ ،‬وكان له منها نسب موصول إلى ال عز وجل يري أثره عند الموت‪ ،‬قال‬
‫‪ " :‬مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم‬ ‫رسول ال‬
‫فيه كل يوم خمس مرات‪ ،‬فما ترون ذلك يبقي من درنه؟" ‪ ،‬قالوا‪ :‬ل شيء‪ ،‬قال‬
‫‪" :‬فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن"‪( .‬رواه البخاري‬
‫[‪ ]505‬في مواقيت الصلة ‪ ،‬باب‪ :‬الصلوات الخمس كفارة؛ ومسلم [‪ ]668‬في‬
‫المساجد‪ ،‬باب‪ :‬المشي إلى الصلة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات)‪.‬‬
‫حكم تارك الصلة ‪:‬‬
‫ينقسم تارك الصلة إلى ضربين‪:‬‬
‫الول ‪ :‬من يتركها غير معتقد بوجوبها‪ ،‬أو مستخفا بشأنها‪ ،‬فهو بذلك يكون‬
‫مرتدا ‪ ،‬وقد مر بيان حكمه وحده‪ ،‬إذ إنه أنكر أمرا معروفا من الدين بالضرورة ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬من يتركها موقنا بوجوبها‪ ،‬كأن كان الحامل على تركها الكسل أو‬
‫نحوه‪ ،‬فهذا المسلم مرتكب لجرم كبير يستوجب ـ إن هو أصر على ذلك ـ حدا‬
‫من حدود السلم ‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫فيؤمر أولً بالتوبة ‪ ،‬والنهوض إلى الصلة ‪ ،‬وينبغي أن يقوم بذلك‬
‫الحاكم ‪ ،‬أو من ينوب منآبه‪ ،‬فإن لم يقم بذلك كان على أي مسلم أن يقوم مقامه‪،‬‬
‫في أمره بالتوبة‪ ،‬وهو أمر إلزامي علي سبيل الوجوب‪ ،‬يتحتم القيام به فورا‪.‬‬
‫فإن لم يتب‪ ،‬ولم ينهض إلى الصلة‪ ،‬وجب إقامة الحد عليه‪.‬‬
‫حد تارك الصلة ‪:‬‬
‫يحد تارك الصلة ـ بعد استتابته ـ بالقتل ‪ ،‬بضرب عنقه بالسيف‪ ،‬ولو‬
‫على صلة واحدة‪ ،‬حدا من حدود السلم‪ ،‬ل كفرا‪ .‬ودليل ذلك ما روى البخاري [‬
‫‪ ]25‬في اليمان‪ ،‬باب‪ :‬فإن تابوا وأقاموا الصلة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ‪،‬‬
‫ومسلم [‪ ]22‬في اليمان‪ ،‬باب‪ :‬المر بقتال الناس حتى يقولوا ل إله إل ال ‪، . .‬‬
‫قال‪ " :‬أمرت أن أقاتل الناس‬ ‫عن ابن عمر رضي ال عنهما أن رسول ال‬
‫حتى يشهدوا أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ‪ ،‬ويقيموا الصلة ويؤتوا‬
‫الزكاة‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحق السلم ‪ ،‬وحسابهم‬
‫على ال " ‪.‬‬
‫‪ " :‬خمس صلوات كتبهن ال على العباد‪ ،‬فمن جاء بهن لم يضيع‬ ‫وقال‬
‫منهن شيئا استخفافا بحقهن ‪ ،‬كان له عند ال عهد أن يدخله الجنة‪ ،‬ومن لم يأت‬
‫بهن‪ ،‬فليس له عند ال عهد‪ ،‬إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة"‪( .‬رواه مالك في‬
‫الموطأ [‪ ]1/123‬في صلة الليل‪ ،‬باب‪ :‬المر بالوتر؛ وأبو داود [‪ ]425‬في‬
‫الصلة‪ ،‬باب‪ :‬في المحافظة على وقت الصلة)‪.‬‬
‫فدل الحديث على أن تارك الصلة ل يكفر‪ ،‬لنه لو كفر لم يدخل في قوله‪:‬‬
‫"إن شاء أدخله الجنة" لن الكافر ل يدخل الجنة قطعا‪ .‬فحمل الحديث على تركها‬
‫كسلً جمعا بين الدلة ‪.‬‬
‫كم يمهل تارك الصلة قبل تنفيذ الحد ؟‬
‫يجب أولً استتابة تارك الصلة كما قلنا‪.‬‬
‫فإن لم يتب أنذره الحاكم بتنفيذ حد القتل فيه‪ ،‬ثم أمهله‪ ،‬وهو موضوع تحت‬
‫المراقبة‪ ،‬وفي متناول الحاكم‪ ،‬وإلى أن تخرج الصلة عن وقت الضرورة والعذر‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ووقت العذر للصلة‪ ،‬هو آخر وقت لجمعها جمع تأخير مع غيرها‪ .‬فيقتل‬
‫على تركه صلة الظهر عند مغيب الشمس ‪ ،‬ودخول وقت المغرب ‪ ،‬ومثلها‬
‫صلة العصر‪ ،‬لنهما يجمعان جمع تأخير لرباب العذار‪ ،‬وآخر وقت جمعهما‬
‫مغيب الشمس ‪ ،‬ويقتل على تركه صلة المغرب والعشاء عند بزوغ الفجر ‪،‬‬
‫لنهما يجمعان جمع تأخير عند العذر‪ ،‬ويمتد وقتهما على هذا الساس إلى أول‬
‫وقت الفجر ‪.‬‬
‫فإذا خرج وقت الضرورة الذي هو وقت الجمع تأخيرا للصلة المتروكة‪،‬‬
‫وهو مصر بعد على الترك بدون عذر‪ ،‬رغم الستتابة والتهديد بالقتل‪ ،‬نفذ فيه الحد‬
‫الذي ذكرنا ‪.‬‬
‫الثار المترتبة على إقامة الحد ‪:‬‬
‫حكم تارك الصلة كسلً ـ أو لدافع نحوه ـ بعد القتل حدا‪ ،‬حكم باقي‬
‫المسلمين‪ ،‬فيجب دفنه حسب الطرق المشروعة ‪ ،‬وغسله وتكفينه‪ ،‬والصلة عليه‪،‬‬
‫كغيره من المسلمين ‪.‬‬
‫ول تتأثر علقة القرابة بينه وبين ذوي قرباه بهذا الحد‪ ،‬فيرث منه أقاربه‪،‬‬
‫وتستمر أحكام الزوجية من عدة وإحداد وغير ذلك بالنسبة لزوجته ‪.‬‬
‫خاتمة ‪:‬‬
‫لو زعم زاعم أن بينه وبين ال حالة من القرب أسقطت عنه الصلة ‪،‬‬
‫وأحلت له بعض المحرمات ‪ ،‬فل شك في وجوب قتله‪ ،‬كأي رجل جاحد للصلة‪،‬‬
‫ومثل ذلك ما لو ادعى أنه يصلي في الكعبة وهو بعيد عنها‪ ،‬كما نقل عن بعض‬
‫مدعي التصوف‪.‬‬
‫قال الفقهاء ‪ :‬وقتل هؤلء أفضل من قتل مائة كافر‪ ،‬لن ضرره أشد ‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫الباب الثاني‬
‫أحكــام الجَهـاد‬

‫‪103‬‬
‫أحكام الجهاد‬

‫معني الجهاد ‪:‬‬


‫الجهاد في اللغة مصدر جاهد ‪ ،‬أي بذل جهدا في سبيل الوصول إلي غاية ما ‪.‬‬
‫والجهاد في اصطلح الشريعة السلمية ‪ :‬بذل الجهد في سبيل إقامة المجتمع‬
‫السلمي ‪ ،‬وأن تكون كلمة ال هي العليا ‪ ،‬وأن تسود شريعة ال العالم كله ‪.‬‬
‫أنواع الجهاد ‪:‬‬
‫من التعريف الذي ذكرناه للجهاد ‪ ،‬يتضح أن الجهاد أنواع ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪-1‬الجهاد بالتعليم ‪ ،‬ونشر الوعي السلمي ‪ ،‬وردّ الشبه الفكرية التي‬
‫تعترض سبيل اليمان به ‪ ،‬وتفهم حقائقه ‪.‬‬
‫‪-2‬الجهاد ببذل المال لتأمين ما يحتاج إليه المسلمون في إقامة مجتمعهم‬
‫السلمي المنشود ‪.‬‬
‫‪-3‬القتال الدفاعي ‪ :‬وهو الذي يتصدي به المسلمون لمن يريد أن ينال من‬
‫شأن المسلمين في دينهم ‪.‬‬
‫‪-4‬القتال الهجومي ‪ :‬وهو الذي يبدؤه المسلمون عندما يتجهون بالدعوة‬
‫السلمية إلي الُمم الخرى في بلدها ‪ ،‬فيصدّهم حكامها عن أن‬
‫َي ْبلُغوا بكلمة الحق سمع الناس ‪.‬‬
‫‪-5‬حالة النفير العام ‪ ،‬وذلك عندما يقتحم أعداء المسلمين ديارهم معتدين‬
‫بذلك على دينهم وأرضهم ‪ ،‬وحرية اعتقادهم ‪.‬‬
‫والتعريف الشامل لكل هذه النواع أنه ‪ :‬بذل الوسع انتصارا لشريعة ال ‪،‬‬
‫ورفعا لكلمته في الرض ‪.‬‬
‫الترغيب في الجهاد وبيان فضله ‪:‬‬
‫لقد جاءت اليات كثيرة ‪ ،‬تأمر بالجهاد وتحضّ عليه ‪ ،‬وتبيّن مكانته وتذكر‬
‫فضل المجاهدين ‪ ،‬والشهداء عند ال عزّ وجل ‪ .‬وكذلك جاءت السنّة النبوية‬

‫‪104‬‬
‫المشرّفة فأغنت هذا الموضوع ‪ ،‬وزادته وضوحا ‪ ،‬ودعت إليه ورغّبت فيه ‪،‬‬
‫وبيّنت فضله ومكانته عند ال تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫قال ال عزّ وجل ‪:‬‬
‫حبّ ا ْل ُم ْعتَدِينَ }‬
‫ن اللّهَ لَ يُ ِ‬
‫ل اللّهِ الّذِينَ يُقَا ِتلُو َنكُمْ وَلَ َت ْعتَدُواْ إِ ّ‬
‫سبِي ِ‬
‫{وَقَا ِتلُواْ فِي َ‬
‫(البقرة ‪. )190‬‬
‫عَلمُواْ‬
‫غلْظَةً وَا ْ‬
‫{يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ قَا ِتلُواْ الّذِينَ َيلُونَكُم مّنَ ا ْلكُفّارِ َو ْليَجِدُواْ فِيكُمْ ِ‬
‫ن اللّهَ مَعَ ا ْل ُمتّقِينَ }( سورة التوبة ‪) 123 :‬‬
‫أَ ّ‬
‫جنّةَ يُقَا ِتلُونَ فِي‬
‫سهُمْ َوَأ ْموَاَلهُم بِأَنّ َلهُمُ ال َ‬
‫ش َترَى مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َ‬
‫" {إِنّ اللّهَ ا ْ‬
‫عَليْهِ حَقّا فِي ال ّت ْورَاةِ وَالِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ َومَنْ‬
‫ل اللّهِ َفيَ ْق ُتلُونَ َويُ ْق َتلُونَ وَعْدا َ‬
‫سبِي ِ‬
‫َ‬
‫شرُواْ ِب َب ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َي ْعتُم بِهِ وَ َذِلكَ ُهوَ الْ َف ْوزُ ا ْلعَظِيمُ }‬
‫س َتبْ ِ‬
‫ن اللّهِ فَا ْ‬
‫َأوْفَى ِب َعهْ ِدهِ مِ َ‬
‫" ( سورة التوبة ‪) 111 :‬‬
‫جمِيعا } ( سورة‬
‫" {يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ خُذُواْ حِ ْذ َركُمْ فَان ِفرُواْ ُثبَاتٍ َأوِ ان ِفرُواْ َ‬
‫النساء ‪)71 :‬‬
‫خ ْيرٌ ّلكُمْ‬
‫ل اللّهِ َذِلكُمْ َ‬
‫سبِي ِ‬
‫سكُمْ فِي َ‬
‫" {انْفِرُواْ خِفَافا َوثِقَالً وَجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلكُمْ َوأَنفُ ِ‬
‫إِن كُنتُمْ َت ْعَلمُونَ } ( سورة التوبة ‪) 41 :‬‬
‫خ ْيرٌ ّلكُمْ‬
‫شيْئا وَ ُهوَ َ‬
‫عَل ْيكُمُ الْ ِقتَالُ وَ ُهوَ ُك ْرهٌ ّلكُمْ وَعَسَى أَن َت ْكرَهُواْ َ‬
‫" { ُك ِتبَ َ‬
‫شرّ ّلكُمْ وَاللّهُ َي ْعلَمُ َوأَنتُمْ لَ َت ْعَلمُونَ } ( سورة البقرة‬
‫شيْئا وَ ُهوَ َ‬
‫حبّواْ َ‬
‫وَعَسَى أَن ُت ِ‬
‫‪) 216 :‬‬
‫ل اللّهِ اثّا َق ْلتُمْ ِإلَى‬
‫سبِي ِ‬
‫" {يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ مَا َلكُمْ إِذَا قِيلَ َلكُمُ ان ِفرُواْ فِي َ‬
‫خ َرةِ إِلّ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا فِي ال ِ‬
‫خ َرةِ َفمَا َمتَاعُ الْ َ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا مِنَ ال ِ‬
‫لرْضِ َأ َرضِيتُم بِالْ َ‬
‫اَ‬
‫شيْئا وَاللّهُ‬
‫غ ْي َركُمْ وَلَ َتضُرّوهُ َ‬
‫س َتبْدِلْ َقوْما َ‬
‫َقلِيلٌ إِلّ تَن ِفرُواْ ُيعَ ّذ ْبكُمْ عَذَابا َألِيما َويَ ْ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ ( سورة التوبة ‪. ) 39-38 :‬‬
‫علَى كُلّ َ‬
‫َ‬
‫ش ُعرُونَ } ( سورة‬
‫حيَاء َوَلكِن لّ تَ ْ‬
‫{وَلَ تَقُولُواْ ِلمَنْ يُ ْقتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ َأ ْموَاتٌ بَلْ أَ ْ‬
‫البقرة ‪. ) 154 :‬‬
‫حيَاء عِندَ َر ّبهِمْ ُي ْرزَقُونَ*‬
‫ل اللّهِ َأ ْموَاتا بَلْ أَ ْ‬
‫سبِي ِ‬
‫سبَنّ الّذِينَ ُق ِتلُواْ فِي َ‬
‫وَلَ تَحْ َ‬
‫ضلِهِ " ( سورة آل عمران ‪) 170-169 :‬‬
‫َفرِحِينَ ِبمَا آتَاهُ ُم اللّهُ مِن َف ْ‬

‫‪105‬‬
‫وأما الحاديث فكثيرة منها ‪:‬‬
‫جوْر ‪ ،‬عن‬
‫حديث أبي داود { ‪ } 2533‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬الغزو مع أئمة ال َ‬
‫أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال صلي ال عليه وسلم ‪ :‬الجهادُ‬
‫واجبٌ عليكم مَعَ كلّ أميرِ ‪َ ،‬برّا كان أو فاجِرا "‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ " :‬جاهدُوا المشركينَ بأموالكم وأنفسكُم وألسن ِتكُم " ‪.‬‬
‫( رواه أبو داود { ‪ } 2504‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬كراهية ترك الغزو ‪ ،‬والنسائي‬
‫{ ‪ }6/8‬في الجهاد ‪ ،‬باب وجوب الجهاد ‪ ،‬عن أنس رضي ال عنه ) ‪.‬‬
‫يا أيُها النّاسُ ‪ ،‬ل َت َت َمنّوا لقاءَ الع ُدوّ واسألوا ال العافِية ‪ ،‬فإذا‬ ‫وقال ‪: ‬‬
‫ل السيوفِ ‪ ( . ‬رواه البخاري [‬
‫لقيتُموهمْ فاصبرُوا واعلمُوا أنّ الجنةَ تحتَ ظل ِ‬
‫‪ ] 2862 ، 2861‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬ل تمنّوا لقاء العدو ‪ ،‬ومسلم [‪] 1742‬‬
‫في الجهاد باب ‪ :‬كراهية تمنّي لقاء العدو ‪ ،‬عن عبدال بن أبي أوفي رضي ال‬
‫عنه ) ‪.‬‬
‫لَغدْوةٌ في سبيل ال أو َروْحهُ خيرٌ من الدّنيا وما فيها ‪‬‬ ‫وقال رسول ال ‪‬‬
‫( رواه البخاري [ ‪ ] 2639‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬الغدوة والروحة في سبيل ال ‪،‬‬
‫ومسلم [‪ ]1880‬في المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬فضل الغدوة والروحة في سبيل ال ‪ ،‬عن‬
‫أنس رضي ال عنه ) ‪.‬‬
‫[ الغدوة ‪ :‬زمن ما بين طلوع الشمس إلي الزوال ‪ .‬والروحة ‪ :‬زمن ما بين‬
‫الزوال غلي الليل ] ‪.‬‬
‫يقول ‪  :‬ما‬ ‫وعن أنس بن مالك رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫من عبد يموت ‪ ،‬له عند ال خير ‪ ،‬يسره أن يرجع إلي الدنيا ‪ ،‬وأن له الدنيا‬
‫وما فيها إل الشهيد ‪ ،‬لما يري من فضل الشهادة ‪ ،‬فإنه يسره أن يرجع إلي‬
‫الدنيا فيقتل مرة أخري ‪ ( ‬رواه البخاري [‪ ]2642‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬الحور‬
‫العين ‪ ) ...‬والحاديث في الباب كثيرة جدا ‪.‬‬
‫حكم الجهاد ‪:‬‬
‫الجهاد فرض كفاية بالنظر لنواعه الربعة التي سبق ذكرها ‪ ،‬فإذا قام به من‬
‫فيهم كفاية سقطت المسؤولية عن الباقين ‪ .‬ومن هذه النواع ـ كما قد علمت‬

‫‪106‬‬
‫ـ إقامة الحجج ورد الشبه والمشكلت عن الدين ‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر ‪ ،‬ونشر المعارف والعلوم الدينية السلمية ‪.‬‬
‫والجهاد فرض عين ‪ :‬بالنظر لنوعه الخامس والخير ـ وقد مر بك ـ وهو‬
‫ما يسمي بالنفير العام ‪ ،‬فيجب على جميع المكلفين من أهل البلدة التي اقتحمها‬
‫العدو ‪ ،‬رجالً ونساءً ـ إن اقتضي المر ـ أن يهبوا للذود عن أرض السلم‬
‫وحكمه ‪.‬‬
‫الفرق بين الحرب والجهاد ‪:‬‬
‫وبهذا الذي ذكرناه يتضح لك الفرق جليا بين الحرب والجهاد ‪.‬‬
‫فالحرب حالة من حالت الجهاد ‪ ،‬أو نوع من أنواعه ‪ ،‬وليس كل جهاد حربا ‪.‬‬
‫أي فكلمة الجهاد أعم من كلمة الحرب في المفهوم والمعني ‪.‬‬
‫تحديد الفرق بين الجهاد وأنواع أخري من القتال ‪:‬‬
‫كما يتضح لك بما قد ذكرناه أن ثمة فرقا كبيرا بين القتال الذي يكون جهادا في‬
‫سبيل ال وغيره مما قد مر بك بيان بعض منه ‪.‬‬
‫ـ فقتال الصائل ‪ :‬قائم على رد عدوان دنيوي ‪ ،‬يستهدف حياةً أو مالً أو‬
‫بضعا ‪ ،‬ومشروعيته ليست من أجل إعلء كلمة ال من حيث هي ‪ ،‬بل‬
‫للمحافظة على المصالح التي جاء السلم من أجل رعايتها والمحافظة عليها‬
‫للناس ‪.‬‬
‫ـ وقتال البغاة قائم على رد أسباب الفوضى ‪ ،‬والتصدي لنذير الشر ‪ ،‬وتصديع‬
‫الوحدة السلمية داخل الدولة السلمية الواحدة ‪ ،‬وليس قائما على الدافع الكلي‬
‫الذي يدخل في قوام معني الجهاد ‪ ،‬وهو إعلء كلمة ال تعالي ‪ ،‬ونشر الشريعة‬
‫السلمية ‪ ،‬ورفع لوائها في الرض ‪.‬‬
‫غير أنه قد يلتقي الجهاد في سبيل ال مع قتال الصائل في صورة واحدة ‪:‬‬
‫وهي أن يعتدي عدو للمسلمين على قطعة من ديارهم ابتغاء النتقاص من‬
‫أرضهم والقضاء على دينهم ‪ ،‬فيقاتلهم المسلمون من أجل ردهم عن كل‬
‫الغرضين ‪ ،‬فهو قتال جهاد ‪ ،‬ورد صيال معا ‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫زمن مشروعية الجهاد والتدرج الذي تم في تشريعه ‪:‬‬
‫في مكة ثلث عشر عاما ‪ ،‬يدعو إلي ال سلما ل يقابل‬ ‫أقام رسول ال‬
‫العدوان بمثله ‪ ،‬فلما هاجر عليه الصلة والسلم إلي المدينة شرع ال المرحلة‬
‫الولي من مراحل الجهاد ‪ ،‬وهي التصدّي لرد عدوان المعتدين ‪ ،‬أي القتال‬
‫الدفاعي ‪ ،‬ونزل في تشريع ذلك قوله عزّ وجل ‪  :‬أُذِنَ ِللّذِينَ يُقَا َتلُونَ ِبَأ ّنهُمْ‬
‫خرِجُوا مِن ِديَارِهِمْ ِب َغ ْيرِ حَقّ ِإلّا أَن‬
‫علَى َنصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‪ .‬الّذِينَ أُ ْ‬
‫ن اللّهَ َ‬
‫ظِلمُوا َوإِ ّ‬
‫ُ‬
‫يَقُولُوا َر ّبنَا اللّهُ ‪ ( ‬سورة الحج ‪ ، ) 40-39 :‬وقوله عز وجل ‪ :‬وَقَا ِتلُواْ فِي‬
‫حبّ ا ْل ُم ْعتَدِينَ ( سورة البقرة ‪:‬‬
‫ن اللّهَ لَ يُ ِ‬
‫ل اللّهِ الّذِينَ يُقَا ِتلُو َنكُمْ وَلَ َت ْعتَدُواْ إِ ّ‬
‫سبِي ِ‬
‫َ‬
‫‪. ) 190‬‬
‫ثم شرع ال تبارك وتعالي لنبيه جهاد المشركين ابتداء بالقتال ‪ ،‬إذا اقتضي‬
‫سلَخَ‬
‫المر ذلك إل في الشهر الحرم ‪ ،‬ونزل في ذلك قوله عز وجل ‪َ { :‬فإِذَا ان َ‬
‫صرُوهُمْ وَا ْقعُدُواْ‬
‫ح ُ‬
‫ح ْيثُ َوجَد ّتمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَا ْ‬
‫ش ِركِينَ َ‬
‫حرُمُ فَا ْق ُتلُواْ ا ْلمُ ْ‬
‫ش ُهرُ الْ ُ‬
‫الَ ْ‬
‫ن اللّهَ‬
‫سبِيَلهُمْ إِ ّ‬
‫خلّواْ َ‬
‫لةَ وَآ َت ُو ْا ال ّزكَاةَ فَ َ‬
‫َلهُمْ كُلّ َم ْرصَدٍ فَإِن تَابُواْ َوأَقَامُو ْا الصّ َ‬
‫غَفُورٌ رّحِيمٌ }التوبة ‪ 5‬وذلك بعد صلح الحديبية ‪.‬‬
‫ثم شرع ال تبارك وتعالى لنبيه جهادا من غير تقيد بشرط زمان ول‬
‫خرِجُوهُم مّنْ‬
‫ح ْيثُ ثَقِ ْف ُتمُوهُمْ َوأَ ْ‬
‫مكان ‪ ،‬ونزل في ذلك قوله عز جل {وَا ْق ُتلُوهُمْ َ‬
‫حتّى‬
‫حرَامِ َ‬
‫خرَجُوكُمْ وَالْ ِف ْتنَةُ أَشَدّ مِنَ الْ َقتْلِ وَلَ تُقَا ِتلُوهُمْ عِندَ ا ْلمَسْجِدِ الْ َ‬
‫ح ْيثُ أَ ْ‬
‫َ‬
‫جزَاء ا ْلكَا ِفرِينَ }البقرة ‪191‬‬
‫يُقَا ِتلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَا َتلُوكُمْ فَا ْق ُتلُوهُمْ كَ َذِلكَ َ‬
‫فالشأن في مشروعية الجهاد يشبه الشأن في حكم تحريم الخمر ‪ ،‬فقد تكامل‬
‫الحكم في كل منهما على مراحل ‪ ،‬غير أن أول مشروعيته إنما كان عقب‬
‫إلي المدينة المنورة ‪.‬‬ ‫هجرة المصطفي‬
‫الحكمة من مشروعية الجهاد ‪:‬‬
‫لقد علمت أن القتال في سبيل ال نوع من أنواع الجهاد الذي يطلق على‬
‫بذل الوسع بكل أنواعه في سبيل إعلء كلمة ال ‪.‬‬
‫والجهاد له حكمة تتعلق بالمسلمين الذين يكلفون بالجهاد ‪ ،‬وله حكمة أخري‬
‫تتعلق بأولئك الذين يجاهدهم المسلمون من الكافرين وأعوانهم ‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫فأما حكمة تكليف ال المسلمين بالجهاد ‪ ،‬فهي أن يتبين صدق إيمانهم وأن‬
‫يمارسوا حقيقة العبودية التي ل تتجلي إل بتحمل المشاق والتضحية بالنفيس في‬
‫سبيل ال عز وجل ‪ ،‬من نفس وراحة ومال ‪ .‬يدل على ذلك قوله تعالي ‪  :‬أَمْ‬
‫جنّةَ َوَلمّا َي ْعلَ ِم اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ َو َي ْعلَمَ الصّا ِبرِينَ ‪( ‬‬
‫خلُواْ الْ َ‬
‫س ْبتُمْ أَن تَدْ ُ‬
‫حَ ِ‬
‫سورة آل عمران ‪. )142 :‬‬
‫وأما حكمة وقوع الجهاد بالقتال ونحوه على الكافرين ‪ ،‬ففيه ما فيه من‬
‫الجبر لهم والضغط عليهم ‪ ،‬وتكليفهم في دين ال طوعا أو كرها ‪ ،‬فهي تتمثل‬
‫في المور التالية ‪:‬‬
‫‪-1‬تحرير عامة الناس ودَهْمائهم من الوقوع تحت سلطة الطغاة‬
‫والمستعبدين ‪ ،‬فإن المة التي ل تدين بالعبودية ل عز وجل ‪ ،‬ل بد أن‬
‫يستبد القوياء منها بالضعفاء ‪ ،‬ويسوقهم بعصا الستعباد في الطريق‬
‫التي ترسمها لهم أهواؤهم ‪.‬‬
‫أما إذا دخل اليمان في قلوب تلك المة ‪ ،‬فإن أقوياءهم يستشعرون الضعف‬
‫والمسؤولية تجاه فاطرهم العزيز جل جلله ‪ ،‬فيقلعون عن الظلم والستعباد ‪ ،‬وإن‬
‫ضعفاءهم يستشعرون القوة والعزة بإيمانهم ‪ ،‬وأن ل نافع ول ضار إل ال ‪،‬‬
‫فيتحررون عن التبعية لسيادهم ‪ ،‬حيث ل يذلهم تهديد ول يخوفهم بطش أو‬
‫وعيد ‪ ،‬فتتقارب عندئذ الطبقات ‪ ،‬وتتساوي الفئات ويستشعر الكل أنهم إخوة في‬
‫ظلل العبودية ل تعالي ‪.‬‬
‫والجهاد هو وسيلة كبرى لتحقيق هذا المر ‪.‬‬
‫‪-2‬إشعار الناس بكل فئاتهم وأنواعهم أن الرض أرض ال والدولة دولة‬
‫ال فالحكم فيها ل ينبغي أن يكون إل له عز وجل فمن دخل في حكم‬
‫ال طوعا فقد أرضي بذلك ربه ‪ ،‬وأسعد حياته ومن لم يقبل بالدخول‬
‫فيه طوعا كان لبد أن يحمل عليه كرها ‪ ،‬وإنما سبيل ذلك الجهاد‪.‬‬
‫فمن قال لك ‪ :‬إن الناس أحرار يدينون بما يشاؤون ‪ ،‬ويحكمون بما يريدون‬
‫‪ ،‬فقل ‪ : ،‬أي دولة من دول الرض تقبل هذا المنطق من رعاياها عندما‬
‫تلزمهم بقانونها المصنوع ‪ ،‬وتشريعها الموضوع ‪ ،‬وكيف جاز لهذه الدول أن‬

‫‪109‬‬
‫تهدد المتمردين إن تمردوا ثم تقتلهم وتسوي بهم الرض إن هم أصروا‬
‫وعاندوا ‪ ،‬ثم ل يجوز لرب هذه المم والدول كلها أن يلزمهم بتشريعه ‪ ،‬وأن‬
‫يحكمهم بقانونه ؟!‬
‫‪-3‬درء أسباب الشقاق والخصومات الناتجة عن العراض عن تشريع ال‬
‫وحكمه ‪ ،‬والستعاضة عنهما بتشريعات البشر وأحكامهم ‪ ،‬فإن الناس‬
‫إذا لم يدخلوا خاضعين تحت حكم خالقهم الفرد الصمد جل جلله ‪،‬‬
‫اضطروا إلي أن يتواضعوا فيما بينهم على تشريعات هم الذين‬
‫يؤلفونها ‪ ،‬ول بد أن تتدخل في الخلف ‪ ،‬وتتصارع التهامات ‪ ،‬ثم‬
‫لبد أن يتحول الشقاق إلي حرب مستمرة وشقاق ل نهاية له ‪،‬وإنما‬
‫المفر من ذلك تحكيم شرع ال ‪ ،‬وليس من سبيل لذلك في كثير من‬
‫الظروف إل الجهاد وقد عبر البيان اللهي عن هذه الحكمة أروع‬
‫حتّى لَ َتكُونَ ِف ْتنَةٌ َو َيكُونَ الدّينُ ِللّهِ‬
‫تعبير في هذه الية ‪  :‬وَقَا ِتلُوهُمْ َ‬
‫علَى الظّاِلمِينَ ‪ ( ‬سورة البقرة ‪. ) 193 :‬‬
‫فَإِنِ ان َتهَواْ فَلَ عُ ْدوَانَ إِلّ َ‬
‫شروط وجوب الجهاد ‪:‬‬
‫هناك شروط تتعلق بالمجاهدين ‪ ،‬وشروط تتعلق بالكفار ‪.‬‬
‫أولً ‪ :‬الشروط التي تتعلق بالمجاهدين ‪:‬‬
‫إنما يجب الجهاد ( عندما يكون فرض كفاية ) على من توفرت فيه الشروط التالية ‪:‬‬
‫‪-1‬السلم ‪ :‬فل يجب على كافر أصلي وجوب مطالبة في دار الدنيا ‪،‬‬
‫لن الجهاد عبادة وهي ل تصح من كافر ‪ ،‬شأنه في ذلك كشأن الصلة‬
‫والصوم ونحوهما ‪.‬‬
‫‪-2‬التكليف ‪ :‬فل يجب الجهاد على صبي ‪ ،‬ول علي مجنون وقد ثبت أن‬
‫كان يرد صغارا لم يصلوا إلي سن التكليف عن الشتراك في‬ ‫النبي‬
‫الغزو ‪.‬‬
‫روي البخاري [‪ ]2521‬في الشهادات ‪ ،‬باب ‪ :‬بلوغ الصبيان وشهادتهم ‪،‬‬
‫ومسلم [‪ ]1868‬في المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬بيان سن البلوغ ‪ ،‬عن عبدال بن عمر‬
‫يوم أحد في القتال ‪ ،‬وأنا‬ ‫رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ ( :‬عرضني رسول ال‬

‫‪110‬‬
‫ابن أربع عشرة سنة ‪ ،‬فلم يجزني ‪ ،‬وعرضني يوم الخندق ‪ ،‬وأنا ابن‬
‫خمس عشرة سنة فأجازني ) أي فأذن لي بالخروج والشتراك في القتال ‪.‬‬
‫‪-3‬الذكورة ‪ :‬فل يجب الجهاد على أنثي ‪ ،‬لضعفها عن القتال ‪ ،‬ولن‬
‫المر فيه سعة ‪ ،‬بسبب كونه فرض كفاية ‪ ،‬فيكفي أن يقوم به‬
‫الرجال ‪ ،‬وهم أقدر عليه من النساء بغير شك ‪.‬‬
‫روي البخاري [‪ ]1762‬في الحصار وجزاء الصيد ‪ ،‬باب ‪ :‬حج النساء‬
‫عن عائشة رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أل نغزوا ونجاهد‬
‫معكم ؟ فقال ‪ :‬لكن أحسن الجهاد وأجمله ‪ ،‬حج مبرور ‪.‬‬
‫وروي ابن خزيمة [‪ ]3074‬في الحج ‪ ،‬باب الدليل على أن جهاد النساء‬
‫الحج والعمرة ‪ ،‬وغيره بأسانيد صحيحة عن عائشة رضي ال عنها ‪ ،‬أنها قالت‬
‫‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هل على النساء جهاد ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬جهاد ل قتال فيه ‪ :‬الحج‬
‫والعمرة ‪.‬‬
‫‪ -4‬الستطاعة ‪ :‬وتشمل الستطاعة الجسمية مطلقا ‪ ،‬والستطاعة المالية إذا لم‬
‫يكن لدي الدولة ما تغني به المجاهدين من ركوب وعتاد ونفقة ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬فل‬
‫يجب الجهاد على من ليس مستطيعا على نحو ما ذكرنا كالعمى والعرج ‪ ،‬وفاقد‬
‫علَى ا ْل َم ْرضَى‬
‫علَى الضّعَفَاء وَلَ َ‬
‫النفقة ‪ ،‬ودليل ذلك قول ال تبارك وتعالى ‪ّ  :‬ل ْيسَ َ‬
‫علَى‬
‫حرَجٌ إِذَا َنصَحُواْ ِللّهِ َورَسُولِهِ مَا َ‬
‫علَى الّذِينَ لَ َيجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ َ‬
‫وَلَ َ‬
‫ح ِمَلهُمْ ُق ْلتَ لَ‬
‫علَى الّذِينَ إِذَا مَا َأ َت ْوكَ ِلتَ ْ‬
‫سبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ* وَلَ َ‬
‫سنِينَ مِن َ‬
‫ا ْلمُحْ ِ‬
‫حزَنا أَلّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ‪‬‬
‫ع ُينُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ َ‬
‫عَليْهِ َت َولّواْ ّوأَ ْ‬
‫ح ِمُلكُمْ َ‬
‫أَجِدُ مَا َأ ْ‬
‫( سورة التوبة ‪. )92-91 :‬‬
‫[ الحرج ‪ :‬الثم والذنب ‪ ،‬ونفي الحرج نفي للثم والذنب ‪ ،‬وهو يتضمن نفي‬
‫الوجوب ]‬
‫‪ -5‬رضا الوالدين ‪ :‬فلو لم يرض أبوه وأمه بخروجه للجهاد لم يجز له مخالفتهما‬
‫‪ ،‬لن حقهما عند الضرورة والحاجة إلي المساعدة ألزم إذ هو فرض عين بينما‬
‫الجهاد في الحالة التي نذكرها فرض كفاية ‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫في الجهاد ‪ ،‬فقال ‪  :‬ألك والدان ؟‬ ‫جاء في الصحيحين ‪ :‬أن رجلً استأذن النبي‬
‫‪ ‬قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪  :‬ففيهما فجاهد ‪. ‬‬
‫فقال ‪ :‬أبايعك على الهجرة‬ ‫وفي رواية ‪ :‬أقبل رجل إلي رسول ال‬
‫والجهاد ‪ ،‬أبتغي الجر من ال ‪ ،‬فقال ‪ :‬هل من والديك أحد حي ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬بل‬
‫كلهما حي ‪ ،‬قال ‪ :‬فتبتغي الجر من ال ؟ قال ‪ :‬نعم قال ‪ :‬فأرجع إلي والديك‬
‫فأحسن صحبتهما ‪.‬‬
‫فقال ‪:‬‬ ‫وفي رواية لبي داود والنسائي ‪ :‬قال ‪ :‬جاء رجل إلي رسول ال‬
‫جئت أبايعك على الهجرة ‪ ،‬وتركت أبواي يبكيان ‪ ،‬قال ‪  :‬ارجع إليهما فأضحكهما‬
‫كما أبكيتهما ‪ ( ‬رواه البخاري [‪ ]2842‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬الجهاد بإذن البوين ‪،‬‬
‫ومسلم [‪ ]2549‬في البر والصلة ‪ ،‬باب ‪ :‬بر الوالدين ‪ ،‬وأبو داود [‪ ]2530‬في‬
‫الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬في الرجل يغزو وأبواه كارهان ‪ ،‬والترمذي [‪ ]1671‬في الجهاد ‪،‬‬
‫باب ‪ :‬فيمن خرج في الغزو وترك أبويه ‪ ،‬والنسائي [‪ ]6/10‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪:‬‬
‫الرخصة في التخلف لمن له والدان ‪ ،‬كلهم عن عبدال بن عمرو بن العاص رضي‬
‫ال عنهما ) ‪.‬‬
‫وكالوالدين في ذلك الغريم صاحب الدين الذي حل أجله مع يسر المدين‬
‫به ‪ ،‬فل يجوز له الخروج إلي الجهاد إل بإذن غريمه ‪ ،‬وأنت تعلم أن هذا كله في‬
‫الجهاد الذي هو فرض كفاية‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الشروط التي تتعلق بالكفار ‪:‬‬
‫إنما يجب على المسلمين الخروج لقتال الكفار على وجه الجهاد بعد ملحظة‬
‫الشروط التالية ‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يكون الكفار مستأمنين ‪ ،‬أو معاهدين ‪ ،‬أو من أهل الذمة وذلك لقوله عز‬
‫سمَعَ‬
‫حتّى يَ ْ‬
‫ج ْرهُ َ‬
‫س َتجَا َركَ فَأَ ِ‬
‫ش ِركِينَ ا ْ‬
‫وجل في حق المستأمنين ‪َ  :‬وإِنْ أَحَدٌ مّنَ ا ْلمُ ْ‬
‫كَلَمَ اللّهِ ثُمّ َأ ْبِلغْهُ مَ ْأ َمنَهُ َذِلكَ ِبَأ ّنهُمْ َقوْمٌ لّ َي ْعَلمُونَ ‪ ( ‬سورة التوبة ‪. )6 :‬‬
‫خيَانَةً فَانبِذْ ِإَل ْيهِمْ‬
‫وقال تبارك وتعالي في حق المعاهدين ‪َ  :‬وِإمّا تَخَافَنّ مِن َقوْمٍ ِ‬
‫حبّ الخَا ِئنِينَ ‪ ( ‬سورة النفال ‪ ، )58 :‬فإذا لم يجد بوادر‬
‫ن اللّهَ لَ ُي ِ‬
‫سوَاء إِ ّ‬
‫علَى َ‬
‫َ‬
‫الخيانة فل يجوز نكث العهد وخرقه ‪ ،‬ومقاتلة أصحاب تلك العهود ‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في حرمة قتال أهل الذمة وقتلهم ‪  :‬من قتل‬
‫رجلً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة ‪ ،‬وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما‬
‫‪ ( ‬رواه أبو داود [‪ ]2760‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬في الوفاء للمعاهد ‪ ،‬وحرمة ذمته ‪،‬‬
‫عن أبي بكر رضي ال عنه ) ‪.‬‬
‫وروي الترمذي [‪ ]1403‬في الديات ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء فيمن يقتل نفسا معاهدة‬
‫‪ ،‬وابن ماجه [‪ ]2687‬في الديات ‪ ،‬باب ‪ :‬من قتل معاهدا ‪ ،‬عن أبي هريرة رضي‬
‫قال ‪ " :‬أل من قتل نفسا معاهدة له ذمة ال ورسوله ‪ ،‬فقد‬ ‫ال عنه ‪ ،‬أن النبي‬
‫أخفر بذمة ال ‪ ،‬فل يرح رائحة الجنة ‪ ،‬وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين‬
‫خريفا " ‪ [ .‬أخفر بذمة ال ‪ :‬نقض العهد وغدر به ] ‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يسبق القتال تعريف لهم بالسلم ‪ ،‬وشرح لحقيقته ‪ ،‬ورد لما قد يكون من‬
‫شبه لهم فيه ‪ ،‬حتى إذا قامت بذلك عليهم الحجة ‪ ،‬ولم يتحولوا عن عنادهم على‬
‫الكفر ‪ ،‬قوتلوا على ذلك ‪ ،‬ودليل ذلك إرساله عليه الصلة والسلم الرسائل والكتب‬
‫إلي الملوك والمراء في العالم يومئذ يعرفهم فيها بالسلم ‪ ،‬ويشرح لهم جوهر‬
‫رسالته التي أرسله ال بها إلي العالمين ‪ ،‬ويأمرهم بالخضوع لهذا السلم‬
‫والدخول فيه ‪ ،‬ولقد كان ذلك منه عليه الصلة والسلم مقدمة لبد منها بين يدي‬
‫الذي قال فيه ‪" :‬‬ ‫جهادهم ‪ ،‬وليس أدل على هذا الشرط من كتاب رسول ال‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم ‪ ،‬من محمد عبدال ورسوله إلي هرقل عظيم الروم ‪ :‬سلم‬
‫على من اتبع الهدي ‪ ،‬أما بعد فإني أدعوك بدعاية السلم ‪ ،‬أسلم تسلم يؤتك ال‬
‫أجرك مرتين ‪ ،‬فإن توليت فإن عليك إثم الريسيين ‪ ،‬و يَا أَهْلَ ا ْل ِكتَابِ َتعَاَل ْواْ ِإلَى‬
‫ضنَا َبعْضا‬
‫شيْئا وَلَ َيتّخِذَ َب ْع ُ‬
‫ش ِركَ بِهِ َ‬
‫ل اللّهَ وَلَ نُ ْ‬
‫سوَاء َب ْي َننَا َو َب ْي َنكُمْ أَلّ َن ْعبُدَ إِ ّ‬
‫َكَلمَةٍ َ‬
‫سِلمُونَ ‪ ( ‬سورة آل عمران ‪:‬‬
‫شهَدُواْ بَِأنّا مُ ْ‬
‫ن اللّهِ فَإِن َت َوّل ْواْ فَقُولُواْ ا ْ‬
‫َأ ْربَابا مّن دُو ِ‬
‫‪ ( . ) 64‬الحديث رواه البخاري [‪ ]7‬في بدء الوحي ‪ ،‬باب ‪ :‬كيف كان بدء الوحي‬
‫إلي هرقل )‬ ‫ومسلم [‪ ]1773‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬كتاب النبي‬ ‫إلي رسول ال‬
‫‪.‬‬
‫[ بدعاية السلم ‪ :‬بدعوته وهي كلمة الشهادة التي يدعي إلي النطق بها‬
‫أهل الملل الكافرة ‪ .‬توليت ‪ :‬أعرضت عن السلم ‪ ،‬ورفضت الدخول فيه ‪ .‬إثم‬

‫‪113‬‬
‫الريسيين ‪:‬إثم استمرارهم على الباطل والكفر أتباعا لك ‪ ،‬والمراد بالريسيين‬
‫التباع من أهل مملكته ‪ ،‬وهي في الصل جمعي أريسي ‪ ،‬وهو الحارث والفلح‬
‫كلمة سواء بيننا وبينكم ‪ :‬مستوية ل تختلف فيها الكتب المنزلة ‪ ،‬ول النبياء‬
‫المرسلون ]‬
‫فإذا توفر هذان الشرطان ‪ ،‬كان لمام المسلمين أن يقاتلهم إذا اقتضته مصلحة‬
‫الدعوة السلمية ‪ ،‬حتى وإن كان ذلك بدون سابق إنذار ‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫مراحل الجهاد وآدابه‬
‫الدعوة أولً ‪:‬‬
‫اعلم أن قتال الكفار وسيلة وليس غاية ‪ ،‬فإذا تحقق الهدف المقصود بدون‬
‫قتال ‪ ،‬فذلك هو المطلوب ‪،‬ول يشرع القتال حينئذ ‪ ،‬وإنما الهدف نزول الكفار‬
‫الحاكمين عن عروش طغيانهم ‪ ،‬والخضوع لحكم ال تعالي في سياسة شعوبهم‬
‫ورعاياهم ‪ ،‬وترك الحقائق الدينية تنتشر على سجيتها في أفكار الناس وعقولهم ‪.‬‬
‫والوسيلة الولي إلي ذلك إنما هي الدعوة القائمة على المنطق والحوار‬
‫واستنهاض كوامن النسانية والنصاف والحذر من العواقب في نفوسهم ‪.‬‬
‫فإذا قطع المسلمون الشوط الكافي في سبيل هذه الدعوة بالشرح والبيان ورد‬
‫الشبه ‪ ،‬والكشف عن الغوامض ‪ ،‬وبيان المعروف ‪ ،‬والمر به وبيان المنكر‬
‫والنهي عنه ‪ ،‬فإن تحقق الهدف المطلوب بذلك وحده فتلك هي النهاية التي يجب‬
‫على المسلمين أن يقفوا عندها ‪ ،‬ل يطمعون بعدها منهم بأرض ول مال ‪ ،‬ول حكم‬
‫ول سلطان ‪.‬‬
‫وإن لم يتحقق الهدف المطلوب ‪ ،‬بأن قوبلت الدعوة بالستنكار والعناد‬
‫والصد والمنع ‪ ،‬حتى لم يكن من سبيل لبلغها دهماء الناس عامتهم ‪ ،‬فإن على‬
‫المسلمين حينئذ أن يتبعوا هذه المرحلة بالمرحلة الثانية التي تليها ‪ ،‬بأمر من الحاكم‬
‫المسلم وبشرط أن يأنس القدرة على ذلك ‪ ،‬وهي القتال والمناجزة ‪.‬‬
‫الجزية ثانيا ‪:‬‬
‫قلنا ‪ :‬إن الخطوة الثانية التي تلي مرحلة الدعوة إلي ال بالحكمة والموعظة‬
‫الحسنة ‪ ،‬هي القتال والمناجزة ‪.‬‬
‫غير أنه إذا أمكن تفادي القتال والمناجزة بوسيلة وسطي بين العناد على‬
‫الكفر بعد وضوح الدلة على بطلنه ‪ ،‬وبين الدخول في السلم تدينا به ‪ ،‬وهذه‬
‫الوسيلة الوسطى ‪ ،‬هي الدخول في حكم الدولة السلمية والنسجام مع أحكامه‬
‫التشريعية المتعلقة بالنظام الجتماعي ‪ ،‬وجب المصير إليها ‪ ،‬وإقامة سلم بينهم‬
‫وبين المسلمين على أساسها ‪ ،‬على أن يخضع الكافرون لضريبة تدفع إلي إمام‬

‫‪115‬‬
‫المسلمين ‪ ،‬تنزل منزلة الزكاة التي يدفعها المسلمون إليه تسمى ‪ :‬الجزية وذلك‬
‫بناء على شروط معينة سنذكرها بعد قليل إن شاء ال تعالي ‪.‬‬
‫القتال ثالثا ‪:‬‬
‫فإن رفض الكفار بعد إجراء كل ما سبق ‪ ،‬الدخول في السلم ‪ ،‬ورفضوا‬
‫النضواء تحت سلطانه قانونا ونظاما ‪ ،‬كانت المرحلة الثالثة ‪ ،‬وهي القتال ‪ ،‬وذلك‬
‫لصريح قول ال تبارك وتعالي ‪  :‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ‪,‬ل‬
‫يحرمون ما حرم ال ورسوله ول يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى‬
‫يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ‪( ‬سورة التوبة ‪)29 :‬‬
‫ولقول ربعي بن عامر لقائد الجيش الفارسي ‪ :‬إن مما سنهُ لنا رسول ال‬
‫‪ :‬أن ل نمهل العداء أكثر من ثلث ‪ ،‬فانظر في أمرك ‪ ،‬واختر واحدة من‬
‫ثلث بعد الجل ‪ :‬السلم وندعك وأرضك ‪ ،‬أو الجزاء ـ أي الجزية ـ ونقبل‬
‫ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك ‪ ،‬أو المنابذة ـ أي القتال ـ في اليوم‬
‫الرابع ‪.‬‬
‫من هم الذين يخيرون بين السلم والجزية ؟‬
‫تنقسم فئات الكفار ‪ ،‬من حيث الخضوع لحكم الجزية وعدمه إلي طائفتين ‪:‬‬
‫الطائفة الولي ‪ :‬هم أهل الكتاب هم أهل الكتاب ‪،‬ومن في حكمهم ‪ ،‬فأما‬
‫أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى ‪ ،‬وأما الذين هم في حكمهم ‪ ،‬فالمجوس ‪،‬‬
‫وزاعمو التمسك بصحف إبراهيم وزبور داود عليهما الصلة والسلم ‪.‬‬
‫الطائفة الثانية ‪ :‬وهم من عدا أولئك الذين ذكرناهم ‪ ،‬من سائر الكفار ‪،‬‬
‫سواء كانوا مل حدة ‪ ،‬أو عبدة أوثان ‪ ،‬أو غير ذلك ‪.‬‬
‫فالطائفة الولي هي التي تقبل منها الجزية ‪ ،‬حين تخير بينها وبين السلم‬
‫وذلك لدللة الية السابقة ‪ ،‬وحديث ربعي بن عامر المار ذكره ‪.‬‬
‫بمعاملتهم في الجزية معاملة‬ ‫وأما المجوس ‪ ،‬فقد جاء المر من النبي‬
‫أهل الكتاب ‪.‬‬
‫روي مالك في الموطأ [‪ ]1/278‬في الزكاة ‪ ،‬باب ‪ :‬جزية أهل الكتاب‬
‫والمجوس ‪ ،‬عن جعفر بن محمد رحمه ال ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬أن عمر بن الخطاب‬

‫‪116‬‬
‫رضي ال عنه ذكر المجوس ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما أدري كيف أصنع في أمرهم ؟ فقال‬
‫يقول ‪ :‬‬ ‫عبدالرحمن بن عوف رضي ال عنه ‪ :‬أشهد لقد سمعت رسول ال‬
‫سنوا بهم سنة أهل الكتاب ‪. ‬‬
‫وروي البخاري [‪ ]2988‬في الجزية ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في أخذ الجزية من‬
‫اليهود والنصارى والمجوس والعجم ‪ ،‬ومسلم [‪ ]2961‬في أول كتاب الزهد‬
‫‪،‬‬ ‫والرقائق ‪ ،‬عن عمرو بن عوف النصاري رضي ال عنه أن رسول ال‬
‫بعث أبا عبيدة بن الجراح إلي البحرين يأتي بجزيتها ‪.‬‬
‫أما الطائفة الخرى ‪ ،‬وهم سائر الفئات الخرى من الكفار ‪ ،‬على اختلفهم‬
‫ل بدللة النصوص الواردة ‪ ،‬ولن من عدا‬
‫‪ ،‬فل يقبل منهم إل السلم ‪ ،‬وذلك عم ً‬
‫الكتابيين من الكفار ‪ ،‬ومن في حكمهم ‪ ،‬ل يتصلون مع المسلمين بأي علقة أو‬
‫سبب ‪ ،‬فانضواؤهم في منهج النظام السلمي غير ذي معنى ول فائدة ‪.‬‬
‫حرُمُ فَا ْق ُتلُواْ‬
‫ش ُهرُ الْ ُ‬
‫سلَخَ الَ ْ‬
‫وعليهم ينطبق قول ال تبارك وتعالي ‪  :‬فَإِذَا ان َ‬
‫صرُوهُمْ وَا ْقعُدُواْ َلهُمْ كُلّ َم ْرصَدٍ فَإِن تَابُواْ‬
‫ح ُ‬
‫ح ْيثُ وَجَد ّتمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَا ْ‬
‫ش ِركِينَ َ‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫( سورة التوبة ‪) 5 :‬‬ ‫سبِيَلهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ ‪‬‬
‫خلّواْ َ‬
‫لةَ وَآ َت ُو ْا ال ّزكَاةَ فَ َ‬
‫َوأَقَامُواْ الصّ َ‬
‫‪ " :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن‬ ‫وفيهم يصدق أيضا قول النبي‬
‫ل إله إل ال ‪ ،‬وأن محمدا رسول ال ‪ ،‬ويقيموا الصلة ‪ ،‬ويؤتوا الزكاة ‪ ،‬فإذا‬
‫فعلوا ذلك عصموا منى دمائهم وأموالهم إل بحق السلم وحسابهم على ال‬
‫" ( رواه البخاري [‪ ]25‬في كتاب اليمان ‪ ،‬باب ‪ :‬المر بقتال الناس حتى يقولوا‬
‫ل إله إل ال ‪ ،‬عن عبدال بن عمر بن الخطاب رضي ال عنهما ) ‪.‬‬
‫بيان الحكمة من التفريق بين الطائفتين من الكفار ‪:‬‬
‫ولعلك تسأل ‪ :‬فما الحكمة التي قامت عليها مشروعية قبول الكتابيين على‬
‫حالهم ‪ ،‬مع أخذ الجزية منهم ؟ وهل كان سائر الكفار مثلهم ؟ والجواب أن‬
‫التفريق بين هاتين الطائفتين قائم على حقيقتين اثنتين ‪:‬‬
‫الحقيقة الولي ‪ :‬ومفادها أن الكتابي يشترك مع المسلمين في إيمانه بال‬
‫‪ ،‬أو آمن بنبوته إلي‬ ‫والنبيين ‪ ،‬وإن لم يؤمن بوحدانية ال ‪ ،‬ول بنبوة محمد‬
‫العرب فقط ‪ ،‬فكان له سبيل سائغة للنضواء تحت نظام الحكم السلمي ‪ ،‬كشرعة‬

‫‪117‬‬
‫وقانون ‪ ،‬وكان له من إيمانه هذا ما يجعله متمكنا من النسجام مع نظامه ‪ ،‬ثم إنه‬
‫بعد ذلك سيجد مجالً رحبا للنظر بإمعان وحرية فكرية مطلقة في حقيقة السلم‬
‫وواقعه ‪ ،‬ولسوف يظهر له مع الزمن ـ إن كان يتمتع بحرية فكرية تامة ـ أن‬
‫السلم دين حق ل مرية فيه ‪ .‬أما الجزية التي تؤخذ منه ‪ ،‬فهي كما قلنا آنفا ‪:‬‬
‫ليست إل عوضا عن الزكاة التي تؤخذ من أغنياء المسلمين ‪ ،‬لتحقيق نفس الفائدة‬
‫بواسطتها ‪ ،‬وهي إعادتها على فقرائهم ‪ ،‬ونهوض الدولة بالمسؤولية التامة‬
‫تجاههم‪.‬‬
‫الحقيقة الثانية ‪ :‬أن بقية فئات الكفر ل تجمعهم مع المسلمين أي جامعة ‪،‬‬
‫ومن ثم فليس من سبيل لنضوائهم في نظام الحكم السلمي ‪ ،‬ولتجاوبهم معه ‪،‬‬
‫وهم بعد ذلك ـ فيما يحملون من عقائد الجحود بال ‪ ،‬وإنكار الصانع جل جلله ـ‬
‫جراثيم ضارة فتاكة بالمجتمع الذي يحلون فيه ‪ ،‬وهم في واقعهم هذا يشكلون شذوذ‬
‫النسانية عن منهجها الفطري الطبيعي ‪ ،‬فكان أمرا سليما أن ل يقبل منهم إل‬
‫السلم ‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫الثار المترتبة على الجهاد‬

‫تترتب على الجهاد آثار ونتائج كثيرة ذات أهمية ‪ ،‬ولكل منها أحكام خاصة‬
‫بها ‪ .‬فلنستعرض هذه الثار واحدة إثر أخري ‪ ،‬موضحين خلصة الحكام‬
‫المتعلقة بكل منها ‪:‬‬
‫‪ -1‬السر ‪:‬‬
‫من أبرز نتائج الجهاد وقوع أسري من الكفار تحت سلطان المسلمين ‪ ،‬وفي‬
‫أيديهم ‪.‬‬
‫فهؤلء السري ‪ :‬إن كانوا أطفالً أو نساءً أصبحوا بمجرد السر أرقاء‬
‫حكما أما إن كانوا رجالً بالغين ‪ ،‬فل يعتبرون أرقاء بمجرد السر ‪ ،‬وإنما يتبع‬
‫ذلك حكم المام ‪ ،‬فإن ضرب عليهم الرق أصبحوا أرقاء ‪ ،‬وإل فهم أحرار ‪.‬‬
‫مصير السري ‪:‬‬
‫ثم إن المام يختار لمصير السرى واحدة من خصال أربعة ‪ :‬القتل ‪،‬‬
‫والمن والفداء بالمال ‪ ،‬والسترقاق ‪.‬‬
‫يختار ما شاء متبعا في ذلك مصلحة المسلمين وخيرهم ‪.‬‬
‫أما المن والفداء ‪ ،‬فقد جاء مصرحا بهما في قول ال عز وجل ‪َ  :‬إِذا لَقِيتُمُ‬
‫حتّى إِذَا َأثْخَن ُتمُوهُمْ فَشُدّوا ا ْل َوثَاقَ فَِإمّا َمنّا َبعْدُ َوِإمّا‬
‫ض ْربَ الرّقَابِ َ‬
‫الّذِينَ كَ َفرُوا َف َ‬
‫صرَ ِم ْنهُمْ َوَلكِن ّل َي ْبلُوَ‬
‫ح ْربُ َأ ْوزَارَهَا َذِلكَ َوَلوْ يَشَاءُ اللّهُ لَان َت َ‬
‫حتّى َتضَعَ الْ َ‬
‫فِدَاء َ‬
‫عمَاَلهُم‪ ( ْ‬سورة محمد ‪) 4 :‬‬
‫ل اللّهِ َفلَن ُيضِلّ أَ ْ‬
‫سبِي ِ‬
‫ضكُم ِب َبعْضٍ وَالّذِينَ ُق ِتلُوا فِي َ‬
‫َب ْع َ‬
‫[ أثخنتموهم ‪ :‬أثقلتموهم بالقتل والجراح ‪ .‬فشدوا الوثاق ‪ :‬فأسروهم ‪ ،‬وشدوا‬
‫رباطهم حتى ل يفلتوا منكم ‪ .‬منا ‪ :‬أي تمنون منا ‪ ،‬والمن ‪ :‬هو النعام على‬
‫السير وإطلق سراحه من غير فدية ‪ .‬تضع الحرب أوزارها ‪ :‬تنتهي الحرب‬
‫وذلك بوضع المحاربين أسلحتهم ]‬
‫وأما ما يدل على قتل السري ‪ ،‬فقول ال عز وجل ‪َ  :‬ا كَانَ ِل َن ِبيّ أَن َيكُونَ‬
‫خ َرةَ وَاللّهُ‬
‫عرَضَ ال ّد ْنيَا وَاللّهُ ُيرِيدُ ال ِ‬
‫لرْضِ ُترِيدُونَ َ‬
‫حتّى ُيثْخِنَ فِي ا َ‬
‫سرَى َ‬
‫لَهُ أَ ْ‬
‫حكِيم‪ ( ٌ‬سورة النفال ‪) 67 :‬‬
‫عزِيزٌ َ‬
‫َ‬

‫‪119‬‬
‫[ حتى يثخن في الرض ‪ :‬حتى يبالغ في قتل الكفار ]‬
‫وأما السترقاق ‪ ،‬فقد ثبت بدللة السنة ‪ ،‬وفعل النبي ‪ ، $‬فقد استرق أسرى‬
‫في غزوة خيبر وقريظة ‪ ،‬وفي غزوة حنين ‪.‬‬
‫روي البخاري [‪ ]3804‬في المغازي ‪ ،‬باب ‪ :‬حديث بني النضير ‪ ،..‬ومسلم‬
‫[‪ ]1766‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬إجلء اليهود من الحجاز ‪ ،‬عن ابن عمر رضي ال‬
‫عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬حاربت النضير وقريظة ‪ ،‬فأجلي بني النضير ‪ ،‬وأقر قريظة ‪ ،‬ومن‬
‫عليهم ‪ ،‬حتى حاربت قريظة ‪ ،‬فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولدهم وأموالهم بين‬
‫المسلمين ‪.‬‬
‫أسرى هوازن ‪ ،‬ثم تشفع فيهم لدي المسلمين بعد أن قسموا‬ ‫واسترق‬
‫أن يرد إليهم سبيهم‬ ‫بينهم ‪ ،‬عندما جاء وفد هوازن مسلمين ‪ ،‬وطلبوا منه‬
‫وأموالهم ‪ ،‬فمنوا عليه ‪( .‬رواه البخاري [‪ ]2963‬في الخمس ‪ ،‬باب ‪ :‬الدليل على‬
‫أن الخمس لنوائب المسلمين )‬
‫وروي مسلم [‪ ]1755‬في الجهاد والسير ‪ ،‬باب ‪ :‬التنفيل وفداء المسلمين‬
‫بالسارى ‪ ،‬عن إياس بن سلمة عن أبيه أن سرية من المسلمين أتوا بأسري ‪ ،‬فيهم‬
‫إلي أهل مكة ‪ ،‬ففدي بها ناسا من‬ ‫امرأة من بني فزارة ‪ ،‬فبعث بها رسول ال‬
‫أخذ الفداء من‬ ‫المسلمين ‪ ،‬كانوا أسروا بمكة ‪ .‬وروي مسلم [‪ ]1763‬أيضا أنه‬
‫أسري بدر ‪.‬‬
‫‪ -2‬الرق ‪:‬‬
‫الرق في اصطلح الشريعة السلمية ‪ :‬عجز حكمي يتلبس النسان بسبب‬
‫الكفر في الصل ‪ ،‬ويظهر هذا العجز الحكمي ‪ ،‬بفقدان أهليه التملك ‪ ،‬وفقدان‬
‫الحقوق المدنية ‪.‬‬
‫الحكمة من مشروعية الرق ‪:‬‬
‫عرفت أن حكم السترقاق والمن والفداء داخل في أحكام السياسة‬
‫الشرعية ‪ ،‬ومنوط برأي الحاكم المسلم ‪ ،‬يراعي فيه المصلحة العامة للمسلمين ‪.‬‬
‫والحكمة في أن يتخذ السترقاق محله بين هذه الخصال التي يخير بينها هي‬
‫أنه سلح موجود في أيدي العداء بالنسبة لسرانا عندهم ‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫فكان من أسس العدالة أن يملك المسلمون هذا السلح نفسه ‪ ،‬ثم يعطي‬
‫الحاكم صلحية استعماله ‪ ،‬بمجرد أن يري ضرورة لذلك ‪ ،‬كأن يجد أعداءنا قد‬
‫استرقوا أسرانا ‪ ،‬وأنت تعلم أن القانون الدولي يقر مبدأ التعامل بالمثل فيما يتعلق‬
‫بالسري ‪.‬‬
‫وكان من الجحاف أن ينسخ هذا السلح ( السترقاق الناتج عن الحرب )‬
‫نسخا شاملً ‪ ،‬مع استعمال العداء له ‪ ،‬وشعورهم بالسعادة لكونهم وحدهم الذين‬
‫يملكون هذا السلح ‪.‬‬
‫مصير حكم السترقاق اليوم ‪:‬‬
‫ل يزال ضرب الرق على أسري الحرب إلي اليوم ‪ ،‬حكما شرعيا من‬
‫أحكام المامة ‪ ،‬أي أن المام يرى في ذلك رأيه ‪ ،‬بناءً على المصلحة العامة‬
‫للمسلمين ‪.‬‬
‫غير أنه منذ حين بعيد ‪ ،‬أبعد هذا الحكم عن التنفيذ ‪ ،‬وذلك لعدم وجود‬
‫مصلحة تدعو إلي ذلك ‪ ،‬ولن دول العالم اتفقت فيما بينها على عدم استرقاق‬
‫السري ‪ ،‬فكان في هذا التفاق ما أبعد المصلحة السلمية عن ضرب الرق‬
‫عليهم‪.‬‬
‫واعلم أن أحكام السياسة الشرعية المتعلقة بأبواب الجهاد أشبه ما يكون بما‬
‫يسمي بأحكام الطوارئ ‪ ،‬فكما يجوز لرئيس الدولة أن يعلق القانون ‪ ،‬ويعلن حالة‬
‫الطوارئ ‪ ،‬ويقرر ما يشاء تحت هذا العنوان ‪ ،‬فكذلك يجوز لمام المسلمين أن‬
‫يمارس صلحيات معينة ‪ ،‬وضعها الشارع تحت يده ليستفيد منها عند الضرورة‬
‫واللزوم كحكم الرق ‪ ،‬وقتل السري ‪ ،‬وقطع أشجار الكفار وتحريق بيوتهم ‪،‬‬
‫ونحو هذا مما يري فيه مصلحة المسلمين ‪.‬‬
‫ومما يجب أن يعلم أن من أسلم من الكفار قبل السر ‪ ،‬ولو بعد الهزيمة فقد‬
‫أحرز دمه من القتل ‪ ،‬ونفسه من الرق ‪ ،‬وصغر أولده من السبي والسترقاق ‪،‬‬
‫خلّواْ‬
‫لةَ وَآ َت ُو ْا ال ّزكَاةَ فَ َ‬
‫يدل على ذلك قول ال عز وجل ‪َ  :‬إِن تَابُواْ َوأَقَامُو ْا الصّ َ‬
‫سبِيَلهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ‪ ( ‬سورة التوبة ‪ ) 5 :‬وقول ال عز وجل ‪  :‬فَإِن تَابُواْ‬
‫َ‬

‫‪121‬‬
‫خوَا ُنكُمْ فِي الدّينِ َونُ َفصّلُ اليَاتِ لِ َقوْمٍ َي ْعَلمُونَ{‬
‫لةَ وَآ َت ُو ْا ال ّزكَاةَ فَإِ ْ‬
‫َوأَقَامُواْ الصّ َ‬
‫( سورة التوبة ‪. ) 11 :‬‬
‫ول شك أن هذه الخوة تستلزم المحافظة على أرواحهم وأموالهم وأولدهم‬
‫ما داموا قد أسلموا قبل وقوعهم أسرى في أيدي المسلمين ‪.‬‬
‫‪ " :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا‬ ‫ويدل على هذا أيضا قول النبي‬
‫أن ل إله إل ال ‪ ،‬وأن محمدا رسول ال ‪ ،‬ويقيموا الصلة ويؤتوا الزكاة ‪ ،‬فإذا‬
‫فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحق السلم ‪ ،‬وحسابهم على ال‬
‫" ( رواه البخاري [ ‪ ] 25‬في اليمان ‪ ،‬باب ‪ :‬فإن تابوا ‪ ، ...‬ومسلم [‪ ]22‬في‬
‫اليمان ‪ ،‬باب ‪ :‬المر بقتال الناس حتى يقولوا ل إله إل ال ‪ ،‬عن ابن عمر رضي‬
‫ال عنهما ) ‪.‬‬
‫وهذا ويُحكم على الصغر من الولد بالسلم عند وجود ثلثة أسباب ‪:‬‬
‫‪ -1‬إسلم أحد أبويهم ‪ ،‬فإنه يتبع أشرف أبويه في الدين ‪ ،‬تغليبا لجانب السلم ‪،‬‬
‫وترجيحا لمصلحة الصغير ‪ ،‬وما هو أنفع له ‪ ،‬فإن السلم صفة كمال وشرف‬
‫وعلو ‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪ " :‬السلم يعلو ول يعلي " ‪ ( .‬رواه الدارقطني‬
‫في سننه ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬ورواه البخاري تعليقا في الجنائز ‪ ،‬باب ‪ :‬إذا اسلم‬
‫الصبي ‪ .‬انظر العيني [‪. ) ]8/169‬‬
‫‪ -2‬أن يسبيه مسلم وهو منفرد عن أبويه ‪ ،‬فيحكم عندئذ بإسلمه تبعا لدين من‬
‫سباه ‪ ،‬ترجيحا لمصلحته كما قلنا ‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يوجد لقيطا في دار السلم ‪ ،‬فيحكم بإسلمه تبعا للمكان الذي وجد فيه‬
‫وتغليبا لجانب الخير بالنسبة له ‪.‬‬
‫‪ -3‬الغنائم والسلب ‪:‬‬
‫الغنيمة ‪ :‬هي المال المأخوذ من أهل الحرب قهرا ‪ ،‬سواء كانت منقولة ‪ ،‬أو‬
‫غير منقولة ‪ ،‬وسواء أخذت ‪ ،‬والحرب قائمة ‪ ،‬أو أخذت عند مطاردة العداء‬
‫وفرارهم ‪ ،‬والسلب ‪ :‬جمع سلب ‪ ،‬وسلب القتيل ‪ :‬ما وجد معه وفي حوزته من‬
‫المال والسلح ‪.‬‬
‫حكم الغنائم ‪:‬‬

‫‪122‬‬
‫يجب تقسيم الغنائم خمسة أقسام ‪ ،‬فأما أربعة أخماسهم ‪ ،‬فتوزع بين‬
‫في عصره أن المقاتل راجلً ‪ ،‬يأخذ سهما‬ ‫المقاتلين ‪ ،‬وكان من هدى النبي‬
‫واحدا يفرضه له الحاكم ‪ ،‬والمقاتل فارسا يأخذ ثلثة أسهم ‪ .‬روي البيهقي [‪]9/62‬‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬ما تقول في الغنيمة ؟ قال ‪ " :‬ل خمسها ‪ ،‬وأربعة‬ ‫أن رجلً سأل النبي‬
‫أخماسها للجيش " وروي البخاري [‪ ]2708‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬سهام الفرس عن‬
‫ابن عمر رضي ال عنهما ‪ :‬أن رسول ال ‪ $‬جعل للفرس سهمين ‪ ،‬ولصاحبه‬
‫سهما ‪ .‬وفي رواية عند البخاري [‪ ]3988‬في المغازي ‪ ،‬باب ‪ :‬غزوة خيبر ‪،‬‬
‫ومسلم [‪ ]1762‬في الجهاد والسير ‪ ،‬باب ‪ :‬كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين ‪،‬‬
‫عن عبدال بن عمر رضي ال عنهما قال ‪ :‬قسم رسول ال ‪ $‬يوم خيبر ‪ :‬للفرس‬
‫سهمين ‪ ،‬وللراجل سهما ‪.‬‬
‫وإذا كان هذا التقسيم بذاته غير وارد اليوم لختلف أساليب الحرب ‪،‬‬
‫وأدواتها ‪ ،‬فإن المطلوب الن ملحظة جنس التفاوت بين المقاتلين ‪ ،‬بالقدر الذي‬
‫يتناسب والفرق ما بين الفارس والراجل فيما مضي ‪ ،‬فيعطي للدنى ‪ 1/3‬مما‬
‫يأخذه العلى ‪.‬‬
‫فيجب على كل حال حجز أربعة أخماس الغنائم ‪ ،‬وقصرها على الجند‬
‫والمقاتلين ‪ ،‬بنفس الطريقة التي كان يسلكها رسول ال ‪ ، $‬مع ملحظة ما‬
‫تطورت إليه وسائل القتال ‪ ،‬وطرائقه ‪ ،‬وأثرها في تفاوت درجات المقاتلين ‪.‬‬
‫ول مانع من أن توزع عليهم حصصهم على شكل علوات ‪ ،‬أو مرتبات‬
‫متلحقة ‪ ،‬إنما المهم أن الدولة ل يجوز لها أن تستمسك بشيء من هذه الموال‬
‫المغنومة لنفسها ‪.‬‬
‫هذا ل يسهم على الشكل الذي ذكرنا من الغنيمة إل لمن اجتمعت فيه‬
‫الشروط التالية ‪:‬‬
‫السلم ‪ ،‬والبلوغ ‪ ،‬والعقل والحرية ‪ ،‬والذكورة ‪ ،‬فإن اختل شرط من هذه‬
‫الشروط ‪ ،‬رضخ له المام ‪ ،‬أي أعطاه شيئا من الغنيمة قبل قسمتها ويجتهد في‬
‫قدره حسب ما قدم من نفع ‪ ،‬على أن ل يبلغ ما يعطيه سهم الراجل ولك لن‬

‫‪123‬‬
‫هؤلء الذين لم تتكامل فيهم تلك الشروط ‪ ،‬كالصغار والنساء والعبيد ‪ ،‬ليسوا من‬
‫أهل الجهاد الذي يفرض عليهم حضوره ‪.‬‬
‫وأما الخمس الخامس من الغنيمة ‪ ،‬فيوزع أخماسا كما نصت عليهم الية‬
‫خمُسَهُ َولِلرّسُولِ َولِذِي الْ ُق ْربَى‬
‫شيْءٍ َفأَنّ ِللّهِ ُ‬
‫غ ِن ْمتُم مّن َ‬
‫عَلمُواْ َأ ّنمَا َ‬
‫القرآنية ‪  :‬وَا ْ‬
‫سبِيلِ ‪ ( ‬سورة النفال ‪. ) 41 :‬‬
‫وَا ْل َيتَامَى وَا ْلمَسَاكِينِ وَابْنِ ال ّ‬
‫[ ل خمسه ‪ :‬أي يحكم فيه كما يشاء ‪ .‬وللرسول أي قسمته وتوزيعه ‪ ،‬وله‬
‫فيه نصيب ‪ ،‬وهو خمسه ‪ .‬اليتامى ‪ :‬جمع يتيم ‪ ،‬وهو كل صغير ل أب له ‪ ،‬فإذا‬
‫‪ " :‬ل يتم بعد احتلم " ‪ ( .‬رواه أبو داود [ ‪ ]2873‬في‬ ‫بلغ لم يبق يتيما لقوله‬
‫الوصايا باب ‪ :‬ما جاء متى ينقطع اليتم ‪ ،‬عن على بن أبي طالب رضي ال عنه)‬
‫‪ .‬ابن السبيل ‪ :‬المسافر الذي فقد النفقة ‪ ،‬وهو بعيد عن ماله ‪ .‬ولذي القربى ‪ :‬هم‬
‫أقارب الرسول الذين ل تحل لهم الصدقة ‪ ،‬وهم بنو هاشم والمطلب ‪ ،‬روي‬
‫البخاري [‪ ]2981‬في الخمس ‪ ،‬باب ‪ :‬الدليل على أن الخمس للمام ‪ ،‬وأنه يعطي‬
‫بعض قرابته دون بعض ‪ ،‬عن جبير بن مطعم رضي ال عنه قال ‪ :‬مشيت أنا‬
‫فقلنا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أعطيت بني المطلب‬ ‫وعثمان بن عفان إلي رسول ال‬
‫‪ " :‬إنما بنو المطلب‬ ‫وتركتنا ‪ ،‬ونحن وهم منك بمنزلة واحدة ؟ فقال رسول ال‬
‫وبنو هاشم شيء واحد " ‪.‬‬
‫بمنزلة واحدة ‪ :‬أي من حيث القرابة ‪ ،‬لن الجميع ينو عبد مناف ‪ ،‬شيء‬
‫واحد ‪ :‬لنهم ناصروه قبل إسلمهم وبعده ]‬
‫حكم السلب ‪:‬‬
‫وقد عرفت السلب ‪ ،‬والفرق بينها وبين الغنائم ‪ ،‬وحكمها أن سلب القتيل‬
‫يكون ملكا لقاتله إذا أخذه وكان ممن يستحق الغنيمة ‪.‬‬
‫" من قتل قتيلً له عليه بينه ‪ ،‬فله سلبه " ‪ ( .‬رواه‬ ‫ودليل ذلك قول النبي‬
‫البخاري [‪ ]2973‬في الخمس ‪ ،‬باب ‪ :‬من لم يخمس السلب ‪ ،‬ومن قتل قتيلً فله‬
‫سلبه ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1851‬في الجهاد والسير ‪ ،‬باب ‪ :‬استحقاق القاتل سلب القتيل ‪،‬‬
‫عن أبي قتادة رضي ال عنه ) ‪.‬‬
‫تنبيه ‪:‬‬

‫‪124‬‬
‫يري المام الشافعي رحمه ال تعالى أن حكم السلب ـ على نحو ما‬
‫فه ثابت إلي ويم القيامة ‪.‬‬ ‫ذكرنا ـ هو حكم تبليغي ‪ ،‬أخبر به النبي‬
‫وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما ال تعالى إلي أنه حكم قضائي ‪ ،‬قضي به‬
‫بوصف كونه حاكما ‪ ،‬ولم يخبر به عن ال عز وجل بوصف كونه‬ ‫رسول ال‬
‫أن يخالفوه إلي ما هو مصلحة في‬ ‫نبيا ‪ ،‬وعليه يجوز للحكام بعد رسول ال‬
‫عصرهم ‪ ،‬وظروفهم ‪.‬‬
‫‪ -4‬الفيء ‪:‬‬
‫تعريف الفيء ‪:‬‬
‫الفيء هو ما أخذه المسلمون من أعدائهم بدون قتال ‪ ،‬ومن أموال منقولة ‪،‬‬
‫علَى‬
‫وغير منقولة ‪ ،‬قال ال عز وجل في أموال يهود بني النضير ‪َ  :‬ومَا أَفَاء اللّهُ َ‬
‫علَى مَن‬
‫سلَهُ َ‬
‫سلّطُ رُ ُ‬
‫ن اللّهَ يُ َ‬
‫خيْلٍ َولَا ِركَابٍ َوَلكِ ّ‬
‫عَليْهِ مِنْ َ‬
‫رَسُولِهِ ِم ْنهُمْ َفمَا َأوْجَ ْفتُمْ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ ‪ ( ‬سورة الحشر ‪.) 6 :‬‬
‫علَى كُلّ َ‬
‫يَشَاءُ وَاللّهُ َ‬
‫[ أوجفتم ‪ :‬أسرعتم ‪ .‬ول ركاب ‪ :‬ول أبل ‪ ،‬أي لم تقاسموا فيه مشقة ]‬
‫فالفرق إذا بين الفيء والغنائم ‪ ،‬أن الغنائم مال وصل إلي المسلمين في‬
‫أعقاب حرب ‪ ،‬والفيء ‪ :‬مال وصل إلي المسلمين من أعدائهم بدون حرب ول‬
‫قتال ‪.‬‬
‫حكم الفيء ‪:‬‬
‫يقسم الفيء أخماسا ‪ ،‬فيجعل خمسه في أصحاب خمس الغنيمة وخم خمس‬
‫فئات كما مر في الغنيمة ‪.‬‬
‫‪ ،‬وقد كان يأخذ من خمس الخمس ما يحتاج إليه من نفقته ونفقة‬ ‫‪ -1‬رسول ال‬
‫عياله ‪ ،‬وما فضل كان يضعه في مصالح المسلمين ‪ :‬كالثغور ‪ ،‬والمشاريع‬
‫بعد وفاته يصرف في مصالح المسلمين ‪.‬‬ ‫المختلفة ‪ .‬وسهم رسول ال‬
‫روي البخاري [‪ ]2748‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬المجن ومن يترس بترس‬
‫صاحبه ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1757‬في الجهاد والسير ‪ ،‬باب ‪ :‬حكم الفيء ‪ ،‬عن عمر بن‬
‫الخطاب رضي ال عنه قال ‪ :‬كانت أموال بني النضير مما أفاء ال على رسول‬
‫‪ ،‬مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ول ركاب ‪ ،‬فكانت لرسول ال ‪$‬‬ ‫ال‬

‫‪125‬‬
‫خاصة ‪ ،‬وكان ينفق على أهله نفقة سنته ‪ ،‬ثم يجعل ما بقي في السلح والكراع ‪،‬‬
‫عدة في سبيل ال ‪.‬‬
‫‪ -2‬ذوو القربى ‪ ،‬وهم بنو هاشم والمطلب أقرباء رسول ال ‪ ، $‬وقد مر دليل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ -3‬اليتامى ‪ ،‬وهم من مات آباؤهم وهم صغار دون سن البلوغ ‪.‬‬
‫‪ -4‬المساكين ‪ ،‬ويدخل في زمرتهم الفقراء ‪ ،‬لن الفقراء أسوأ حالً من المساكين ‪.‬‬
‫‪ -5‬أبناء السبيل ‪ ،‬وهم المسافرون الذين فقدوا نفقتهم ‪ ،‬وهم بعيدون عن أموالهم ‪.‬‬
‫وأما الربعة الخماس الخرى فتصرف في مصالح المسلمين ‪ ،‬بشرط أن‬
‫يكون في مقدمتها رفع مستوي العاملين في الجيش ‪،‬وهم الجناد المرصود ون‬
‫للجهاد ‪.‬‬
‫فإن كانت أموال الفيء منقولة وزعت عليهم أعيانها ‪.‬‬
‫وإن كانت غير منقولة كالعقارات ‪ ،‬وقفت لمصالح بيت مال المسلمين ‪،‬‬
‫ووزع ريعها على من ذكرناهم ‪.‬‬
‫علَى رَسُولِهِ‬
‫ويدل على كل ما ذكر قول ال تبارك وتعالي ‪  :‬مّا أَفَاء اللّهُ َ‬
‫سبِيلِ‪. ‬‬
‫مِنْ أَهْلِ الْ ُقرَى َفِللّهِ َولِلرّسُولِ َولِذِي الْ ُق ْربَى وَا ْل َيتَامَى وَا ْلمَسَاكِينِ وَابْنِ ال ّ‬
‫وهذه الية مطلقة لم يذكر فيها التخميس ‪ ،‬كما هو واضح ‪ ،‬لكنها تحمل‬
‫ما‬ ‫على آية الغنيمة المقيدة بالتخميس ‪ ،‬فتخمس كما ذكرنا ‪ .‬قال رسول ال ‪: ‬‬
‫لي مما أفاء ال إل الخمس ‪ ،‬والخمس مردود فيكم ‪ ( . ‬رواه البيهقي [ نهاية ‪:‬‬
‫‪) ]3/272‬‬
‫[ والمراد بالخمس ‪ :‬خمس الخمس ‪ ،‬كما علمت ‪ .‬وقوله ‪ :‬مردود فيكم ‪ :‬أي‬
‫]‬ ‫يصرف في مصالحكم ‪ .‬وذلك بعد وفاته‬
‫هذا ‪ ،‬ومن جملة مصارف الفيء ‪ :‬النفقة على أسر من يموت من‬
‫المجاهدين الذين سبق ذكرهم ‪ ،‬ويسمون المرتزقة ‪ ،‬ولو في غير قتال ‪ ،‬أو العلماء‬
‫ونحوهم ‪ ،‬ممن تحتاج المة إلي أعمالهم ‪ ،‬فيعطي ورثتهم الذين كانت تلزمهم‬
‫نفقتهم في حياتهم ما يسد حاجتهم ‪ .‬قال في النهاية ‪ :‬ومن مات من المرتزقة دفع‬
‫إلي من كان تلزمه نفقته من أربعة أخماس الفيء كفايته ‪ ،‬ل ما كان يأخذه هو ‪،‬‬

‫‪126‬‬
‫فتعطي الزوجة وإن تعددت ‪ ،‬والبنات حتى ينكحن ‪ ،‬أو يستغنين بكسب أو بغيره ‪،‬‬
‫والذكور حتى يستقلوا بالكسب ‪ ،‬أو المقدرة على الغزو ‪ ،‬لئل يشتغل الناس بالكسب‬
‫عن الجهاد ‪ ،‬إذا علموا ضياع عيالهم بعدهم ‪،‬ومن بلغ من البناء عاجزا ‪ ،‬فكمن لم‬
‫يبلغ وقال ‪ :‬ويعطي أولد العالم من أموال المصالح إلي أن يستقلوا ‪ ،‬وللزوجة‬
‫حتى تنكح ترغيبا في العلم [‪]3/74‬‬
‫‪ -5‬الجزية ‪:‬‬
‫تعريف الجزية ‪:‬‬
‫الجزية ‪ :‬من الجزاء ‪ ،‬وهو الثواب والعقاب ‪ ،‬والمراد منها شرعا ‪ :‬المال‬
‫الذي يدفعه الكتابي ‪ ،‬ومن في حكمه ‪ ،‬لبيت مال المسلمين جزاء كف اليد عنهم ‪،‬‬
‫ودخولهم تحت الحماية والرعاية ‪ ،‬والتزام الدولة السلمية النظر في شؤونهم‬
‫وذلك ضمن ضوابط وشروط معينة ‪.‬‬
‫دليل مشروعية الجزية ‪:‬‬
‫قلنا سابقا بأن الجزية شرعت ‪ ،‬لهل الكتاب ‪ ،‬ومن في حكمهم ‪ ،‬ويدل‬
‫على مشروعيتها قول ال عز وجل ‪ ،‬في أهل الكتاب ‪  :‬حتي يعطوا الجزية عن‬
‫يد وهم صاغرون ‪ ( ‬سورة التوبة ‪. ) 29 :‬‬
‫[ عن يد ‪ :‬أي طائعتين غير ممتنعين ‪ .‬وهم صاغرون ‪ :‬قال الشافعي رحمه ال‬
‫تعالى ‪ :‬الصغار ‪ :‬جريان أحكام المسلمين عليهم وقد سبق بيان ذلك ]‬
‫حكمة تشيع الجزية ‪:‬‬
‫قلنا سابقا ‪ :‬إن الكتابي يملك من اليمان بال تعالي ما يفسح مجالً لتعايش‬
‫المسلمين معه ضمن حدود وضوابط مرسومة ‪.‬‬
‫ومن فوائد هذا التعايش القائم على حرية النظر والفكر ‪،‬أن تتلقح الفكار ‪.‬‬
‫ويطلع الكتابيون على ما لم يكونوا يعلمونه من حقائق السلم ‪ ،‬وتذوب أسباب‬
‫العصبية ‪ ،‬فيجتمع الكل على الحق ‪.‬‬
‫إل أن هذا التعايش ل يتم إل بتحمل الدولة السلمية مسؤولياتها تجاههم ‪،‬‬
‫والنظر في شؤونهم ‪ ،‬ل سيما المعيشية والقتصادية ‪ ،‬فكان لبد من أخذ ضريبة‬
‫مالية محددة ‪ ،‬لتيسير أسباب القيام بهذه المسؤوليات ‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫شروط الجزية ‪:‬‬
‫يشترط لعقد الجزية الشروط التالية ‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يكون أصحابها من أهل الكتاب ـ نصارى أو يهودا ـ أو من هم في‬
‫‪ " :‬سنّوا بهم سنة أهل الكتاب " ‪ ( .‬رواه مالك‬ ‫حكمهم ‪ ،‬وهم المجوس ‪ ،‬لقوله‬
‫في الموطأ [‪ ]1/278‬في الزكاة ‪ ،‬باب ‪ :‬جزية أهل الكتاب والمجوس ) ‪ .‬ومثل‬
‫المجوس في الحكم من يزعمون التمسك بمصحف إبراهيم ‪ ،‬أو زبور داود عليهما‬
‫السلم ‪.‬‬
‫وروي البخاري [‪ ]2987‬في الجزية ‪ ،‬باب ‪ :‬أخذ الجزية من اليهود‬
‫والنصارى والمجوس والعجم ‪ ،‬أن عمر بن الخطاب رضي ال عنه ‪ ،‬لم يكن‬
‫ليأخذ من المجوس ‪ ،‬حتى شهد عبدالرحمن بن عوف رضي ال عنه أن النبي ‪$‬‬
‫أخذها من مجوس هجر ‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يجري بذلك عقد إيجاب وقبول بينهم وبين إمام المسلمين ‪ ،‬فيقول المام ‪،‬‬
‫أو من ينوب منابه ‪ :‬أقربكم بدار السلم على أن تبذلوا جزية قدرها كذا وكذا ‪،‬‬
‫وتنقادوا لحكم السلم ‪ ،‬ثم يقول ممثل الطرف الخر من أهل الكتاب ‪ :‬قبلنا بذلك‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يذكر قدر الجزية محددة ‪ ،‬ومصنفة بالنسبة لغنيائهم وفقرائهم ‪ ،‬وأن يتم‬
‫القبول بناء على ذلك ‪.‬‬
‫‪ -4‬أن ل يؤقت عقد الجزية بفترة زمنية محدودة ‪ ،‬كعام ونحوه ‪ ،‬لنه عقد يحقن‬
‫به الدم ‪ ،‬فل يجوز أن يكون مؤقتا ‪ ،‬كعقد السلم ‪.‬‬
‫شروط من تأخذ الجزية منهم ‪:‬‬
‫يشترط فيمن تؤخذ منهم الجزية خمس صفات ‪ :‬العقل ‪ ،‬والبلوغ ‪ ،‬والحرية ‪،‬‬
‫والذكورية ‪ ،‬وأن يكون من أهل الكتاب ومن في حكمهم ‪.‬‬
‫ويدل على اعتبار هذه الشروط قول ال تعالي ‪  :‬قَا ِتلُواْ الّذِينَ لَ ُي ْؤ ِمنُونَ‬
‫حرّمَ اللّهُ َورَسُولُهُ وَلَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ‬
‫ح ّرمُونَ مَا َ‬
‫خرِ وَلَ يُ َ‬
‫بِاللّهِ وَلَ بِا ْل َيوْمِ ال ِ‬
‫غرُونَ‪ ( ‬سورة التوبة ‪:‬‬
‫ج ْزيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَا ِ‬
‫حتّى ُيعْطُواْ الْ ِ‬
‫الّذِينَ أُوتُواْ ا ْل ِكتَابَ َ‬
‫‪, )29‬‬

‫‪128‬‬
‫فقد دلت هذه الية على أن الجزية تؤخذ من المكلفين أهل القتال ‪ ،‬فخرج‬
‫النساء ‪ ،‬لنهن لسن من أهل القتال ‪ ،‬وكذلك العبيد ‪ ،‬وخرج الصبيان والمجانين ‪،‬‬
‫لنهم غير مكلفين ‪.‬‬
‫وروي البيهقي [‪ ]9/195‬أن عمر رضي ال عنه كتب إلي عماله أن ل‬
‫يضربوا الجزية على النساء والصبيان ‪.‬‬
‫حدود الجزية ‪:‬‬
‫أقل الجزية دينار على كل رجل في كل عام ‪ ،‬فيؤخذ الدينار ممن كانوا‬
‫دون المرتبة الوسط في المعيشة واليسر ‪.‬‬
‫ويؤخذ ديناران كل عام من المتوسط الحال ‪.‬‬
‫ويؤخذ أربعة دنانير من أصحاب الغني ‪.‬‬
‫واعلم أن الزيادة على الدينار مستحبة عند اليسر ‪ ،‬بالشكل الذي ذكرناه ‪،‬‬
‫أما الواجب فهو دينار واحد ‪ ،‬فلو أبي الغني أو المتوسط عقدها إل بدينار واحد‬
‫أجيب ‪ ،‬لنه القدر المنصوص عليه وجوبا ‪.‬‬
‫ويجوز للمام أن يشترط على أهل الجزية الضيافة فضلً عن مقدار الجزية‬
‫وقد جاءت الحاديث ‪ ،‬ووردت السنة بكل ما ذكرنا ‪.‬‬
‫روي أبو داود [ ‪ ]3038‬في المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬في أخذ الجزية ‪ ،‬عن معاذ بن‬
‫لما وجهه إلي اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم‬ ‫جبل رضي ال عنه ‪ :‬أن النبي‬
‫دينارا أو عدله من المعافري ‪.‬‬
‫[ حالم ‪ :‬محتلم ‪ ،‬أي بالغ ‪ .‬عدله ‪ :‬ما يعادله ويساويه ‪ .‬من المعافري ‪:‬‬
‫نسبة إلي معافر ‪ ،‬موضع باليمن ‪ ،‬تنسب إليه الثياب ‪ ،‬وتكون به ]‬
‫وروي مالك في الموطأ [‪ ]1/279‬في الزكاة ‪ ،‬باب ‪ :‬جزية أهل الكتاب‬
‫والمجوس ‪ ،‬عن أسلم رحمه ال تعالى ‪ :‬أن عمر بن الخطاب رضي ال عنه‬
‫ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير ‪ ،‬وعلى أهل الورق أربعين درهما‬
‫مع ذلك أرزاق المسلمين ‪ ،‬وضيافة ثلثة أيام ‪.‬‬
‫[ الورق ‪ :‬الفضة ] ‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫صالح أهل أيله على ثلثمائة دينار‪،‬‬ ‫وروي البيهقي [‪ ]9/195‬أن النبي‬
‫وكانوا ثلثمائة رجل ‪ ،‬وعلى ضيافة من مر بهم من المسلمين ‪.‬‬
‫وروي البيهقي أيضا [‪ ]9/196‬أن عمر بن الخطاب رضي ال عنه وضع‬
‫على الغني ثمانمائة وأربعين درهما ‪ ،‬وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما ‪،‬‬
‫وعلى الفقير اثني عشر درهما ‪.‬‬
‫وكان صرف الدينار باثني عشر درهما ‪.‬‬
‫الثار التي تترتب على عقد الجزية من حقوق المسلمين ‪:‬‬
‫يتضمن عقد الجزية أربعة أشياء يلزم بها أهل الجزية ‪:‬‬
‫‪ -1‬أداء الجزية حسب التفاق الذي تم بينهم وبين المسلمين ‪ ،‬دينارا فأكثر ‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يجري عليهم حكم السلم فيما يقرون ـ ولو ضمنا ـ بحكم السلم فيه ‪،‬‬
‫يهوديا ويهودية زنيا ‪ ( .‬رواه‬ ‫كحرمة الزني مثلً ‪ ،‬وبناءًَ على ذلك رجم النبي‬
‫البخاري [‪ ]6433‬في المحاربين ‪ ،‬باب ‪ :‬الرجم في البلط ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1699‬في‬
‫الحدود ‪ ،‬باب ‪ :‬رجم اليهود أهل الذمة في الزني ‪ ،‬عن ابن عمر رضي ال‬
‫عنهما) ‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فإنهم يمنعون من التعامل بالربا ‪ ،‬ومن ارتكاب الفواحش ‪ ،‬وأسباب‬
‫الفسوق ‪ ،‬لنهم يعرفون حرمة ذلك في دينهم ودين المسلمين ‪ ،‬بخلف ما ل‬
‫يقرون بحكمه في السلم ‪ ،‬كشرف الخمر مثلً فإنهم ل يقرون بحرمته في‬
‫شريعتهم ‪ ،‬فل تجري عليهم أحكامنا فيه ‪ ،‬إل إن ترافعوا إلي قاضي المسلمين ‪،‬‬
‫فإنه يحكم بينهم بشرعنا ‪.‬‬
‫‪ -3‬أن ل يذكروا دين السلم إل بخير ‪ ،‬فلو تعرضوا للقرآن ‪ ،‬أو ذكروا الرسول‬
‫بما ل يليق ‪ ،‬أو طعنوا في شرع ال عز وجل ‪ ،‬عزروا ‪ ،‬وإن كان شرط‬
‫انتفاض العهد بذلك نقض ‪ .‬ولو عثر على أنهم يكيدون للسلم في الخفاء بقول أو‬
‫فعل ‪ ،‬فسخ عقد الذمة بيننا وبينهم ‪ ،‬إل ما كان من ذلك تعبيرا عن عقيدتهم مثل‬
‫ليس برسول ‪ ،‬وإن القرآن ليس بكلم ال تعالي ‪ ،‬فل تنقض‬ ‫قولهم ‪ :‬إن محمدا‬
‫الذمة بيننا وبينهم ‪ ،‬لنهم يعبرون بذلك عن عقيدتهم ‪ ،‬وإن كنا نعلم بطلنها ‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫‪ -4‬أن ل يفعلوا ما فيه ضرر بالمسلمين ‪ :‬كأن يؤووا جاسوسا للكفار ‪ ،‬أو‬
‫يتواطؤوا مع أهل الحرب علي إيذاء المسلمين ‪ .‬فلو امتنعوا من أداء الجزية المتفق‬
‫عليها ‪ ،‬ولو كانت أكثر دينار ‪ ،‬أو ذكروا ال ورسوله بسوء ‪ ،‬أو عثر على أنهم‬
‫متواطئون مع أهل الحرب ضد المسلمين انتقضت ذمتهم ‪.‬‬
‫بيان ما يجب لهم من الرعاية والحماية بعقد الذمّة ‪:‬‬
‫إن عقد الذمة بيننا وبين أهل الكتاب يتضمن أربعة أشياء يلزم بها المسلمون‬
‫تجاه أهل الذمة‪:‬‬
‫‪ -1‬إنهاء الحرب معهم ‪ ،‬وعودة العلقات السلمية بيننا وبينهم ‪ ،‬ودليل ذلك ما‬
‫رواه مسلم [‪ ]1731‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬تأمير المام المراء على البعوث ‪ ،‬وغيره‬
‫عن بُريدة رضي ال عنه ‪ ،‬وفيه ‪ " :‬فسلهم الجزية ‪ ،‬فإن هم أجابوك فاقبل منهم‬
‫وكف عنهم " ‪.‬‬
‫‪ -2‬وجوب حمايتهم ‪ ،‬والمحافظة عليهم ‪ ،‬وعلى أموالهم وحرماتهم إزاء أي‬
‫اعتداء عليهم ‪ ،‬أو عليها ‪ ،‬من المسلمين ‪ ،‬أو من غيرهم ‪.‬‬
‫روي البخاري [‪ ]2887‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬يقاتل عن أهل الذمة ول‬
‫يسترقون عن عمر بن ميمون ‪ ،‬عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫‪ ،‬أن يوفي لهم بعهدهم ‪ ،‬وأن يقاتل من‬ ‫( وأوصيه بذمة ال ‪ ،‬وذمة رسوله‬
‫وراءهم ‪ ،‬ول يكلفوا إل طاقتهم ) ‪.‬‬
‫‪ -3‬عدم التعرض لكنائسهم القائمة ‪ ،‬وما يتبعها من شعائرهم الدينية ‪ ،‬وخمورهم‬
‫وخنازيرهم ‪ ،‬ما لم يظهروها أو يتباهوا بها ‪.‬‬
‫لنصارى نجران ‪:‬‬ ‫جاء في كتاب النبي‬
‫" ‪ ...‬ولنجران وحاشيتها وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل‬
‫ما تحت أيديهم من قليل أو كثير ‪ ،‬ل يغير أسقف من أسقفيته ‪ ،‬ول راهب من‬
‫رهبانيته ‪ ،‬ول كاهن من كهانته ‪ ،‬وليس عليه دية ول دم جاهلية ‪ ،‬ول يخسرون‬
‫ول يعسرون ‪ ،‬ول يطأ أرضهم جيش ‪ ،‬ومن سأل منهم حقا ‪ ،‬فبينهم النصف غير‬
‫ظالمين ول مظلومين " ‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫‪ -4‬لزوم عقد الذمة في حق المسلمين واستمراره ‪ ،‬فل يملك إمام المسلمين ‪ ،‬أو‬
‫احد منهم نقضه بحال ‪ ،‬لنه عقد مؤبد ‪ ،‬ما لم يصدر من أهل الذمة شيء‬
‫يستوجب نقض العهد مما قد سبق بيانه ‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫الهدنة والستئمان‬
‫معني الهدنة ‪:‬‬
‫الهدنة ‪ ،‬وتسمي الموادعة والمعاهدة والمسالمة ‪ ،‬وهي في اللغة ‪ :‬بمعني‬
‫المصالحة‪.‬‬
‫والهدنة شرعا ‪ :‬مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة ‪،‬‬
‫ن اللّهِ َورَسُولِهِ‬
‫والصل في تشريعها ‪ ،‬قبل الجماع ‪ ،‬قول ال عز وجل ‪َ  :‬برَاءةٌ مّ َ‬
‫ركِينَ ‪ ( ‬سورة التوبة ‪ ، ) 1 :‬وقوله تبارك وتعالي ‪ :‬‬
‫شِ‬‫ِإلَى الّذِينَ عَاهَدتّم مّنَ ا ْلمُ ْ‬
‫سمِيعُ ا ْل َعلِيمُ‪ ( ‬سورة النفال‬
‫علَى اللّهِ ِإنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫جنَحْ َلهَا َو َت َوكّلْ َ‬
‫سلْمِ فَا ْ‬
‫جنَحُواْ لِل ّ‬
‫َوإِن َ‬
‫‪. ) 61 :‬‬
‫قريشا عام الحديبية ‪ ( .‬رواه البخاري [‪ ]3945‬في‬ ‫ومهادنة النبي‬
‫المغازي ‪ ،‬باب ‪ :‬غزوة الحديبية ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1783‬في الجهاد والسير ‪ ،‬باب ‪:‬‬
‫صلح الحديبية في الحديبية ) ‪.‬‬
‫معني الستئمان ‪:‬‬
‫والستئمان ‪ :‬أن يطلب أي فرد من أهل الحرب المان من أي واحد من‬
‫أفراد المسلمين ‪ ،‬فيعطيه هذا المان ‪ ،‬ولكل من المسلمين أن يعطي المان لمن‬
‫طلبه من العداء ‪ ،‬حاكما كان المعطي ‪ ،‬أو واحدا من عامة الناس ‪ ،‬ذكرا كان أو‬
‫أنثي ‪ ،‬فإذا أعطاه المان حقن بذلك دمه ‪ ،‬وحرم على سائر المسلمين أن تمتد إليه‬
‫حتّى‬
‫ج ْرهُ َ‬
‫ستَجَا َركَ َفأَ ِ‬
‫شرِكِينَ ا ْ‬
‫أيديهم بأي أذي ‪ .‬قال ال تعالي ‪َ  :‬وإِنْ أَحَدٌ مّنَ ا ْلمُ ْ‬
‫سمَعَ كَلَ َم اللّهِ ثُمّ َأ ْبِلغْهُ َم ْأ َمنَهُ ‪ ( ‬سورة التوبة ‪) 6 :‬‬
‫يَ ْ‬
‫الفرق بين الهدنة والستئمان ‪:‬‬
‫نلحظ من التعريفين السابقين لكل من الهدنة والستئمان الفروق التالية ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬أن الهدنة صلح جماعي يمثله من طرف المسلمين الحاكم العلى أو‬
‫نائبه ‪ ،‬ويمثله من طرف العداء قائدهم ‪ ،‬أو من ينوب عنه ‪ ،‬بينما الستئمان‬
‫يكون للحاد والجماعات من الكفار ‪ ،‬ويقوم بإعطائه لهم ‪ ،‬أو لي فرد منهم أي‬
‫ل أو امرأة ‪.‬‬
‫شخص من المسلمين ‪ ،‬حاكما أو غيره ‪ ،‬رج ً‬

‫‪133‬‬
‫ثانياً ‪ :‬أن الهدنة طريقة من طرق إنهاء الحرب بين المسلمين وعدوهم ‪،‬‬
‫فل يمكن أن تجتمع الحرب مع الهدنة ‪ ،‬أما الستئمان ‪ ،‬فيمكن أن يتم أثناء الحرب‬
‫‪ ،‬بأن يستأمن أحد الجنود من أهل الحرب مسلما رآه أمامه ‪ ،‬فأعطاه المان ‪ ،‬فإنه‬
‫يصبح عندئذ محقون الدم ‪ ،‬ل يجوز لحد علم بذلك أن يمسه بأذى ‪ ،‬مع أن‬
‫الحرب دائرة ‪ ،‬بين المسلمين والكافرين ‪.‬‬
‫حكم كل من الهدنة والستئمان ‪:‬‬
‫حكم الهدنة ‪ :‬أما الهدنة ‪ ،‬فلها حالتان ‪:‬‬
‫الحالة الولي ‪ :‬أن يطلبها العداء ‪ ،‬فيجب على إمام المسلمين الستجابة‬
‫لهم مع الحذر ‪ ،‬وأخذ الحيطة ‪ ،‬ول يجوز أن يمتد أجلها أكثر من أربعة أشهر ‪.‬‬
‫الحالة الثانية ‪ :‬أن يبادر إليها المسلمون ‪ ،‬وإنما تجوز بناء على ظهور‬
‫مصلحة للمسلمين فيها ‪ ،‬فإن كانت اعتباطا ‪ ،‬أي بدون مصلحة داعية لها ‪ ،‬لم‬
‫تصح ولم تنعقد ‪.‬‬
‫ثم إن كانت المصلحة الداعية إلي الهدنة رجاء التخلص من ضعف في‬
‫ظلل السلم ‪ ،‬وطمأنينة المن ‪ ،‬جاز أن يمتد أجلها إلي عشرة أعوام فقط ‪ ،‬ودليل‬
‫من ضعف المسلمين ‪ ،‬وتألب‬ ‫ذلك صلح الحديبية ‪ ،‬فقد تم بسبب ما رآه النبي‬
‫العداء عليهم ‪ ،‬وكان أجله في العقد المتفق عليه بين المسلمين ومشركي مكة‬
‫عشرة أعوام ‪ .‬أما إن كانت المصلحة شيئا آخر غير الضعف ‪ ،‬كتوقع إسلم‬
‫العداء ‪ ،‬أو خضوعهم للجزية ‪ ،‬فل يجوز والحالة هذه أن تزيد الهدنة عندئذ عن‬
‫أربعة أشهر ‪ ،‬وذلك تمسكا بمفهوم قول ال تعالي ‪  :‬فسيحوا في الرض أربعة‬
‫وأعلموا أنكم غير معجزي ال وأن ال مخزي الكافرين ‪ ( ‬سورة التوبة ‪. ) 2 :‬‬
‫حكم الستئمان ‪:‬‬
‫وأما الستئمان ‪ ،‬فالجابة إليه واجبة ‪ ،‬إن لوحظت في ذلك مصلحة‬
‫للمسلمين ‪ ،‬أو مصلحة للمستأمن ‪ ،‬ذلك لصريح قول ال عز وجل ‪َ  :‬وإِنْ أَحَدٌ مّنَ‬
‫سمَعَ كَلَ َم اللّهِ ثُمّ َأ ْبِلغْهُ مَ ْأ َمنَهُ َذِلكَ بَِأ ّنهُمْ َقوْمٌ لّ‬
‫حتّى يَ ْ‬
‫ج ْرهُ َ‬
‫ستَجَا َركَ فَأَ ِ‬
‫ش ِركِينَ ا ْ‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫َي ْعَلمُونَ ‪ ( ‬سورة التوبة ‪ ) 6 :‬ويجوز أن يخاطب بالستئمان الحاكم ‪ ،‬أو نائبه ‪،‬‬

‫‪134‬‬
‫أو أي شخص من المسلمين ‪ ،‬ويجري في حقهم جميعا الحكم الذي ذكرناه ‪ ،‬وهو‬
‫وجوب الستجابة مهما لوحظت في ذلك المصلحة ‪.‬‬
‫ويعتد بأمان المسلم أيا كان ذكرا أو أنثي ‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬‬
‫المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعي بذمتهم أدناهم " ( أخرجه أو داود [‪ ]4530‬في‬
‫الديات ‪ ،‬باب ‪ :‬إيقاد المسلم بالكافر ‪ ،‬وابن ماجه [‪ ]2683‬في الديات ‪ ،‬باب ‪:‬‬
‫المسلمون تتكافأ دماؤهم ‪ ،‬وأحمد في المسند [‪ ، ]1/119‬عن عبدال بن عمرو‬
‫رضي ال عنه ) ‪.‬‬
‫وروي البخاري [ ‪ ]3000‬في الجزية ‪ ،‬باب ‪ :‬أمان النساء وجوارهن ‪،‬‬
‫ومسلم [‪ ]336‬في الحيض ‪ ،‬باب ‪ :‬تستر المغتسل بثوب ونحوه ‪ ،‬وغيرهما ‪ ،‬عن‬
‫عام‬ ‫أم هانئ بنت أبي طالب رضي ال عنها ‪ ،‬أنها ذهبت إلي رسول ال‬
‫الفتح ‪ ،‬فوجدته يغتسل ‪ ،‬وفاطمة ابنته تستره ‪ ،‬فسلمت عليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬من هذه ؟‬
‫فقلت ‪ :‬أنا أم هانئ بنت أبي طالب ‪ ،‬فقال ‪ " :‬مرحبا بأم هانئ " ‪ ،‬فلما فرغ من‬
‫غسله قام فصلي ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد فقلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬زعم‬
‫"‬ ‫ابن أمي على ‪ ،‬أنه قاتل رجلً قد أجرته ‪ ،‬فلن بن هبيرة ‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " قالت أم هانئ ‪ :‬وذلك ضحي ‪.‬‬
‫[ فلن ابن هبيرة ‪ :‬قيل هو جعدة ‪ ،‬ولد زوجها من غيرها ‪ .‬وذلك ضحي ‪ :‬أي‬
‫وقت الضحى ]‬
‫شروط مشروعية كل من الهدنة والستئمان ‪:‬‬
‫أولً – شروط الهدنة ‪:‬‬
‫ل تتم الهدنة إل بالشروط التالية ‪:‬‬
‫الشرط الول ‪ :‬أن يعقد الهدنة المام أو نائبه ‪ ،‬فل تصح هدنة بين‬
‫المسلمين وأعدائهم يعقدها واحد من عامة المسلمين ‪ ،‬أو من أولي الحل والعقد‬
‫فيهم ‪ ،‬وذلك لما فيها من الخطورة والهمية ‪ ،‬إذ يترتب عليها إنهاء الحرب مع‬
‫العدو ‪ ،‬والنتقال إلي حال السلم ‪ ،‬ولو كان السلم مؤقتا بزمن معين ‪ ،‬وإنما يملك‬
‫إعلن السلم ‪ ،‬وتقريره من يملك إعلن الحرب وقيادتها ‪ ،‬وهو الحاكم ‪ ،‬أو نائبه‬
‫العلى‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫الشرط الثاني ‪ :‬أن تنطوي الهدنة مع العدو على مصلحة أكيدة للمسلمين ‪،‬‬
‫أيا كان نوع تلك المصلحة ‪ ،‬فإن لم ترج مصلحة ما منها للمسلمين ‪ ،‬لم تصح ولم‬
‫تشرع ‪.‬‬
‫الشرط الثالث ‪ :‬أن ل تزيد الهدنة بين المسلمين وعدوهم على عشرة أعوام‬
‫‪ ،‬إن كان المصلحة منها رجاء تخلص المسلمين من ضعف يعانونه ‪ ،‬وأن ل تزيد‬
‫عن أربعة أشهر إن كانت المصلحة شيئا آخر غير متعلق بضعفهم ‪.‬‬
‫فلو عقدها لهم المام مطلقا ‪ ،‬أي دون تقيد بزمان فسدت ‪ ،‬ولم تصح ودليل‬
‫هذا الشرط ما سبق وذكرنا من صلحه عليه الصلة والسلم في الحديبية مع قريش‬
‫‪ ،‬وكان أمد ذلك الصلح عشر سنين وكذلك قول ال عز وجل للمشركين ‪  :‬فَسِيحُواْ‬
‫خزِي ا ْلكَا ِفرِينَ ‪‬‬
‫جزِي اللّهِ َوأَنّ اللّهَ مُ ْ‬
‫غ ْيرُ ُمعْ ِ‬
‫عَلمُواْ َأ ّنكُمْ َ‬
‫ش ُهرٍ وَا ْ‬
‫لرْضِ َأ ْر َبعَةَ أَ ْ‬
‫فِي ا َ‬
‫( سورة التوبة ‪. ) 2 :‬‬
‫الشرط الرابع ‪ :‬أن ل يشترط أن ل يشترط الكفار لنفسهم على المسلمين‬
‫شرطا باطلً ‪ .‬فإن شرطوا لنفسهم ذلك ‪ ،‬ووافقهم المام عليه فسدت الهدنة وذلك‬
‫كان يطلب المسلمون الهدنة ‪ ،‬فيشترط الكفار لنفسهم حق الحتفاظ بأسري‬
‫المسلمين ‪ ،‬أو يشترطوا على المسلمين التنازل عن بعض أموالهم المنقولة أو غير‬
‫المنقولة ‪ ،‬أو التنازل عن بعض واجباتهم السلمية ‪ ،‬فإن إقحام شرط من هذا‬
‫القبيل في عقد الهدنة يفسدها ‪ ،‬ويجعلها لغية ل صحة لها ‪.‬‬
‫ثانيا شروط الستئمان ‪:‬‬
‫ويشترط لتأمين أحد من الكفار الشروط التالية ‪:‬‬
‫الشرط الول ‪ :‬أن يكون المان ‪ ،‬بناءً على طلب من أهل الحرب ‪ ،‬شخصا‬
‫كان أو جماعة ‪ ،‬فل يعطي الكافر الحربي أمانا بدون طلب منه ‪ ،‬وهذا الشرط‬
‫واضح في الية السابقة ‪  :‬وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ‪ ‬أي طلب منك‬
‫المان ‪.‬‬
‫الشرط الثاني ‪ :‬أن يكون المجير أهلً للجارة ‪ ،‬وإنما يكون أهلً لها‬
‫بالسلم ‪ ،‬فلو أجار ذمي حربيا وأعطاه أمانا ‪ ،‬فل أمان له ‪ ،‬ول اعتبار بكلمه ‪،‬‬

‫‪136‬‬
‫ول يجب على المسلمين احترام ذمته ‪ ،‬لنه ل يجير على المسلمين إل واحد‬
‫منهم‪.‬‬
‫الشرط الثالث ‪ :‬أن يعلم به ولي المر ‪ ،‬أو قائد الجيش فيقره ‪ ،‬فلو لم يعلم‬
‫به ‪ ،‬أو علم به ولكنه لم يقره ‪ ،‬بل ألغاه ‪ ،‬إذا ثبت له مثلً أنه عين على المسلمين‬
‫وجاسوس لعدائهم ‪ ،‬فل عبرة بالمان المعطي لذلك الشخص ‪ ،‬أو لتلك الجماعة ‪.‬‬
‫أما إذا علم ولي المر ‪ ،‬أو قائد الجيش بالمان الذي أعطاه أحد المسلمين‬
‫لواحد من الحربيين ‪ ،‬وبحث فلم يجد ما يمنع الموافقة على أمانه ‪ ،‬فليس له أن‬
‫يلغيه أو يهمله ‪ ،‬بل يجب عليه أن يعلن المان له ليسري ذلك على جماعة‬
‫المسلمين كلهم ‪.‬‬
‫الثار واللتزامات التي تترتب على عقد الهدنة والستئمان ‪:‬‬
‫إذا تم عقد الهدنة بين المسلمين وعدوهم ‪ ،‬وتكاملت فيه الشروط المذكورة ‪،‬‬
‫وأعطي الحربي المستأمن المان ممن طلبه منه بشروطه المذكورة أيضا ‪ ،‬ترتب‬
‫على كل منهما آثار والتزامات يجب الوفاء بها ‪.‬‬
‫أولً ـ الثار واللتزامات المترتبة على عقد الهدنة ‪:‬‬
‫يترتب على عقد الهدنة آثار والتزامات نلخصها فيما يلي ‪:‬‬
‫أ‪ -‬يجب الكف عمن هودنوا ‪ ،‬ويحرم مسهم بأي أذي أو سوء ‪ ،‬ولكن ل يجب‬
‫المحافظة عليهم ضد الخرين ‪ ،‬ويستمر هذا الحكم إلي إحدى غايتين ‪:‬‬
‫الغاية الولي ‪ :‬انقضاء مدة الهدنة ‪.‬‬
‫الغاية الثانية ‪ :‬أن يبدر منهم ما ستوجب نقضها ‪ ،‬وذلك بان يصرحوا‬
‫بنقضهم لها ‪ ،‬ويكون ذلك بتصريحهم جميعا ‪ ،‬أو بتصريح ولي أمرهم عنهم بذلك‬
‫أو بأن يبادروا إلي القتال ‪ ،‬أو بأن يكاتبوا أعدائنا بكشف بعض أسرارنا ‪ ،‬أو بأن‬
‫يقتل مسلم على أيديهم ‪.‬‬
‫فإن تضامنوا جميعا بنقض الهدنة بسبب من هذه السباب ‪ ،‬وما يشبهها فل‬
‫جرم أن المسلمين يصبحون بمجرد ذلك في حل من معاهداتهم ومسالمتهم ‪ .‬أما إن‬
‫استقل بعضهم بارتكاب واحد من هذه السباب فينظر ‪:‬‬

‫‪137‬‬
‫_ أن أنكر الباقون ‪ ،‬بأن اعتزلوهم ‪ ،‬أو ضربوا على أيديهم ‪ ،‬أو أعلموا المام‬
‫باستنكارهم فعل إخوانهم ‪ ،‬وأعلنوا بقائهم على العهد ‪ ،‬لم يؤثر شيء من ذلك على‬
‫الهدنة ‪ ،‬وبقيت أحكامها مستمرة ‪ ،‬في حق من لم يبدر منهم سؤ ‪.‬‬
‫ـ وإن لم ينكروا بقول ول فعل مع علمهم بذلك ‪ ،‬انتقضت الهدنة في حقهم جميعا‪.‬‬
‫وإذا استشم إمام المسلمين بوادر الخيانة في صفوف المهادنين ‪ ،‬أي لحظ‬
‫مجرد مقدمات لها ‪ ،‬دون أن يعثر على خيانة مادية يمكن العتماد عليها في إنهاء‬
‫عقد الهدنة ‪ ،‬لم يكن له نقض الهدنة إل بعد أن يعلن عليهم جميعا أن المسلمين‬
‫مقدمون على إلغاء الهدنة التي بينهم وبين المسلمين ‪ ،‬بسبب ما قد بدر من دلئل‬
‫الخيانة في صفوفهم ‪.‬‬
‫ستَقِيمُواْ َلهُمْ‬
‫ستَقَامُواْ َلكُمْ فَا ْ‬
‫ويستدل على ما ذكرنا بقول ال عز وجل ‪َ  :‬مَا ا ْ‬
‫حبّ ا ْل ُمتّقِينَ‪ ( ‬سورة التوبة ‪ ، ) 7 :‬وقلوه تبارك وتعالي ‪َ  :‬وِإمّا تَخَافَنّ‬
‫ن اللّهَ ُي ِ‬
‫إِ ّ‬
‫حبّ الخَا ِئنِين‪ ( َ‬سورة النفال ‪58 :‬‬
‫ن اللّهَ لَ يُ ِ‬
‫سوَاء إِ ّ‬
‫علَى َ‬
‫خيَانَةً فَانبِذْ ِإَل ْيهِمْ َ‬
‫مِن َقوْمٍ ِ‬
‫)‪.‬‬
‫[ فانبذ إليهم على سواء ‪ :‬أي اطرح إليهم عهدهم على علم منك ومنهم ] ‪.‬‬
‫فإذا أعلمهم ببوادر خيانتهم ‪ ،‬وطرح لهم عهدهم حل للمسلمين قتالهم على‬
‫الشكل الذي أرشدهم ال عز وجل إليه ‪ .‬قال ال تعالي ‪{ ﴿:‬الّذِينَ عَاهَدتّ ِم ْنهُمْ ثُمّ‬
‫شرّدْ ِبهِم مّنْ‬
‫ح ْربِ فَ َ‬
‫عهْدَهُمْ فِي كُلّ َم ّرةٍ وَهُمْ لَ َيتّقُونَ َفِإمّا َتثْقَ َف ّنهُمْ فِي الْ َ‬
‫يَن ُقضُونَ َ‬
‫خلْ َفهُمْ َل َعّلهُمْ يَ ّذ ّكرُونَ }( النفال ‪)57-56‬‬
‫َ‬
‫[ تثقفنهم ‪ :‬تجدنهم وتدركنهم ‪ .‬فشرد بهم من خلفهم ‪ :‬فرق بهم من خلفهم‬
‫من المحاربين بالتنكيل بهم والعقوبة لهم ]‬
‫‪ " :‬من كان بينه وبين قوم عهد فل يشد عقدة ول يحلها‬ ‫وقال رسول ال‬
‫حتى ينقضي أمدها ‪ ،‬أو ينبذ إليهم على سواء " ‪ ( .‬رواه الترمذي [‪ ]1580‬في‬
‫السير ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في الغدر ‪ ،‬وأبو داود [‪ ]2759‬في الجهاد باب ‪ :‬في المام‬
‫يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه ) ‪.‬‬
‫ب‪ -‬يجب على المسلمين الوفاء كل شرط تحملوه للطرف الخر ‪ ،‬إل شرطا أحل‬
‫حراما ‪ ،‬أو حرم حللً ‪ ،‬فل يجوز الوفاء به ‪ ،‬بل ل يجوز إقحامه في عقد الهدنة‬

‫‪138‬‬
‫مثال الشروط الصحيحة التي يجب الوفاء بها ‪ :‬أن يشترط العدو على‬
‫المسلمين إيواء من يصل إليهم من المرتدين الذين كانوا عندنا مسلمين ‪ ،‬أو نرد‬
‫إليهم من جاءنا مسلما منهم لن سهيل بن عمرو شرط ذلك على المسلمين في‬
‫على ذلك ‪ ،‬وقد سبق تخريج حديث صلح الحديبية ‪.‬‬ ‫صلح الحديبية فوافقه النبي‬
‫ومثال الشروط الباطلة ‪ :‬أن يشترطوا على المسلمين إعادة النساء‬
‫المسلمات اللئي يأتين إلينا من قبلهم ‪ ،‬لن ال عز وجل ‪ ،‬نهى عن ذلك بقوله ‪﴿ :‬‬
‫علَمُ بِإِيمَا ِنهِنّ‬
‫حنُوهُنّ اللّهُ أَ ْ‬
‫جرَاتٍ فَا ْمتَ ِ‬
‫يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا إِذَا جَاءكُمُ ا ْل ُم ْؤ ِمنَاتُ ُمهَا ِ‬
‫حلّونَ‬
‫جعُوهُنّ ِإلَى ا ْلكُفّارِ لَا هُنّ حِلّ ّلهُمْ َولَا هُمْ يَ ِ‬
‫عِل ْم ُتمُوهُنّ ُم ْؤ ِمنَاتٍ َفلَا َترْ ِ‬
‫فَإِنْ َ‬
‫َلهُنّ﴾ ( سورة الممتحنة ‪.)10 :‬‬
‫ج‪ -‬عقد الهدنة يصبح عقدا لزما بعد وجوده مستوفي الشروط والركان فل يجوز‬
‫للمسلمين نقضه بدون موجب إلي أن تنتهي المدة المضروبة له ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الثار واللتزامات المترتبة على إعطاء المان ‪:‬‬
‫وهذه اللتزامات نُجملها فيما يلي ‪:‬‬
‫‪-1‬يجب على المسلمين جميعا كف الذى عمن أعطي المان ‪ ،‬بقطع النظر‬
‫ـ كما قلنا ـ عن الشخص الذي أجاره وأعطاه المان ‪ ،‬ودون تفريق‬
‫بين كونه ذكرا أو أنثي ‪ ،‬بشرط أن يكون مسلما ‪ ،‬إل إذا علم أنه عين‬
‫للكافرين علينا ‪ ،‬أو غلب على الظن ذلك فيلغي أمانه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إذا انتهت مدة المان ‪ ،‬أو أراد المستأمن أن يخرج عن جوار المسلمين‬
‫قبل انتهائها ‪ ،‬وجب على الحاكم أن يبلغه مأمنه ‪ ،‬أي المكان الذي يطمئن فيه‬
‫من العدوان على حياته وماله ‪ ،‬ويستطيع أن يأخذ فيه حذره من أي شر قد‬
‫ستَجَا َركَ‬
‫ش ِركِينَ ا ْ‬
‫يصيبه ‪ ،‬وذلك لصريح قول ال تعالي ‪َ ﴿ :‬إِنْ أَحَدٌ مّنَ ا ْلمُ ْ‬
‫سمَعَ كَلَمَ اللّهِ ثُمّ َأ ْبِلغْهُ مَ ْأ َمنَهُ َذِلكَ ِبَأ ّنهُمْ َقوْمٌ لّ َي ْعَلمُونَ ﴾ ( سورة‬
‫حتّى يَ ْ‬
‫ج ْرهُ َ‬
‫فَأَ ِ‬
‫التوبة ‪. ) 6 :‬‬
‫ج ‪ -‬إذا أصبح الكافر الحربي مستأمنا في جوار المسلمين ‪ ،‬كان ذلك بمثابة‬
‫العقد اللزم ‪ ،‬فليس لمن أجاره وأمنه أن يعود ‪ ،‬فكيف عن ذلك بدافع ندم ‪ ،‬أو‬
‫نحوه ما لم يصدر من المستأمن ما يستدعي إلغاء جواره ‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫الباب الثالث‬

‫الفتوة وأحكامها‬

‫‪140‬‬
‫المســـابقة‬
‫تعريف المسابقة ‪:‬‬
‫المسابقة لغة ‪ :‬مفاعلهس من السبق ‪،‬وهو التقدم على الغير ‪ ،‬والمسابقة‬
‫أيضا ‪ :‬اختبار يجري لشخاص للحصول على عمل ينتقي أفضلهم ‪.‬‬
‫والمقصود بالمسابقة هنا أن يتباري اثنان فأكثر في ركض الدواب التي‬
‫تصلح للكر والفر ‪ :‬كالخيل والبل ‪ ،‬على أن تكون من نوع واحد ‪.‬‬
‫والسبق ‪ :‬اسم للمال الذي يرصد للمسابقة ‪.‬‬
‫حكم المسابقة ودليل مشروعيتها ‪:‬‬
‫‪ ،‬وعمل مشروع ‪ ،‬والصل الول في‬ ‫المسابقة سنة موروثة عن الرسول‬
‫ط ْعتُم‬
‫ستَ َ‬
‫مشروعيتها واستحبابها ‪ :‬قول ال تبارك وتعالى ‪َ ﴿ :‬وأَعِدّواْ َلهُم مّا ا ْ‬
‫خرِينَ مِن دُو ِنهِمْ لَ‬
‫خيْلِ ُترْ ِهبُونَ بِهِ عَ ْد ّو اللّهِ وَعَ ُد ّوكُمْ وَآ َ‬
‫مّن ُق ّوةٍ َومِن ّربَاطِ الْ َ‬
‫ل اللّهِ ُي َوفّ ِإَل ْيكُمْ َوأَنتُمْ لَ‬
‫سبِي ِ‬
‫شيْءٍ فِي َ‬
‫َت ْعَلمُونَهُ ُم اللّهُ َي ْعَل ُمهُمْ َومَا تُنفِقُواْ مِن َ‬
‫ظَلمُون﴾ ( سورة النفال ‪. ) 60 :‬‬
‫تُ ْ‬
‫سابق الخيل التي قد‬ ‫وخبر ابن عمر رضي ال عنه ‪ " :‬وأن النبي‬
‫ضمرت ‪ ،‬من الحيفاء إلي ثنية الوداع ‪ ،‬وبين الخيل التي لم تضمر ‪ ،‬من الثنية‬
‫إلي مسجد بني زريق " ‪ ( .‬رواه البخاري [‪ ]410‬في المساجد ‪ ،‬باب ‪ :‬هل‬
‫يقال مسجد بني فلن ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1870‬في المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬المسابقة بين الخيل‬
‫وتضميرها ‪ ،‬عن ابن عمر رضي ال عنهما ) ‪.‬‬
‫[أضمرت ‪ ،‬وضمرت ‪ :‬سمنت أولً ‪ ،‬ثم قلل علفها وأدخلت مكانا وجللت‬
‫حتى يكثر عرقها ويجف فيذهب رهلها ويقوي لحمها ويشتد ‪ .‬الحيفاء ‪ :‬موضع‬
‫قرب المدينة ‪ .‬الثنية ‪ :‬ثنية الوداع في المدينة ] ‪.‬‬
‫هذا إذا قصد بالمسابقة التأهب للجهاد ‪ ،‬وإعداد القوة له ‪ ،‬أما إذا قصد بها‬
‫الفخر والخيلء كانت حراما ‪ ،‬لن المور بمقاصدها ‪ ،‬أما إذا لم يقصد بها هذا‬
‫ول ذاك فهي مباحة ولنها من الرياضيات المفيدة للجسم ‪ ،‬والمقوية للشكيمة ‪.‬‬
‫أنواع المسابقة ‪:‬‬

‫‪141‬‬
‫للمسابقة صور مختلفة ‪ ،‬بعضها مشروع وبعضها محرم ‪ ،‬ونحن نستعرض‬
‫أولً هذه الصور كلها ‪ ،‬ثم نوضح المحرم والمشروع منها ‪:‬‬
‫الصورة الولي ‪ :‬أن يتسابق الطرفان ‪ ،‬ويقرر مال معين للسابق منهما ‪ ،‬على‬
‫أن يكون الدفع من الحاكم ‪ ،‬أو من شخص آخر ‪ ،‬خارج عن الشتراك في‬
‫عملية السباق ‪ ،‬بأن يقول هذا الشخص ‪ :‬من سبق منكما فله مني كذا ‪، ..‬‬
‫ويجوز أن يقوم بالتسابق أكثر من اثنين ‪.‬‬
‫الصورة الثانية ‪ :‬أن يلتزم أحد المتسابقين دفع المال لزميله إن هو سبقه ‪ ،‬ول‬
‫يلتزم زميله شيئا عن هو سبق ‪ ،‬بأن يقول الول ‪ :‬أن سبقتني فلك على كذا ‪،‬‬
‫أو سبقتك ‪ ،‬فل شيء لي عليك ‪.‬‬
‫الصورة الثالثة ‪ :‬أن يلتزم كل منهما دفع مبلغ من المال لمن سبقه ‪ ،‬فأيهما‬
‫تخلف يلتزم بإعطاء المبلغ المتفق عليه للسابق ‪.‬‬
‫الصورة الرابعة ‪ :‬كالصورة الثالثة ‪ ،‬على أن يضاف إليهما محلل ‪ ،‬وهو‬
‫عنصر ثالث مسابق ‪ ،‬فرسه كفء لفرسيهما ‪ .‬فإن سبقهما أخذ المالين من كل‬
‫منهما ‪ ،‬وإن سبقاه ‪ ،‬وجاءا معا ‪ ،‬فل شيء لحد على الخر ‪ ،‬لن المتراهنين‬
‫وصل معا ‪ ،‬ولن المحلل لم يلتزم شيئا عن التخلف ‪ ،‬وإن وصل المحلل مع‬
‫أحدهما أولً ‪ ،‬وتخلف الثاني عنهما ‪ ،‬فمال الول منهما مع المحلل يبقي له ‪،‬‬
‫ومال المتأخر منهما يوزع بالتساوي بين المحلل والذي وصل معه ‪.‬‬
‫بيان الجائز والمحرم من هذه النواع ‪:‬‬
‫إذا تصورت هذه النواع من المسابقة ‪ ،‬وأدركت الفرق بينها ‪ ،‬فأعلم أن‬
‫صورة واحدة منها هي المحرمة ‪ ،‬لها حكم الميسر ‪ ،‬وهو القمار ‪ ،‬وهي‬
‫الصورة الثالثة ‪ ،‬أما الصور ‪ :‬الولي والثانية والرابعة فهي مشروعة ل مانع‬
‫منها ‪.‬‬
‫وإنما سمي العنصر الثالث في الصورة الرابعة محللً ‪ ،‬لنه إذا دخل في‬
‫الصورة الثالثة مشتركا بالشكل الذي ذكرناه حولها من الحرمة إلي الحل ‪.‬‬
‫فالصورة الرابعة هي عين الثالثة مضافا إليها هذا المحلل ‪.‬‬
‫شروط المسابقة ‪:‬‬

‫‪142‬‬
‫وأيا كانت صورة المسابقة ‪ ،‬فل بد فيها من توفر شروط معينة ‪ ،‬نلخصها‬
‫فيما يلي ‪:‬‬
‫الشرط الول ‪ :‬علم المتسابقين بالمنطلق الذي يبدؤون منه الجري ‪ ،‬وبالغاية‬
‫التي يتوقف الجري عندها ‪ ،‬ول بد أن يكون المبدأ والمنتهي للجميع واحدا ‪.‬‬
‫الشرط الثاني ‪ :‬تعيين الفراس ‪ ،‬أو البل مثلً ‪ ،‬فإذا تعينت وعرفت ‪ ،‬لم‬
‫يجز استبدال فرس بأخر ‪ ،‬فإن استبدل أحدهم بفرسه غيره فسدت المسابقة ‪.‬‬
‫الشرط الثالث ‪ :‬أن تكون الفراس بحالة يمكن معها السبق والتخلف ‪ ،‬فإن‬
‫كان فيها ضعيف يقطع العقل بتخلفه ‪ ،‬أو فاره يجزم العقل بتقدمه لم يجز‬
‫السباق ‪.‬‬
‫الشرط الرابع ‪ :‬أن يعلم الكل مبلغ المال المشروط للسابق الول ‪ ،‬والثاني ‪،‬‬
‫وهكذا ‪ .‬فلو كان فيهم من لم يعلم بالمال ‪ ،‬أو كميته لم يصح السباق ‪.‬‬
‫الشرط الخامس ‪ :‬أن يكون المال من يد أجنبي غير مشتركة بالسباق ‪ ،‬بأن‬
‫يكون من الدولة ‪ ،‬أو من أحد الثرياء مثلً ‪ ،‬فإن كان من أحد المشتركين جاز‬
‫بشرط أن ل يلزم الخرون بالدفع عند تخلفهم ‪ ،‬فإن ألزموا بذلك كان لبد من‬
‫أن يشترك معهما أو معهم عنصر محلل ‪ ،‬ينسق بينهم المال بالطريقة التي‬
‫شرحناها ‪.‬‬
‫أثر دخول عنصر المال في السباق ‪:‬‬
‫مما ذكرنا يتبين لك أن دخول عنصر المال في السباق ل يمنع مشروعيته‬
‫ول يؤثر فيه بأي فساد ‪ ،‬بل هو مما يرغب فيه ‪ ،‬لتحقيق المزيد من التشجيع ‪.‬‬
‫إل أن عنصر المال يفسد السباق في حكم الشريعة السلمية ‪ ،‬عندما يكون‬
‫أخذا وعطاءً من الطرفين ‪ ،‬بأن يقال ‪ :‬السابق منكما يأخذ ‪ ،‬والمتخلف منكما‬
‫يدفع ‪ .‬وسبب الفساد أن عنصر المال بهذه الصورة يأخذ ‪ ،‬والمتخلف منكما‬
‫يدفع ‪.‬‬
‫وسبب الفساد أن عنصر المال بهذه الصورة يأخذ محور الميسر تماما ‪،‬‬
‫وقد حرمه ال تعالي بصريح تبيانه قال عز وجل ‪ ﴿ :‬ا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ ِإ ّنمَا‬

‫‪143‬‬
‫ج َت ِنبُوهُ َل َعّلكُمْ‬
‫شيْطَانِ فَا ْ‬
‫عمَلِ ال ّ‬
‫جسٌ مّنْ َ‬
‫لزْلَمُ رِ ْ‬
‫سرُ وَالَنصَابُ وَا َ‬
‫خ ْمرُ وَا ْلمَيْ ِ‬
‫الْ َ‬
‫تُ ْفلِحُونَ ﴾ ( سورة المائدة ‪. )90 :‬‬
‫[ الخمر ‪ :‬كل مسكر ‪ .‬الميسر ‪ :‬القمار ‪ .‬النصاب ‪ :‬الصنام ‪ .‬الزلم ‪:‬‬
‫قداح الستقسام ‪ ،‬التي كانوا يطلبون معرفة ما هو مقسوم لهم بواسطتها ‪.‬‬
‫رجس ‪ :‬خبيث مستقذر ] ‪.‬‬
‫ما تجوز به المسابقة ‪:‬‬
‫وتجوز المسابقة بكل الدواب التي تصلح للحرب والكر والفر ‪ ،‬مثل الخيل‬
‫والبغال والجمال ‪ ،‬وما ل يصلح شيء منها لذلك ‪ ،‬فل تجوز المسابقة به‬
‫كالبقر ‪ ،‬والطيور وغيرها ‪.‬‬
‫‪ " :‬ل سبق إل في خف ‪ ،‬او حافر ‪ ،‬أو نصل‬ ‫ودليل ذلك قول النبي‬
‫" ( رواه أبو داود [‪ ]2574‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬في السبق ‪ ،‬والترمذي [‪]700‬‬
‫في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في الرهان والسبق ) ‪.‬‬
‫[ خف ‪ :‬أي ذي خف ‪ ،‬والمراد البل ‪ .‬حافر ‪ :‬أي ذي حافر ‪ ،‬والمراد الخيل‬
‫وما يلحق بها ‪ .‬نصل ‪ :‬القسم الذي يخرج من السيف والرمح والسهم ونحوها‬
‫والمراد الرمي بها ]‬
‫وقد كانت هذه هي آلة الحرب وعدته يومها ‪ ،‬فيلحق بها كل ما كان كذلك‬
‫حسب الزمان والمكان ‪ ،‬مما يصلح في الحرب ‪ ،‬ويستعمل في نكاية العدو ‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫المناضلة بالسهام والسلحة المختلفة‬

‫تعريف المناضلة ‪:‬‬


‫المناضلة ‪ :‬مفاعلة ‪ ،‬من النضل ‪ ،‬وهو الرمي ‪ ،‬وتناضل القوم ‪ :‬تراموا‬
‫لتظهر مهارة كل منهم في الرمي ‪ ،‬وهي والمكافحة والمقاومة بمعني واحد ‪.‬‬
‫والنضال بالسهام أو السلح ‪ ،‬يراد به استعمالها على الوجه الصحيح في‬
‫نضال العداء ‪.‬‬
‫والمناضلة شرعا ‪ :‬تنافس متشاركين فأكثر على البراعة في استعمال‬
‫السلح ‪ ،‬ورمي الهدف على مال بشروط معينة ‪.‬‬
‫حكم المناضلة ‪ ،‬ودليله ‪:‬‬
‫المناضلة سنة ‪ ،‬كما قلنا في المسابقة ‪ ،‬مادام الغرض منها العداد للجهاد ‪،‬‬
‫ومقارعة العداء ‪ ،‬فإذا كان الغرض منها المفاخرة ‪ ،‬أو العدوان على البرياء‬
‫انقلبت إلي معصية عملً بالقاعدة ‪ :‬المور بمقاصدها ‪ .‬ويستدل على مشروعية‬
‫ط ْعتُم مّن‬
‫ستَ َ‬
‫المناضلة ‪ ،‬والترغيب فيها ‪ ،‬بقول ال عز وجل ‪َ ﴿ :‬أَعِدّواْ َلهُم مّا ا ْ‬
‫ُق ّوةٍ ﴾ ( سورة النفال ‪. )60 :‬‬
‫القوة في الية بالرمي ‪ ،‬فقال ‪ " :‬أل إن القوة الرمي‬ ‫فقد فسر النبي‬
‫" ( رواه مسلم [‪ ]1917‬في كتاب المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬فضل الرمي والحث عليه ‪ ،‬عن‬
‫عقبة بن عامر رضي ال عنه ) ‪.‬‬
‫وروي البخاري [‪ ]2743‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬التحريض على الرمي ‪ ،‬عن‬
‫على نفر من أسلم ينتضلون ‪،‬‬ ‫سلمة بن الكوع رض ال عنه قال ‪ :‬مر النبي‬
‫" ارموا بني إسماعيل ‪ ،‬فإن أباكم كان راميا ‪ ،‬ارموا وأنا مع بني‬ ‫فقال النبي‬
‫‪ " :‬ما لكم ل‬ ‫فلن " ‪ ،‬قا ‪ :‬فأمسك أحد الفريقين بأيديهم ‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫ترمون " ؟ قالوا ‪ :‬كيف نرمي وأنت معهم ؟ قال " ارموا ‪ ،‬فأنا معكم كلكم " ‪.‬‬
‫وروي أبو داود [‪ ]2574‬والترمذي [‪ ]1700‬وغيرهما عن أبي هريرة‬
‫‪ " :‬ل سبق إل في خف أو حافر أو نصل‬ ‫رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫" ‪.‬وقد سبق تخريج الحديث في المسابقة ‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫فأما الخف والحافر ‪ ،‬فكناية عن البعير والفرس ‪ ،‬وأما النصل ‪ ،‬فكناية عن‬
‫السهام ‪ ،‬وما يدخل في حكمها من السلحة الخرى المختلفة ‪.‬‬
‫أنواع المناضلة ‪:‬‬
‫تتنوع المناضلة بالسلح ‪ ،‬كما تنوعت المسابقة على الخيل ‪ ،‬إلي الصور‬
‫الربعة المذكورة ‪.‬‬
‫وتبطل منها هنا الصورة الثالثة أيضا ‪ ،‬وهي أن يتراهن المتناضلن كل‬
‫منهما يدفع المال للول في الصابة ‪ ،‬فهي قمار باطل ‪ ،‬وهي من الميسر الذي‬
‫نهي ال عنه وسماه رجسا ‪.‬‬
‫شروط المناضلة ‪:‬‬
‫يشترط في المناضلة مراعاة المور التالية ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬إذا كان النضال بالسهام ونحوها ‪ ،‬فإنه يشترط أن يبين المتناضلن‬
‫كون الرمي المطلوب مجرد قرع للهدف ‪ ،‬أو خرقا ‪ ،‬فإن أطلقا ‪ ،‬ولم يبينا صحت‬
‫المناضلة على الوجه الصحيح ‪ ،‬وحمل الرمي المطلوب على القرع ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬يشترط اتحاد جنس السلح من بندقية وغيرها ‪ ،‬فل تصح المناضلة‬
‫ببندقيتين مختلفتي الجنس ولو رضي الطرفان بذلك ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬يشترط تعيين الرماة والهدف المطلوب تعيينا دقيقا ‪ ،‬وتعيين الموقف‬
‫الذي يلتزمونه ‪ ،‬وتعيين عدد الرشقات ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬العلم بالمال وقدره ‪ ،‬ووجود محلل إن كانت المناضلة من النوع‬
‫الثالث المحرم الذي مر ذكره في المسابقة ‪.‬‬
‫مال تجوز المناضلة فيه ‪:‬‬
‫اعلم أن القاعدة العامة فيما تجوز فيه المناضلة ( أي المناضلة على مال )‬
‫كل أداة نافعة في الحرب ‪ ،‬فكل ما لم يكن له فائدة أو شأن في الحرب ل تجوز‬
‫المناضلة به على مال ‪.‬‬
‫فل تجوز المناضلة على الكرة بأشكالها وأنواعها المختلفة ‪ ،‬ول علي‬
‫سباحة ولعب شطرنج ‪ ،‬ووقوف على رجل واحدة مثلً ‪ ،‬والسباق الزوارق‬
‫الصغيرة التي ل شأن لها بالحرب ‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫ذلك لن شيئا من هذه اللعاب ل تفيد بالحرب ‪ ،‬فهي وإن كانت جائزة ‪،‬‬
‫بل منها ما هو مستحب ومندوب إليه كالسباحة ‪ ،‬إل أنه ل يجوز النضال بها على‬
‫مال ‪.‬‬
‫عقد المسابقة والمناضلة عقد لزم ‪:‬‬
‫إذا تم التعاقد على مسابقة أو مناضلة على مال مشروط ‪ ،‬بالنحو الذي‬
‫ذكرناه ‪ ،‬فإن العقد يصبح عندئذ لزما في حق من التزم العوض ‪ ،‬فليس له أن‬
‫يفسخه أو أن يترك العمل ‪.‬‬
‫ومعني العقد اللزم أنه ل يملك طرف واحد فسخه إل بموافقة الخر ‪،‬‬
‫كالبيع والجارة ‪.‬‬
‫فإن لم تقم المسابقة والمناضلة على مال مشروط ‪ ،‬فهي عقد جائز كل من‬
‫الطرفين أن يستقل بفسخه ‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫الباب الرابع‬

‫صنَاف اللّهو الجَائِزةَ والمحرمَة‬


‫أ ْ‬

‫‪148‬‬
‫أصناف اللهو الجائزة والمحرمة‬

‫معني اللهو ‪:‬‬


‫اللهو ‪ :‬هو كل ما يشغل النسان عن المزعجات ‪ ،‬والفكار ‪ ،‬والمؤرقات‬
‫المختلفة ‪ ،‬دون أن تكون له حقيقة ثابتة ‪ ،‬كاللعب ‪ ،‬وأحاديث الفكاهة والسمار ‪،‬‬
‫والغناء ونحو ذلك ‪.‬‬
‫أصناف اللهو ‪:‬‬
‫ثم أن اللهو ‪ ،‬إما أن ينقضي دون أن يترك وراءه أثرا من نفع أو ضرر ‪،‬‬
‫إل أنه يشغل الفكر عن الجد في المور ‪ ،‬والمهمات من الشؤون ‪ ،‬وإما أن يترك‬
‫ـ علوة على ذلك ـ أثرا ضارا في النفس ‪ :‬كأن يتعود على الدعة والنصراف‬
‫عن القيام بواجبات الحياة ‪ ،‬وعزائم المور ‪ ،‬وإما أن يترك أثرا مفيدا فيها ‪ :‬كأن‬
‫يعودها على بعض أعمال الخير ‪ ،‬ويسهل عليها اقتحام بعض الشدائد ‪.‬‬
‫فاللهو إذا يتفرع حسب ما ذكرنا إلي ثلثة أصناف ‪.‬‬
‫حكم كل صنف من هذه الصناف ‪:‬‬
‫ـ أما الصنف الول ‪ :‬وهو ما ل يترك أثرا في الحياة نافعا أو ضارا ‪،‬‬
‫فهو مكروه ‪ :‬كالسترسال في المجالس التي يشيع فيها المزاح والفكاهات التي ل‬
‫فائدة منها ‪ ،‬بحيث ينقضي الوقت فيها دون فائدة ‪.‬‬
‫ـ وأما الصنف الثاني ‪ :‬وهو ما يعقب أثارا ضارة في النفس والمجتمع ‪،‬‬
‫فهو محرم ‪ ،‬ول يجوز تعاطيه مقاله ‪ :‬الصنف الول ذاته ‪ ،‬إذا زاد استرسال‬
‫النسان فيه ‪ ،‬بحيث أصبح يفوت عليه واجباته ‪ ،‬من عبادات مفروضة ‪ ،‬أو سعي‬
‫من أجل المعيشة ‪ ،‬أو يوجد في طبيعة سيئة ‪ :‬كالكذب ‪ ،‬والتهاون في علقاته‬
‫الخلقية مع الناس ‪.‬‬
‫ومثاله أيضا ‪ :‬مجالس الغناء المقرونة بالمعازف واللت المحرمة ‪ ،‬أو المقرونة‬
‫بنساء ‪ ،‬أو غلمان ‪.‬‬
‫‪ -‬وأما الصنف الثالث ‪ :‬وهو ما أعقب فائدة للنفس والمجتمع ‪ ،‬فهو مباح‬
‫وقد يسمو إلي درجة الستحباب ‪ ،‬حسب مدي أهمية الفائدة الناجمة عنه ‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫مثاله ‪ :‬ما ذكرناه من السباق والرمي ‪ ،‬واللعاب المفيدة للحرب ولغيرها‬
‫مما يعتد به في ميزان الحكم النساني ‪.‬‬
‫تطبيق هذه الحكام على مزيد من المثلة ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬اللعاب الهادئة الشائعة بين الناس ‪ ،‬كالشطرنج ‪ ،‬والنرد ‪ ،‬وما يسمى‬
‫بالشدة ‪ ،‬أي الورق ‪ ،‬ونحوها وهذه اللعاب تقوم أحكامها على أساس القاعدة‬
‫التالية ‪:‬‬
‫‪‬كل ما كان من هذه اللعاب قائما على التفكير والتدبير والنظر في‬
‫العواقب ‪ ،‬فهو جائز ‪ ،‬ثم هو يدور بين الباحة والكراهة حسب مدى‬
‫انصراف اللعب إليها ‪ ،‬وانشغاله بها ‪ .‬من هذه اللعاب الشطرنج ‪،‬‬
‫فهو قائم على تشغيل الذهن ‪ ،‬وتحريك العقل والفكر ‪ .‬ول ريب أنه ل‬
‫يخلو عن فائدة للذهن والعقل ‪ ،‬فإن عكف عليه زيادة عما تقتضيه هذه‬
‫الفائدة ‪ ،‬فهو مكروه ‪ ،‬فإن زاد عكوفه حتى فوت بسببه بعض الواجبات‬
‫عاد محرما ‪.‬‬
‫‪‬وكل ما كان قائما على المصادفة ‪ ،‬وإغماض الفكر والعقل ‪ ،‬كالنرد ‪،‬‬
‫والورق ‪ ،‬ونحوهما فهو محرم ‪ ،‬وذلك لن مثل هذه اللعاب يعود‬
‫النفس على الركون إلي معني المصادفة في تقلبات الحوال والمور ‪،‬‬
‫ويجعل العقل يتخيل المصادفة هي العامل الول في الكون وحركته ‪،‬‬
‫فهو من اللهو الذي يترك أثرا ضارا في النفس ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬اللهو بالحيوانات ‪ :‬كتحريش الديكة على بعضها ‪ ،‬ودفع المواشي إلي‬
‫التناطح وكالذي يسمي اليوم بمصارعة الثيران‪ ،‬فهو محرم ‪ ،‬قولً واحدا ‪ ،‬لما‬
‫يترك من الثار الضارة على حياة البهائم أو النسان ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬المصارعة ‪ ،‬وهي كما تعلم أصناف كثيرة ‪:‬‬
‫‪‬فكل ما لم يعقب أثرا ضاراًَ في الجسم ‪،‬‬
‫وكان من شأنه أن يعود النسان على‬
‫القوة ‪ ،‬وفنون القتال ‪ ،‬والدفاع عن النفس ‪،‬‬

‫‪150‬‬
‫فهو مباح ‪ ،‬وربما مستحبا ود صارع‬
‫ركانة وغلبه ‪.‬‬ ‫رسول ال‬
‫‪‬وكل ما كان من شأنه أن يعقب أثرا ضارا‬
‫في الجسم ‪ ،‬كجرح أو تهشيم عظم أو‬
‫تشويه طرف ‪ ،‬فهو محرم ‪ :‬كالمصارعة‬
‫الحرة ‪ ،‬والملئكة ‪ ،‬ونحوهما ‪ ،‬إل أن‬
‫تكون المصارعة على نحو وبوسائل‬
‫تضمن عدم الضرار بأحد الطرفين ‪،‬‬
‫فيصبح حكمها حكم النوع الذي قبلها ‪:‬‬
‫مباحا أو مستحبا ‪ ،‬حسب ما بينا ‪.‬‬
‫ل يجوز شيء من اللهو على مال مشروط ‪:‬‬
‫ثم أعلم أن شيئا من أصناف اللهو واللعب التي ذكرناها ‪ ،‬ل يجوز على‬
‫المال ‪ ،‬سواء كان من طرف واحد أو طرفين ‪ ،‬أو من أجنبي عنهما ‪ .‬وكل مال‬
‫يدخل في شيء من اللهو الذي ذكرنا ‪ ،‬فهو من الميسر الذي يحرم تعاطيه ‪ ،‬إل أن‬
‫في شرط المال في المصارعة المباحة ‪ ،‬وجها عند الشافعية ‪ ،‬فهي ـ على هذا‬
‫الوجه ـ تتبع السباق والرمي اللذين مضي حكمهما ‪.‬‬
‫صارع‬ ‫دليل هذا الوجه ‪ :‬ما رواه أو داود في مراسليه ‪ " :‬أن النبي‬
‫ركانة ‪ ،‬إذ كان مشركا ‪ ،‬على شياه " ‪ .‬والصحيح في المذهب أنه ل يجوز شرط‬
‫المال في شيء غير السباق والرمي ‪ ،‬من أصناف اللعب واللهو المباحة ‪ ،‬وإن كان‬
‫مصارعة ‪.‬‬
‫أما الستدلل بحديث أبي داود ‪ ،‬فيجاب عنه بما يلي ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬الحديث ضعيف لكونه مرسلً ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬على فرض صحته فإنما كان ذلك قبل إسلم ركانة ‪ .‬ولتلك الحالة شأن آخر‬
‫الشياه ‪.‬‬ ‫‪ ،‬والدليل على ذلك أن ركانة لما أسلم بعد ذلك أعاد إليه النبي‬

‫‪151‬‬
‫البَاب الخامس‬

‫ال ًقضَـــاء‬

‫‪152‬‬
‫القضــــاء‬

‫تعريف القضاء ‪:‬‬


‫القضاء في اللغة له معانٍ عدة ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪-1‬الحكم ‪ ،‬يقال ‪ :‬قضى قضاء ‪ :‬أي حكم حكما ‪ .‬ومنه قول ال تبارك‬
‫وتعالى ‪ ﴿ :‬وَ َقضَى َر ّبكَ أَلّ َت ْعبُدُواْ إِلّ ِإيّاهُ َوبِا ْلوَالِ َديْنِ إِحْسَانا﴾‬
‫( السراء ‪ ) 32 :‬أي ‪ :‬حكم ‪.‬‬
‫‪-2‬الفراغ والنتهاء من الشيء ‪ ،‬يقال ‪ :‬قضى حاجته إذا فرغ منها ‪ .‬ومن‬
‫ذلك قوله تبارك وتعالى ‪ ﴿ :‬فوكزه موسى فقضي عليه ﴾ ( القصص‬
‫‪ )15 :‬أي ‪ :‬قتله وفرغ منه ‪ [ .‬وكزه ‪ :‬ضربه بجمع كفه ] ‪.‬‬
‫‪-3‬الداء والنتهاء ‪ ،‬يقال ‪ :‬قضى دينه إذا أداه ‪ ،‬وأنهي ما عليه قال‬
‫تعالى ‪ ﴿ :‬وقضينا إليه ذلك المر أن دابر هؤلء مقطوع مصبحين‬
‫﴾ ( الحجر ‪ [ . ) 66 :‬أي أدينا إليه ‪ ،‬وأنهينا إلي عمله ‪ .‬دابر هؤلء‬
‫‪ :‬آخرهم ‪ .‬مقطوع مصبحين ‪ :‬مستأصل في الصباح] ‪.‬‬
‫‪-4‬الصنع والتقدير ‪ ،‬يقال ‪ :‬هذا شيء قضاه ‪ :‬أي صنعه ‪ .‬وعليه قول ال‬
‫سمَاوَاتٍ فِي َي ْو َميْنِ ﴾ ( فصلت ‪12 :‬‬
‫سبْعَ َ‬
‫تبارك وتعالي ‪ ﴿ :‬فَ َقضَاهُنّ َ‬
‫)‬
‫[ أي صنعهن وقدرهن وسواهن ] ‪.‬‬
‫والقضاء شرعا ‪ :‬فصل الخصومة بين اثنين فأكثر بحكم ال عز وجل ‪.‬‬
‫فالقضاء إذا هو الحكم بين الناس ‪ ،‬وتسوية الخلف بينهم ‪ .‬بإعادة الحقوق إلي‬
‫أصحابها‪.‬‬
‫وسمي القضاء حكما لما فيه من الحكمة التي هي وضع الشيء في محله‬
‫فهو يكف الظالم عن ظلمه وينصف المظلوم من ظالمه ‪.‬‬
‫مشروعية القضاء ‪:‬‬
‫القضاء مشروع في السلم ومطلوب ‪ ،‬ويدل على مشروعيته الكتاب ‪،‬‬
‫والسنة والجماع ‪،‬والعقل ‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫أما الكتاب الكريم فآيات ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫حكُم َب ْي َنهُم ِبمَا أَنزَلَ اللّهُ ﴾ ( المائدة ‪. )49 :‬‬
‫قول ال عز وجل ‪َ ﴿ :‬وأَنِ ا ْ‬
‫ح ُكمُواْ بِا ْلعَدْلِ﴾ ( النساء ‪:‬‬
‫ح َك ْمتُم َبيْنَ النّاسِ أَن تَ ْ‬
‫وقوله تبارك وتعالي ‪َ ﴿ :‬وإِذَا َ‬
‫‪)58‬‬
‫ن النّاسِ ِبمَا‬
‫حكُمَ َبيْ َ‬
‫وقوله سبحانه وتعالي ‪ِ ﴿ :‬إنّا أَن َز ْلنَا ِإَل ْيكَ ا ْل ِكتَابَ بِالْحَقّ ِلتَ ْ‬
‫خصِيما﴾ ( النساء ‪. )105 :‬‬
‫َأرَاكَ اللّهُ وَلَ َتكُن ّللْخَآ ِئنِينَ َ‬
‫[خصيما ‪ :‬مخاصما ومدافعا عنهم ] ‪.‬‬
‫وأما السنة المطهرة فأحاديث كثيرة منها ‪:‬‬
‫ما رواه أبو داود [‪ ]3582‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬كيف القضاء ‪ ،‬عن على‬
‫إلي اليمن قاضيا ‪،‬‬ ‫بن أبي طالب رضي ال عنه ‪،‬قال ‪ :‬بعثني رسول ال‬
‫فقلت يا رسول ال ‪ ،‬ترسلني وأنا حدث السن ‪ ،‬ول علم لي بالقضاء ؟ فقال ‪" :‬‬
‫إن ال سيهدي قلبك ‪ ،‬ويثبت لسانك ‪ ،‬فإذا جلس بين يديك الخصمان ‪ ،‬فل‬
‫تقضين حتى تسمع من الخر ‪ ،‬كما سمعت من الول ‪ ،‬فإنه أحرى أن يتبين‬
‫لك القضاء " قال ‪ :‬فما زلت قاضيا ‪ ،‬أو ما شككت في قضاء بعد ‪.‬‬
‫[ حديث السن ‪ :‬صغير السن ‪ .‬أحرى ‪ :‬أجدر و أعون ]‬
‫ومنها أيضا ‪ :‬ما رواه البخاري [‪ ]6919‬في العتصام بالكتاب والسنة ‪،‬‬
‫باب ‪ :‬أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1716‬في القضية ‪،‬‬
‫باب ‪ :‬بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ‪ ،‬عن عمرو بن العاص‬
‫‪ " :‬إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب‬ ‫رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫فله أجران ‪ ،‬وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " ‪.‬‬
‫[اجتهد ‪ :‬بذل وسعه للتعرف على القضية ‪ ،‬ومعرفة الحق فيها ‪ .‬أصاب ‪:‬‬
‫وافق الواقع في حكمه ‪ .‬أخطأ ‪ :‬لم يصب الحق في حكمه ] ‪.‬‬
‫أما الجماع ‪ ،‬فهو منعقد على مشروعية القضاء ‪ ،‬وعلى فعله ‪ ،‬سلفا وخلفا‬
‫ومن بعده من الخلفاء إلي يومنا‬ ‫لم يخالف في ذلك أحد ‪ ،‬وقد استقضي النبي‬
‫هذا من غير نكير من أحد ‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫وأما العقل ‪ ،‬فهو قاض بمشروعية القضاء وضرورته ‪ ،‬فطبائع البشر‬
‫مختلفة ‪ ،‬والتظالم ومنع الحقوق واقع منهم ‪ ،‬وقل من ينصف من نفسه ‪ ،‬ول‬
‫يقدر المام أن يتولي فصل الخصومة بين كل الناس بنفسه ‪ ،‬فلذلك كانت‬
‫الحاجة ماسة إلي تشريع القضاء ‪ ،‬ونصب القضاة ‪ ،‬ليحكموا بين الناس ‪،‬‬
‫ويفصلوا في الخصومات ‪.‬‬
‫حكمة تشريع القضاء ‪:‬‬
‫وحكمة تشريع القضاء ‪ ،‬وجود الحاجة إليه ‪ ،‬وقيام المصالح به ‪ ،‬فالنسان‬
‫اجتماعي بطبعه ‪ ،‬وليس قادرا أن يعيش وحده ‪ ،‬بل ل بد أن يعيش مع الناس لينال‬
‫حاجاته الضرورية ‪ ،‬بالتعاون معهم ‪ ،‬وإذا كان التعامل مع الناس ‪ ،‬والتعاون معهم‬
‫أمرا ضروريا ‪ ،‬كان لجرم أنه ستقوم بين الناس خصومات ومنازعات بسبب‬
‫تعارض مصالحهم ‪ ،‬وتضارب أهوائهم ‪ ،‬وطغيان بعضهم على بعض ‪،‬ومن هنا‬
‫نشأت الحاجة إلي القضاء ‪ ،‬وكان لبد من قاض يرجع إليه الناس عند الختلف‬
‫والنزاع ‪ ،‬والسلم دين الفطرة السوية يدعو إلي رعايتها ‪ ،‬والمحافظة على‬
‫ط َرةَ اللّهِ اّلتِي‬
‫حنِيفا فِ ْ‬
‫ج َهكَ لِلدّينِ َ‬
‫نظافتها وحسن سيرها ‪ .‬قال تعالى ‪ ﴿ :‬فَأَقِمْ وَ ْ‬
‫ق اللّهِ َذِلكَ الدّينُ الْ َقيّمُ َوَلكِنّ َأ ْك َثرَ النّاسِ لَا َي ْعَلمُونَ﴾‬
‫خلْ ِ‬
‫عَل ْيهَا لَا َتبْدِيلَ لِ َ‬
‫طرَ النّاسَ َ‬
‫فَ َ‬
‫( الروم‪. )30:‬‬
‫[أقم وجهك للدين ‪ :‬ألزمه ول تحد عنه ‪ .‬حنيفا ‪ :‬مائلً إليه ‪.‬فطرة ال خلقته ‪.‬‬
‫القيم ‪ :‬المستقيم ] ‪.‬‬
‫أهمية منصب القضاء ‪:‬‬
‫القضاء منصب عظيم تدعو إليه الحاجة ‪ ،‬وله مكانة عظيمة بين شرائع‬
‫السلم ‪ ،‬وهو وظيفة النبياء والخلفاء والعلماء ‪،‬قال ال تبارك وتعالى لنبيه داود‬
‫ن النّاسِ بِالْحَقّ َولَا‬
‫حكُم َبيْ َ‬
‫خلِيفَةً فِي الَْأرْضِ فَا ْ‬
‫ج َع ْلنَاكَ َ‬
‫عليه السلم‪َ ﴿ :‬ا دَاوُودُ ِإنّا َ‬
‫سبِيلِ اللّهِ َلهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‬
‫ضلّونَ عَن َ‬
‫ل اللّهِ إِنّ الّذِينَ َي ِ‬
‫سبِي ِ‬
‫ضّلكَ عَن َ‬
‫َت ّتبِعِ ا ْل َهوَى َف ُي ِ‬
‫ِبمَا نَسُوا َيوْمَ الْحِسَابِ﴾ ( ص ‪. ) 26 :‬‬
‫فمن ولي هذا المنصب فعدل وبر كان في ظل ال يوم ل ظل إل ظله ‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫وقد ولي هذا المنصب رجال عظام من سلف هذه المة ‪ ،‬أمثال عمر وعلى‬
‫ومعاذ وأبي موسى الشعري ‪ ،‬وشريح وأبي يوسف ‪ ،‬رضي ال عنهم جمعيا ‪،‬‬
‫وضربوا أروع المثلة في العدل والورع والعلم والذكاء ‪.‬‬
‫روي أبو داود [‪ ]3592‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬اجتهاد الرأي في القضاء ‪،‬‬
‫والترمذي [‪ ]1327‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في القاضي كيف يقضي ‪ ،‬عن‬
‫معاذا إلي اليمن ‪ ،‬قال له ‪ " :‬كيف تقضي إذا عرض له قضاءٌ ؟ " قال " أقضي‬
‫‪،‬‬ ‫بكتاب ال ‪ .‬قال " فإن لم تجد في كتاب ال ؟ " قال أقضي بسنة رسول ال‬
‫قال " فإن لم تجد في سنة رسول ال ؟" قال ‪ :‬أجتهد رأيي ‪ ،‬ول آلُوا قال ‪ :‬فضرب‬
‫لما‬ ‫صدره ‪ ،‬وقال ‪ " :‬الحمد ال الذي وفق رسول رسول ال‬ ‫رسول ال‬
‫يرضي رسول ال " ‪.‬‬
‫[اجتهد رأيي ‪ :‬أبذل طاقتي ووسعي في طلب الحق والتعرف عليه ‪ .‬ول‬
‫آلوا ‪ :‬ول أقصر في طلب الحق والبحث عنه ] ‪.‬‬
‫خطورة منصب القضاء ‪:‬‬
‫مع أهمية منصب القضاء ‪ ،‬فإنه منصب خطر في نفسه ‪ ،‬وفيه مسالك‬
‫وعرة ‪ ،‬ومزالق صعبة ‪ ،‬والناجي فيه قليل ‪،‬والهالك كثير ‪ ،‬والمعصوم من عصمة‬
‫ال تعالي ‪.‬‬
‫روي أبو داود [‪ ]3573‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬في القاضي يخطيء ‪ ،‬عن‬
‫قال ‪ " :‬القضاة ثلثة ‪ :‬واحدٌ‬ ‫بريدة بن الخصيب رضي ال عنه ‪ ،‬أن رسول ال‬
‫في الجنة واثنان في النار ‪ ،‬فأما الذي في الجنة ‪ ،‬فرجل عرف الحق وقضي به ‪،‬‬
‫ورجل عرف الحق فجار في الحكم ‪ ،‬فهو في النار ‪ ،‬ورجل قضى للناس على‬
‫جهل فهو في النار " ‪.‬‬
‫وروي أبو داود [ ‪ ]3571‬في القضية باب ‪ :‬في طلب القضاء ‪ ،‬والترمذي‬
‫في القاضي ‪ ،‬عن أبي‬ ‫[‪ ]1325‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء عن رسول ال‬
‫قال ‪ " :‬من جعل قاضيا بين الناس ‪ ،‬فقد‬ ‫هريرة رضي ال عنه أن رسول اله‬
‫ذبح بغير سكين "‬
‫[ذبح بغير سكين ‪ :‬المراد به ‪ :‬التحرز من طلب القضاء ‪ ،‬والشفاق منه ]‬

‫‪156‬‬
‫ج َهنّمَ حَطَبا﴾ (الجن ‪)15 :‬‬
‫وقال ال عز وجل ‪َ ﴿ :‬وَأمّا الْقَاسِطُونَ َفكَانُوا لِ َ‬
‫[ القاسطون ‪ :‬الجائرون في حكمهم ] ‪.‬‬
‫لذلك خشي هذا المنصب كثير من الصحابة والعلماء ‪, ،‬أعرضوا عنه ‪،‬‬
‫خشية التقصير فيه ‪.‬‬
‫حكم تولي القضاء ‪:‬‬
‫وجود قاض في كل ناحية ‪ ،‬يقضي ين المتخاصمين ويرفع التظالم بينهم ‪،‬‬
‫فرض كفاية في حق الصالحين له ‪ .‬أما كونه فرضا ‪ ،‬فلوجود المر به في كتاب‬
‫ال عز وجل ‪ .‬قال تبارك وتعالى ‪ ﴿ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ كُونُواْ َقوّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾‬
‫(النساء ‪. )135 :‬‬
‫[قوامين ‪ :‬دائمي القيام ‪ .‬بالقسط ‪ :‬بالعدل ] ‪.‬‬
‫وأما كونه فرض كفاية فلنه من باب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪،‬‬
‫وهما من فروض الكفاية ‪.‬‬
‫عليا رضي ال عنه قاضيا إلي اليمن ‪ ،‬كما ولي معاذ بن‬ ‫وقد بعث النبي‬
‫جبل أيضا قضاء اليمن ‪ ،‬واستخلف عليه الصلة والسلم عتاب بن أسيد على مكة‬
‫واليا وقاضيا ‪ ،‬وقد بعث عمر بن الخطاب رضي ال عنه أبا موسي الشعري إلي‬
‫البصرة قاضيا ‪.‬‬
‫فلو كان القضاء فرض عين على كل من يصلح له لم يكف قاض واحد في‬
‫كل ناحية ‪.‬‬
‫فإذا قام بهذا الفرض من يصلح له سقط الفرض عن الباقين ‪ ،‬وإن امتنعوا‬
‫ولم يقم به أحد أثموا جميعا ‪ ،‬ووجب على المام أن يجبر أحد الصالحين للقضاء‬
‫على تولي هذا المنصب ‪ ،‬والقيام بهذا الفرض ‪.‬‬
‫لذلك قال علماء الشافعية ‪ :‬يجب على المام أن يولي في كل مسافة عدوي‬
‫قاضيا ‪ ،‬كما يجب عليه أن يجعل في كل مسافة قصر مفتيا ‪ .‬ومسافة العدوى ‪،‬‬
‫هي التي يرجع منها مبكر إلي موضعه ليلً ‪ ،‬أي ‪ :‬إذا خرج من بيته في الصباح‬
‫الباكر رجع إليه في الليل ‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫أما إذا تعين للقضاء واحد في ناحية ‪ ،‬وذلك بأن لم يصلح غيره ‪ ،‬وجب‬
‫عليه ‪ ،‬وكان فرض عيه بالنسبة له ‪ ،‬ولزمه طلبه ‪ ،‬إن لم يدع إليه لوجود الحاجة‬
‫إليه ‪،‬ول يعذر في رفضه لخوف ميل منه ‪ ،‬بل يلزمه ‪ ،‬وتحرز من الميل‬
‫والجور ‪ ،‬كسائر فروض العيان ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وإذا عرض القضاء على من يصلح له ليتوله ‪ ،‬وكان في ناحيته من‬
‫هو أولي منه وأصلح ‪ ،‬ورضي أن يتوله جاز له ‪ ،‬وإن كان هناك من هو أولي‬
‫منه ‪ ،‬ما دام قد دعي إليه من غير طلب منه ‪ ،‬لن وجود الفضل ل يمنع تولي‬
‫عتاب بن أسيد قضاء مكة ‪،‬‬ ‫المفضول ‪ ،‬ما دام أهلً له ن وقد ولي رسول ال‬
‫ولم يكن أفضل الصحابة رضي ال عنهم ‪.‬‬
‫طلب القضاء ‪:‬‬
‫يكره طلب القضاء ‪ ،‬إذا كان في الناحية من هو مثله ‪ ،‬أو أفضل منه ‪،‬‬
‫لورود النهي فيه ‪ ،‬والتحذير منه ‪.‬‬
‫روي أبو داود [‪ ]3578‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬في طلب القضاء والتسرع‬
‫في‬ ‫إليه ‪ ،‬والترمذي [‪ ]1324‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء عن رسول ال‬
‫قال ‪ " :‬من ابتغي القضاء‬ ‫القاضي ‪ ،‬عن أنس رضي ال عنه ‪ ،‬أن رسول ال‬
‫وسأل فيه شفعاء وكل إلي نفسه ومن أكره عليه أنزل ال عليه ملكا يسدده " ‪.‬‬
‫وروي مسلم [‪ ]1733‬في المارة ‪ ،‬باب [النهي عن طلب المارة والحرص‬
‫أنا‬ ‫عليها] عن أبي موسي الشعري رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬دخلت على النبي‬
‫ورجلن من بني عمي ‪ ،‬فقال أحد الرجلين ‪ :‬يا رسول ال أمرنا على بعض ما‬
‫ولك ال عز وجل ‪ ،‬وقال الخر مثل ذلك ‪ .‬فقال ‪ " :‬إنا وال ل نولي هذا العمل‬
‫أحدا سأله ‪ ،‬ول أحدا حرص عليه " ‪.‬‬
‫هذا ولقد استثني علماء الشافعية من هذه الكراهة ثلث صور ‪ ،‬حكموا‬
‫باستحباب طلب القضاء فيها ‪:‬‬
‫الولي ‪ :‬ما إذا كان العالم خاملً غير مشهور بين الناس ‪ ،‬وكان يرجو في طلبه‬
‫القضاء نشر العلم ‪ ،‬لتحصل المنفعة بنشره إذا عرف الناس فضله وعلمه ‪ ،‬فيكون‬
‫لهم به نفع ‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫الثانية ‪ :‬أن يكون فقيرا محتاجا إلي الرزق ‪ ،‬فإذا ولي القضاء حصل له كفايته من‬
‫بيت مال المسلمين ‪ ،‬بسبب هو طاعة ‪ ،‬لما في العدل بين الناس من جزيل الجر‬
‫والثواب ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬أن تكون الحقوق مضاعة لجور القضاة ‪ ،‬أو عجزهم عن إحقاق الحق ‪،‬‬
‫فيقصد بطلبه القضاء تدارك ذلك ‪.‬‬
‫وقد أخبر ال تبارك وتعالي عن نبيه يوسف عليه السلم أنه طلب الولية‬
‫على الموال ‪ ،‬شفقة على الناس ‪ ،‬وإنصافا لهم ‪ ،‬ل لحظ نفسه ‪ ،‬ول لمنفعة تخصه‬
‫علِيمٌ﴾ ( يوسف‬
‫لرْضِ ِإنّي حَفِيظٌ َ‬
‫خزَآئِنِ ا َ‬
‫علَى َ‬
‫ج َع ْلنِي َ‬
‫‪ .‬قال تعالي عنه ‪ ﴿ :‬قَالَ ا ْ‬
‫‪. )55 :‬‬
‫أما إذا كان قصده بطلب القضاء النتقام من العداء ‪ ،‬أو التكسب بالرتشاء‬
‫‪ ،‬أو المباهاة والستعلء ‪ ،‬فإن طلب القضاء ‪ ،‬والحالة هذه حرام ‪ ،‬لكونه وسيلة‬
‫إلي الظلم ‪ ،‬وفعل الحرام ‪ ،‬وللوسائل حكم المقاصد ‪ ،‬كما هو معروف ‪.‬‬
‫روي الترمذي [‪ ]1336‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في الراشي والمرتشي‬
‫الراشي‬ ‫في الحكم ‪ ،‬عن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ " :‬لعن رسول ال‬
‫والمرتشي في الحكم " ‪.‬‬
‫شروط القاضي ‪:‬‬
‫يشترط فيمن يتولي القضاء حتى تصح توليته الشروط التالية ‪:‬‬
‫‪-1‬السلم ‪ ،‬فل يجوز شرعا تولية الكافر القضاء ‪ :‬قال ال تعالى " ﴿‬
‫سبِيلً ﴾ (النساء ‪ )141 :‬ول‬
‫علَى ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ َ‬
‫ل اللّهُ ِل ْلكَا ِفرِينَ َ‬
‫جعَ َ‬
‫َولَن يَ ْ‬
‫سبيل أعظم من القضاء ‪ ،‬لنه ولية وحكم وسبيل وسلطان على‬
‫المسلمين ‪.‬‬
‫وكذلك ل يجوز أن يلي القضاء كافر ‪ ،‬ليقضي بين الكفار في ديار‬
‫المسلمين ‪ ،‬لن الغرض من القضاء فصل الحكام بين الناس بكتاب ال عز‬
‫وجل وسنة رسوله عليه الصلة والسلم والكافر جاهل بهما ‪ ،‬وغير مأمون‬
‫عليهما‬

‫‪159‬‬
‫‪-2‬التكليف ‪ ،‬أي أن يكون القاضي بالغا عاقلً ‪ ،‬فل يجوز تولية صبي‬
‫ول مجنون ‪ ،‬وإن كان جنونه متقطعا ‪ ،‬لنقص من وجدت فيه هذه‬
‫الصفات ‪.‬‬
‫ول يكفي مجرد وجود العقل الذي يتعلق به التكليف ‪ ،‬بل يجب أن يكون‬
‫القاضي صحيح الفكر ‪ ،‬جيد الفطنة ‪ ،‬بعيدا عن السهو والغفلة ‪ ،‬يتوصل‬
‫بذكائه إلي وضوح المشكل ‪ ،‬وحل المعضل ‪ ،‬لن عمله يتطلب كل هذا ‪.‬‬
‫‪-3‬الحرية ‪ ،‬فل يولي القضاء رقيق ‪ ،‬كله أو بعضه ‪ ،‬لفقدان وليته أو‬
‫نقصها ‪.‬‬
‫‪-4‬الذكورة ‪ ،‬فل يجوز أن تتولي امرأة القضاء مهما كانت كفاءتها ‪.‬‬
‫إلي كسري‬ ‫روي البخاري [‪ ]4163‬في المغازي ‪ ،‬باب ‪ :‬كتاب النبي‬
‫‪ " :‬لن يفلح‬ ‫وقيصر ‪ ،‬عن أبي بكرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫قوم ولوا أمرهم امرأة "‬
‫ولن القضاء يتطلب الجتماع بالرجال ‪ ،‬وفي اجتماع الرجال بالنساء ل‬
‫تؤمن الفتنة ‪.‬‬
‫وأيضا في تولي النساء القضاء صرف لهن عن مهمتهن الصلية ‪ ،‬وهي‬
‫القيام بشؤون البيت والولد ‪ ،‬وكذلك يشترط للقضاء القوة والسطوة حتى ل‬
‫يطمع الناس بجانب القاضي ‪ ،‬والمرأة قد يعوزها هذا الجانب ‪.‬‬
‫‪-5‬العدالة ‪ ،‬فل يولي فاسق القضاء ‪ ،‬لنه ل يوق بقوله ‪ ،‬ول يؤمن‬
‫الجور في حكمه ‪.‬‬
‫قال ال عز وجل ‪َ ﴿ :‬ا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ ِب َنبَأٍ َف َت َب ّينُوا أَن‬
‫علَى مَا َف َع ْلتُمْ نَا ِدمِينَ﴾ ( الحجرات ‪. ) 6 :‬‬
‫صبِحُوا َ‬
‫جهَالَةٍ َف ُت ْ‬
‫ُتصِيبُوا َقوْما ِب َ‬
‫والعدالة تعني ‪:‬‬
‫‪‬تجنب الكبائر من الذنوب والكبائر ‪ :‬كل ما ورد فيه وعيد شديد في‬
‫ودل ارتكابه على تهاون في الدين ‪:‬‬ ‫كتاب ال تعال أو سنة نبيه‬
‫كشرف الخمر ‪ ،‬والتعامل بالربا ‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫‪‬وان يكون غير مصر على القليل من الصغائر ‪ ،‬والصغائر ‪ :‬هي ما لم‬
‫ينطبق عليه تعريف الكبيرة ‪ :‬كالنظر المحرم ‪ ،‬وهجر المسلم فوق ثلث‬
‫‪ ،‬ونحوهما ‪.‬‬
‫‪‬وأن يكون سليم السريرة ‪ ،‬أي العقيدة محافظا على مروءة مثله ‪ ،‬لن‬
‫من ل مروءة له ل حياء له ‪ ،‬ومن ل حياء له قال ما شاء ‪ .‬ومروءة‬
‫مثله ‪ :‬أن يتخلق بأخلق أمثاله من أبناء عصره ممن يراعون مناهج‬
‫الشرع وآدابه في الزمان والمكان ‪ ،‬ويرجع في هذا غالبا إلي العرف ‪.‬‬
‫‪‬وأن يكون مأمونا غير متهم من أن يتخذ منصبه لجر منفعة لنفسه أو‬
‫دفع مصرة عنها من وجه شرعي ‪.‬‬
‫هذا وقد قال علماء الشافعية ‪ :‬إنه ل يولي القضاء مبتدع ترد شهادته ‪ ،‬ول‬
‫من ينكر حجية الجماع ‪ ،‬ول من ينكر العمل بخبر الحاد ‪ ،‬ول من ينكر‬
‫الجتهاد المتضمن إنكاره إنكار القياس ‪.‬‬
‫‪-6‬السمع ‪ ،‬ولو بصياح في أذنه ‪ ،‬فل يجوز أن يتولي القضاء أصم ل‬
‫يسمع أصلً ‪ ،‬لنه ل يمكنه والحالة هذه أن يفرق بين إقرار الخصوم‬
‫وإنكارهم ‪.‬‬
‫‪-7‬البصر ‪ ،‬فل يولي أعمي قد فقد البصر كليا ‪ ،‬ول من يري الشباح ‪،‬‬
‫ول يعرف الصور ‪ ،‬لن العمى ل يستطيع أن يميز بين الخصوم ‪،‬‬
‫ول يعرف الطالب من المطلوب ‪ ،‬وهو إن ميز بين الناس فإنما يميز‬
‫بينهم بالصوت ‪ ،‬والصوت قد يشتبه عليه ‪.‬‬
‫ولي عبدال بن أم مكتوم على المدينة ‪،‬وهو‬ ‫أما ما قيل من أن النبي‬
‫لم يوله الحكم والقضاء وإنما استخلفه ليؤم الناس في‬ ‫أعمي ‪ ،‬فإنه‬
‫الصلة ‪.‬‬
‫‪-8‬النطق ‪ ،‬فل يجوز تولية الخرس ‪ ،‬وإن فهمت إشارته ‪ ،‬لعجزه عن‬
‫تنفيذ الحكام ‪.‬‬
‫‪-9‬الكفاية للقيام بأمور القضاء ‪ ،‬فل يولي مغفل مختل نظر ‪ ،‬بسبب كبر‬
‫أو مرض ‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫وفسر بعض العلماء الكفاية اللئقة بالقضاء بأن يكون في القاضي قوة على‬
‫تنفيذ الحق بنفسه ‪ ،‬فل يكون ضعيف النفس جبانا ‪ ،‬فإن كثيرا من الناس‬
‫يكون عالما دينا ‪ ،‬ونفسه ضعيفة عن التنفيذ واللزام والسطوة فيطمع بعض‬
‫الناس في جانبه بسبب ذلك ‪.‬‬
‫قال ابن عبد السلم رحمه ال تعالى ‪ :‬للولية شرطان ‪ :‬العلم بأحكامها ‪،‬‬
‫والقدرة على تحصيل مصالحها وترك مفاسدها ‪ .‬فإذا فقد الشرطان حرمت‬
‫الولية ‪.‬‬
‫روي مسلم [‪ ]1826‬في المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬كراهة المارة بغير‬
‫قال ‪ " :‬يا أبا ذر‬ ‫ضرورة‪ ،‬عن أبي ذر رضي ال عنه ‪ ،‬أن رسول ال‬
‫إني أراك ضعيفا ‪ ،‬وإني أحب لك ما أحب لنفسي ‪ ،‬ل تأمرن على اثنين ‪،‬‬
‫ول تولين ما يتيم " ‪.‬‬
‫وروي مسلم أيضا [‪ ]1825‬في نفس الكتاب والباب السابقين عن أبي ذر‬
‫رضي ال عنه قال ك قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أل تستعملني ؟ قال ‪ :‬فضرب‬
‫بيده على منكبي ‪ ،‬ثم قال ‪ " :‬يا أبا ذر إنك ضعيف ‪ ،‬وإنها أمانة ‪ ،‬وإنها‬
‫يوم القيامة خزي وندامة ‪ ،‬إل من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها " ‪.‬‬
‫‪-10‬الجتهاد ‪ ،‬فل يولي القضاء الجاهل بالحكام الشرعية ‪ ،‬ول المقلد فيها‬
‫‪ ،‬وهو من حفظ مذهب إمامه ‪ ،‬لكونه غير عارف بغوامضه ‪ ،‬وقاصر‬
‫عن تقرير أدلته ‪ ،‬ولن المقلد ل يصلح للفتوي ‪ ،‬فعدم صلحيته‬
‫للقضاء أولي ‪.‬‬
‫والمجتهد هو من يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالحكام ما يتعلق الحكام‬
‫‪ ،‬ول يشترط حفظ تلك الدلة عن ظهر قلب ‪ ،‬بل يكفي ان يعرف مظانها في‬
‫أبوابها ‪ ،‬فيراجعها وقت الحاجة ‪ ،‬ويعرف خاص الدلة وعامها ‪ ،‬ومجملها ومبينها‬
‫‪ ،‬وناسخها ومنسوخها ‪ ،‬ومتواتر السنة وآحادها ‪ ،‬والمتصل والمرسل ‪ ،‬وحال‬
‫الرواة قوة وضعفا ‪ ،‬ويعرف لسان العرب لغة ونحوا ‪ ،‬وما ل بد منه في فهم‬
‫الكتاب والسنة ‪ ،‬لنه لسان الشرع الذي نزل به الكتاب ‪ ،‬ونطقت به السنة ‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫ويعرف أقوال العلماء من الصحابة ومن بعدهم إجماعا واختلفا ‪ ،‬ويعرف القياس‬
‫بأنواعه ‪.‬‬
‫هذا في المجتهد المطلق ‪ ،‬أما المجتهد المقيد ‪ ،‬فيشترط فيه معرفة مذهب إمامه‬
‫‪.‬‬
‫والصل في هذا الشرط ـ الجتهاد ـ ما رواه أبو داود [‪ ]3573‬في القضية ‪،‬‬
‫باب ‪ :‬القاضي يخطيء ‪ ،‬عن بريدة بن الخصيب رضي ال عنه أن رسول ال‬
‫قال ‪ " :‬القضاة ثلثة ‪ :‬واحد في الجنة ‪ ،‬واثنان في النار ‪ ،‬فأما الذي في الجنة‬
‫فرجل عرف الحق وقضي به ‪ ،‬ورجل عرف الحق فجار في الحكم ‪ ،‬فهو في النار‬
‫‪ ،‬ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار " ‪.‬‬
‫ويدل على هذا الشرط أيضا ما رواه البخاري [‪ ]6919‬في العتصام‬
‫بالكتاب والسنة باب ‪ :‬أجر الحاكم إذا الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ‪ ،‬ومسلم [‬
‫‪ ]1716‬في القضية ‪ :‬باب ‪ :‬بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب ‪ ،‬أو أخطأ ‪،‬‬
‫" إذا حكم‬ ‫ومسلم عن عمرو بن العاص رضي ال عنه ‪،‬قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ن وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " ‪.‬‬
‫فقد دل هذا الحديث على أن القاضي الذي يصح أن يحكم بين الناس ‪،‬‬
‫ويمضي حكمه هو الذي لديه أهلية الجتهاد ول تتوفر تلك الهلية إل إذ تحقق‬
‫الشرط السابق الذي ذكرناه بكل تفصيلته ‪.‬‬
‫قال المام النووي رحمه ال تعالي في " شرحه على مسلم " [‪" ]12/13‬‬
‫( قال العلماء ‪ :‬أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم ‪،‬‬
‫فإن أصاب فله أجران ‪ :‬أجر باجتهاده ‪ ،‬وأجر بإصابته ‪ ،‬وإن أخطأ فله أجر‬
‫اجتهاده ‪ ،‬فأما من ليس بأهل الحكم ‪ ،‬فا يحل له الحكم ‪ ،‬فإن حكم فل أجر له ن بل‬
‫هو آثم ‪ ،‬ول ينفذ حكمه ‪ ،‬سواء وافق الحق أم ل ‪ ،‬لن إصابته اتفاقية ـ أي عن‬
‫غير قصد ـ وليست صادرة عن أصل شرعي ‪ ،‬فهو عاص في جميع أحكامه ‪،‬‬
‫سواء وافق الصواب أم ل ‪ ،‬وهي مردودة كلها ‪ ،‬ول يعذر في شيء من ذلك ‪،‬‬
‫وقد جاء في السنن ‪ :‬القضاة ثلثة ) ‪ ...‬ثم ساق حديث أبي داود السابق ز‬

‫‪163‬‬
‫فإن تعذر في رجل جمع تلك الشروط السابقة في القاضي ‪ ،‬فولي سلطان له‬
‫شوكة قاضيا مسلما فاسقا أو مقلدا ‪ ،‬نفذ قضاؤه للضرورة ‪ ،‬لئل تتعطل مصالح‬
‫الناس ‪.‬‬
‫وواجب المام أن يبحث عن حال القاضي قبل توليته ‪ ،‬ويسأله ليعرف‬
‫حينما ولي معاذ بن جبل رضي ال عنه‬ ‫أهليته للقضاء ‪ ،‬كما فعل رسول ال‬
‫قضاء اليمن ‪ .‬فقال له ‪ " :‬كيف تقضي إذا عرض لك قضاءٌ "؟ قال ‪ :‬أقضي بكتاب‬
‫ال قال " فإن لم تجد في كتاب ال " ؟ قال " أقضي بسنة رسول ال ‪ .‬قال ‪ " :‬فإن‬
‫لم تجد في سنة رسول ال "؟ قال ‪ :‬أجتهد رأيي ول آلو ‪ .‬قال ‪ :‬فضرب رسول ال‬
‫صدره ‪ ،‬وقال ‪ " :‬الحمد ال الذي وفق رسول رسول ال " ‪ ( .‬رواه ابو داود [‬
‫‪ ]3592‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬اجتهاد الرأي في القضاء ‪ ،‬والترمذي [‪ ]1327‬في‬
‫الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في القاضي كيف يقضي ) ‪.‬‬
‫فإذا ولي المام من ل يصلح للقضاء مع وجود الصالح له والعلم بالحال أثم‬
‫المولي والمولي ‪ ،‬ول ينفذ قضاؤه وإن أصاب فيه ‪.‬‬
‫ما يستحب أن يكون عليه القاضي من الصفات ‪:‬‬
‫ويندب أن يكون من يتولي القضاء من قريش ‪ ،‬ومراعاة العلم والتقي أولي‬
‫من مراعاة النسب ‪ ،‬وأن يكون ذا حلم وتثبت ولين وفطنة ويقظة ‪ ،‬وصحة حواس‬
‫وأعضاء ‪ ،‬وأن يكون عارفا بلغة البلد الذي يقضي لهله ‪ ،‬قنوعا سليما من‬
‫الشحناء ‪ ،‬صدوقا وافر العقل ذا وقار وسكينة ‪.‬‬
‫قال مزاحم بن زافر ‪ :‬قال لنا عمر بن عبدالعزيز ‪ :‬خمس إذا أخطأ القاضي‬
‫منهن خطة كانت فيه وصمة ‪ :‬أن يكون فهما حليما عفيفا صليبا عالما سؤولً عن‬
‫العلم ‪ ( .‬رواه البخاري في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬متي يستوجب الرجل القضاء ) لن‬
‫هذه الصفات تزيده بصيرة في القضاء ‪،‬ومحبة من العامة وثقة في نفوس الناس ‪.‬‬
‫ثبوت تولية القاضي ‪:‬‬
‫إذا نصب المام قاضيا ثبتت توليته بشهادة شاهدين يخرجان معه إلي محل‬
‫وليته يخبران بتنصيبه قاضيا ‪ ،‬وكذلك تثبت توليته باستفاضة خبر تعينه ‪،‬‬
‫‪ ،‬فقد‬ ‫واشتهار تنصيبه ‪ .‬ويسن أن يكتب له المام كتابا بالتولية ‪ ،‬إتباعا للنبي‬

‫‪164‬‬
‫كتب لعمرو بن حزم لما بعثه إلي اليمن كتابا ‪،‬وهو ابن سبع عشرة سنة ‪ ،‬رواه‬
‫مالك في الموطأ [‪ ]1545‬في كتاب العقول ‪ .‬وكتب أبو بكر رضي ال عنه كتابا‬
‫( رواه البخاري [‪]1318‬‬ ‫لنس لما بعثه إلي البحرين ‪ ،‬وختمه بخاتم رسول ال‬
‫في الزكاة ‪ ،‬باب ‪ :‬العرض في الزكاة ) ‪.‬‬
‫ويستحب أن يكتب إليه في كتاب التولية ما يحتاج إلي القيام به ‪ ،‬ويعظه فيه‬
‫ويوصيه بتقوى ال تعالى ‪ ،‬ومشاورة أهل العلم ‪ ،‬وتفقد الشهود ‪ ،‬وغير ذلك وإنما‬
‫لمعاذ رضي ال عنه ‪ ،‬لما أرسله إلي اليمن ‪ ،‬لبيان الجواز‬ ‫لم يكتب رسول ال‬
‫وعدم الوجوب ‪.‬‬
‫ول شك أن ولية القاضي تثبت اليوم بالطرق المتبعة لدي الحكومات ‪ ،‬من‬
‫إصدار قرار بتوظيفه ونشره في الصحف وتسليمه نسخة منه ‪.‬‬
‫وتبدأ وظيفته ويستحق الجر على عمله من حين مباشرته مهام عمله ويسن‬
‫للقاضي أن يدخل بلد قضائه يوم الثنين ‪ ،‬فإن تعذر ‪ ،‬فالخميس ‪ ،‬فإن تعذر‬
‫فالسبت للتباع في ذلك ‪.‬‬
‫كما يسن له أيضا أن يبحث عن علماء البلد الذي عين فيه ‪ ،‬وعن عدوله‬
‫قبل دخوله إليه ‪ ،‬ليدخل على بصيرة بحال من فيه من الناس ‪.‬‬
‫وظيفة القاضي ‪:‬‬
‫وظيفة القاضي كبيرة ‪ ،‬وكثيرة الجوانب والواجبات ‪ ،‬فهو يقضي في فصل‬
‫الخصومات بين الناس بالحكم ‪ ،‬أو بالصلح عن تراض ‪ ،‬والحبس والتعزيز‬
‫وإقامة الحدود ‪ ،‬وتزويج من ل ولي لها ‪ ،‬والولية على مال الصغار والمجانين‬
‫والسفهاء ‪ ،‬وبيع التركة للدين وحفظ مال الغائب ‪ ،‬وبيع مال ل يتعين تاركه وحفظ‬
‫ثمنه ‪ ،‬او صرفه في المصالح ‪ ،‬والنظر في الوقف وإيصال غلته إلي مصارفه‬
‫والنظر في الوصايا ‪ ،‬والمنع من التعدي بالبنية ‪ ،‬ونصب المفتين والمحتبسين ‪،‬‬
‫واخذ الزكاة وقسمة التركات ‪ ،‬ونصب الئمة في المساجد ‪ ،‬وغير ذلك مما هو‬
‫داخل في اختصاصه ‪.‬‬
‫وواجب القاضي أن يحكم في كل ما ذكر وغيره بكتاب ال وسنة رسول ال‬
‫وبما أجمع عليه المسلمون ‪ ،‬ويقيس المور بعضها على بعض ‪ ،‬فيحكم بأقربها‬

‫‪165‬‬
‫إلي الحق ‪ ،‬ويبذل جهده في معرفة حكم ال تعالى في كل قضية ومستند ذلك‬
‫بعث معاذا إلي اليمن ‪ ،‬فقال ‪ :‬كيف‬ ‫حديث معاذ رضي ال عنه ‪ :‬أن رسول ال‬
‫تقضي ؟ فقال أقضي بما في كتاب ال ‪ ،‬قال ‪ :‬فإن لم يكن في كتاب ال ؟ قال‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬فإن لم يكن في سنة رسول ال ؟ قال ‪ :‬أجتهد رأيي‬ ‫فبسنة رسول ال‬
‫صدره ‪ ،‬وقال ‪ " :‬الحمد ال الذي وفق رسول‬ ‫ول آلو فضرب رسول ال‬
‫رسول ال لما يرضي رسول ال " ‪ ( .‬رواه أبو داود [‪ ]3593 ،3592‬في القضية‬
‫‪ ،‬باب ‪ :‬اجتهاد الرأي في القضاء ‪ ،‬والترمذي [‪ ]1327،1328‬في الحكام باب ‪:‬‬
‫ما جاء في القاضي كيف يقضي ) ‪.‬‬
‫وروي النسائي [‪ ]8/320‬في القضاء ‪ ،‬باب ‪ :‬الحكم باتفاق أهل العلم ‪ ،‬عن‬
‫عبد الرحمن بن زيد ‪ ،‬قال ‪ :‬أكثروا على عبدال بن مسعود رضي ال عنه ذات‬
‫يوم ن فقال عبدال ‪ :‬إنه آتي علينا زمان ‪ ،‬ولسنا نقضي ‪ ،‬ولسنا هنالك ‪ ،‬ثم إن ال‬
‫عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون ‪ ،‬فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم ‪،‬‬
‫‪،‬‬ ‫فليقض بما في كتاب ال فإن جاء أمر ليس في كتاب فليقض بما في سنة نبيه‬
‫فليقض بما قضي به‬ ‫فإن جاء أمرا ليس في كتاب ال ول قضي به نبيه‬
‫الصالحون ‪ ،‬فإن جاء أمر ليس في كتاب ال ‪ ،‬ول قضي به نبيه ول قضي به‬
‫الصالحون فليجتهد رايه ن ول يقل ‪ :‬إني أخاف ‪ ،‬فالحلل بين والحرام بين وبين‬
‫ذلك أمور متشابهات ‪ ،‬فدع ما يريبك إلي ما ل يريبك ‪.‬‬
‫وروي النسائي أيضا [‪ ]8/231‬في القضاء باب ‪ :‬الحكم باتفاق أهل العلم ‪،‬‬
‫عن عبدالرحمن بن زيد قال ‪ :‬أكثروا على عبدال بن مسعود رضي ال عنه ذات‬
‫يوم ‪ ،‬فقال عبدال ‪ :‬إنه قد أتي علينا زمان ‪ ،‬ولسنا نقضي ‪ ،‬ولسنا هنالك ‪ ،‬ثم إن‬
‫ال عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون ‪ ،‬فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم ‪،‬‬
‫فليقض بما في كتاب ال فإن جاء أمر ليس في كتاب ال ‪ ،‬فإن جاء أمر ليس في‬
‫فإن جاء أمر ليس في كتاب ال ول قضي به‬ ‫كتاب ‪ ،‬فليقض بما في سنة نبيه‬
‫فليقض بما قضي به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب ال ‪ ،‬ول‬ ‫نبيه‬
‫قضي به نبيه ‪ ،‬ول قضي به الصالحون فليجتهد رأيه ‪ ،‬ول يقل ‪ :‬إني أخاف‬

‫‪166‬‬
‫فالحلل بين والحرام بين ‪ ،‬وبين ذلك أمور متشابهات فدع ما يريبك إلي ما ل‬
‫يريبك ‪.‬‬
‫وروي النسائي أيضا [‪ ]8/231‬في القضاء باب ‪ :‬الحكم باتفاق أهل العلم‬
‫عن شُريح أنه كتب إلي عمر رضي ال عنه يسأله ‪ ،‬فكتب إليه ‪ ( :‬أن اقض بما‬
‫فإن لم يكن في كتاب‬ ‫في كتاب ال ‪ ،‬فإن لم يكن في كتاب ال فبسنة رسول ال‬
‫فاقض بما قضي به الصالحون فإن لم يكن في‬ ‫ال تعالي ول سنة رسول ال‬
‫ولم يقض به الصالحون ‪ ،‬فإن شئت‬ ‫كتاب ال تعالى ‪ ،‬ول في سنة رسول ال‬
‫فتقدم وإن شئت فتأخر ول أري التأخر إل خيرا لك والسلم )‬
‫[فتقدم ‪ :‬أي اقض ‪ .‬باجتهادك ‪ .‬فتأخر ‪ :‬توقف لتراجعني وتري رأيي ]‬
‫والحاديث واضحة في أن القاضي يلتزم في قضائه بما جاء في كتاب ال وسنة‬
‫رسوله ‪ ،‬وما أجمع عليه علماء المسلمين ‪ ،‬ثم يعم رأيه بعد ذلك لستخراج الحكم‬
‫الصحيح والوصول إلي الحق الواضح ‪.‬‬
‫مكان جلوس القاضي ونزوله ‪:‬‬
‫ويستحب للقاضي أن ينزل وسط البلد إذا ما وصل إليه ‪ ،‬ليتساوي أهله في‬
‫القرب إليه ‪ ،‬ويسهل عليهم الرجوع إليه ‪ ،‬إذا كان هناك متسع لذلك ‪ ،‬وإل نزل‬
‫حيث تيسر له ‪ ،‬هذا إذا لم يكن في البلد موضع معين لنزول القاضي ‪،‬والجلوس‬
‫فيه ‪.‬‬
‫كما يسن للقاضي أن يدخل البلد نهاراًَ ويقصد الجامع فيصلي فيه ركعتين ‪،‬‬
‫ثم يذهب إلي مكان عمله ‪ ،‬ويرسل مناديا ينادي ‪ :‬من كانت له حاجة فإن القاضي‬
‫قد حضر ‪ ،‬فينظر بعدئذ ما يرفع إليه من المور ‪ ،‬وبهذا يكون قد أخذ في العمل‬
‫واستحق رزقه ‪.‬‬
‫فيم ينظر القاضي أولً ؟‬
‫ـ ينظر القاضي أولً في أمر المسجونين ‪ ،‬لن الحبس والسجن عذاب ‪ ،‬فينظر‬
‫في أمرهم هل يستحقون السجن ‪ ،‬أو ل ؟‬

‫‪167‬‬
‫وكيفية النظر في أمر المسجونين أن يعلم الناس أنه ينظر في أمرهم يوم‬
‫كذا ‪ ،‬وقد كان قديما يرسل مناديا ينادي في البلد ‪ :‬ال إن القاضي فلنا ينظر في‬
‫أمر المسجونين يوم كذا ‪ ،‬فمن كان له محبوس فليحضر ‪.‬‬
‫فمن قال من أهل الحبس ‪ :‬حبست بحق ‪ ،‬أو ثبت له أنه حبس حق ‪ ،‬فعل‬
‫به ما يقتضي ذلك الحق ‪ ،‬فإن كان الحق حدا أقامه عليه ‪ ،‬وأطلق سراحه ‪ ،‬وإن‬
‫كان تعزيزا فعل به ما يري ‪ ،‬وإن كان مالً أمره بأدائه ‪.‬‬
‫ومن قال حُبست ظلما طلب من خصمه الحجة ‪ ،‬فإن لم يقم الحجة صدق‬
‫المحبوس بيمينه وأطلق سراحه ‪.‬‬
‫ـ ثم ينظر في حال الوصياء على الطفال ‪ ،‬والمجانين والسفهاء ‪ ،‬لنهم‬
‫يتصرفون في حق من ل يملك المطالبة ماله ‪ ،‬فكان تقديمهم أولي مما بعدهم فمن‬
‫وجده منهم عدلً قويا اقره ‪ ،‬ومن وجده فاسقا أخذ المال منه وجوبا ووضعه عند‬
‫غيره ومن وجده عدلً ضعيفا عضده وقواه بمعين ‪.‬‬
‫ـ ثم يبحث عن أمناء القاضي المنصوبين على الطفال وتفرقة الوصايا فيعزل من‬
‫فسق منهم ‪ ،‬وبعين الضعيف بآخر ‪.‬‬
‫ـ ثم يبحث عن الوقاف العامة وعن متوليها ‪ ،‬وعن الوقاف الخاصة أيضا ‪.‬‬
‫ـ ويرتب بعد هذا أموره ‪ ،‬ويقدم من القضايا الهم فالهم ‪ ،‬والقاضي بعد هذا‬
‫مؤتمن على مصالح الناس وحقوقهم على أن يبذل جهده ‪ ،‬ويقوم بمهام عمله على‬
‫وجه السرعة ‪ ،‬والعدل وليحذر من الهمال والتسويف والظلم والتساهل في حقوق‬
‫الناس ومصالحهم ‪ .‬روي الترمذي [‪ ]1330‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في المام‬
‫" إن‬ ‫العادل ‪ ،‬عن عبدال بن أبي أوفي رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫ال مع القاضي ما لم يجر ‪ ،‬فإذا جار تخلي عنه ولزمه الشيطان " ‪.‬‬
‫وروي البخاري [‪ ]6731‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬من استرعي رعية فلم ينصح‬
‫قال ‪ " :‬ما من عبد يسترعيه ال رعية ‪ ،‬فلم يحطها بنصحه إل‬ ‫‪ ،‬أن رسول ال‬
‫لم يجد رائحة الجنة " ‪.‬‬
‫اتخاذ القاضي مزكيين ‪:‬‬

‫‪168‬‬
‫ويتخذ القاضي ندبا مزكيين ‪ ،‬ليعرفاه حال من يجهل من الشهود ‪ ،‬لنه ل‬
‫يمكنه البحث عنهم بنفسه ‪ ،‬فاحتاج إلي من يعاونه في ذلك ويشترط في المزكي ‪:‬‬
‫‪-‬أن يكون عارفا بالجرح والتعديل ‪ ،‬لئل يجرح العدل ‪،‬‬
‫ويزكي الفاسق ‪.‬‬
‫‪-‬معرفة ماضي من يزكيه بصحبة أو جوار أو معاملة ‪.‬‬
‫‪-‬كما يشترط في المزكي أيضا أن يكون مسلما عاقلً بالغا‬
‫عدلً ‪ ،‬حتى يورث قوله طمأنينة ‪ ،‬ويوثق بقوله وتزكيته‬
‫‪.‬‬
‫اتخاذ كاتب ‪:‬‬
‫ويسن للقاضي أن يتخذ كاتبا ‪ ،‬لوجود الحاجة إليه إذ القاضي مشغول‬
‫كتاب يكتبون له ن‬ ‫بالحكم والجتهاد ‪ ،‬والكتابة تشغله عن ذلك ‪ ،‬وقد كان النبي‬
‫وربما زادوا على الربعين ‪.‬‬
‫شروط الكاتب ‪:‬‬
‫ويشترط في الكاتب أن يكون ‪:‬‬
‫‪-1‬مسلما عدلً حرا ذكرا ‪ ،‬لتؤمن خيانته ‪ ،‬ويوثق بكتابته ‪ ،‬إذ قد يغفل‬
‫القاضي أو يشغل عن قراءة ما يكتبه ‪.‬‬
‫‪-2‬عارفا بكتابة المحاضر ‪ :‬هي ما يكتب فيها ما جري للمتحاكمين في‬
‫المجلس والسجلت ‪ : ،‬وهي ما كتب فيها الحكم وتنفيذه زيادة على ما‬
‫كتب في المحاضر ‪.‬‬
‫ما يستحب في الكاتب ‪:‬‬
‫ويستحب أن يكون الكاتب ‪:‬‬
‫‪-1‬فقيها ‪ ،‬لئل يؤتي من قبل جهله ‪.‬‬
‫‪-2‬موفور العقل ‪ ،‬لئل يخدع ويدلس عليه ‪.‬‬
‫‪-3‬جيد الخط ‪ ،‬لئل يقع في الغلط واللتباس ‪ .‬قال على رضي ال عنه ‪:‬‬
‫الخط الحسن يزيد الحق وضوحا ‪.‬‬
‫‪-4‬حاسبا ‪ ،‬للحاجة لذلك في قسمة المواريث ‪ ،‬وتوزيع الوصايا ‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫‪-5‬فصيحا عالما بلغات المتخاصمين ‪.‬‬
‫وينبغي للقاضي أن يجعل الكاتب بين يديه ليملي عليه ما يريد ‪ ،‬ويري ما يكتبه‬
‫‪ ،‬فيكون على علم به ‪.‬‬
‫اتخاذ مترجم ‪:‬‬
‫ويندب للقاضي أن يتخذ مترجما يفسر له لغة المتخاصمين ‪ ،‬لن القاضي‬
‫قد ل يعرف لغاتهم ‪ ،‬فيحتاج إلي من يطلعه على ذلك ‪.‬‬
‫أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى‬ ‫قال خارجه بن زيد بن ثابت ‪ :‬أن النبي‬
‫كتبه ‪ ،‬وأقرأته كتبهم إذا كتبوا ‪ .‬وقال أبو جمرة ‪ :‬كنت أترجم بين‬ ‫كتبت للنبي‬
‫ابن عباس رضي ال عنه ‪ ،‬وبين الناس ‪ ( .‬رواه البخاري في الحكام ‪ ،‬باب ‪:‬‬
‫ترجمة الحكام ) ‪.‬‬
‫شروط المترجم ‪:‬‬
‫ويشترط في المترجم ‪ :‬السلم والحرية ‪ ،‬والعدالة ‪ ،‬ليحصل الطمئنان لما‬
‫يقول ‪.‬‬
‫اتخاذ درة وسجن ‪:‬‬
‫ويتخذ القاضي درة للتأديب ‪ ،‬اقتداء بعمر بن الخطاب رضي ال عنه ‪ ،‬فقد‬
‫كان يتخذ درة ‪ ،‬وقيل هو أو من اتخذها ‪.‬‬
‫قال الشعبي رحمه ال تعالي ‪ :‬كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج ‪.‬‬
‫ويتخذ سجنا أيضا ‪ ،‬لداء حق ال ‪ ،‬أو حق الناس ‪ ،‬أو لتعزيز من يستحق ذلك ‪،‬‬
‫لن عمر رضي ال عنه اشترى دارا بمكة بأربعة آلف درهم ‪ ،‬وجعلها سجنا‬
‫‪.‬رواه البيهقي ‪ .‬وفي البخاري ‪ :‬بأربع مائة [‪ ]2/853‬في الخصومات ‪ ،‬باب ‪:‬‬
‫الربط والحبس في الحرم ‪.‬‬
‫مجلس القاضي ‪:‬‬
‫ويستحب أن يكون مجلس القاضي فسيحا ‪ ،‬لن الضيق يتأذي منه‬
‫الخصوم ‪ ،‬وأن يكون بارزا ظاهرا ليعرفه من أراده من مستوطن وغريب ‪،‬‬
‫مصونا من أذي حر وبرد ‪ ،‬لئقا بالوقت والقضاء ‪ ،‬فيجلس في كل فصل من‬
‫الصيف والشتاء بما يناسبه ‪ ،‬كيل يتأذي القاضي والخصوم ‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫كراهة الجلوس للقضاء في المسجد ‪:‬‬
‫يكره للقاضي أن يجلس للقضاء في المسجد صونا له عن الصياح واللغط‬
‫والخصومات ‪ ،‬إذ مجلس القاضي ل يخلو غالبا من ذلك ‪ ،‬على أنه قد يحتاج أن‬
‫يحضر مجلس القضاء من ليس لهم أن يمكثوا في المسجد ‪ ،‬كالحيض ‪ ،‬ومن ل‬
‫يليق دخولهم بالمسجد ‪ :‬كالصغار والمجانين والكفار ‪.‬‬
‫ومن الدب أن يجلس القاضي على مكان مرتفع كمنصة ليسهل عليه النظر‬
‫إلي الناس ‪ ،‬وأن يستقبل القبلة ‪ ،‬لنها اشرف الجهات ‪ ،‬وأن يدعو عقب جلوسه‬
‫كان إذا خرج من بيته قال ‪ " :‬بسم ال توكلت‬ ‫بالتوفيق والتسديد ‪ ،‬لن النبي‬
‫على ال ‪ ،‬اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل ‪ ،‬أو أزل أو أظلم أو أظلم أو‬
‫أجهل أو يجهل علي " ‪ ( .‬رواه الترمذي [‪ ]3423‬في الدعوات ‪ ،‬باب ‪ :‬التعوذ من‬
‫أن نجهل أو يجهل علينا ‪ ،‬وغيره ‪ ،‬عن أم سلمه رضي ال عنها ) ‪.‬‬
‫كراهة اتخاذ الحاجب ‪ ،‬وجواز اتخاذ المحضر ‪:‬‬
‫الحاجب ‪ :‬هو البواب الذي يحجب الناس عن القاضي ‪ ،‬ويمنعهم من‬
‫الدخول إليه في وقت جلوسه للحكم ‪ ،‬فيكره للقاضي ان يتخذ هذا الحاجب ‪ ،‬بل‬
‫يترك بابه مفتوحا للمراجعين ‪ ،‬إل أن يكون هناك ازدحام على بابه ‪ ،‬فل مانع أن‬
‫يقف هذا البواب لينظم دخول الناس على القاضي ‪.‬‬
‫روي أبو داود [‪ ]2948‬في الخراج والمارة ‪،‬باب ‪ :‬فيما يلزم المام من‬
‫‪ " :‬من وله‬ ‫أمر الرعية ‪ ،‬عن أبي مريم رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫ال شيئا من أمور المسلمين ‪ ،‬فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب ال‬
‫دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة " ‪.‬‬
‫وروي الترمذي [‪ ]1332،1333‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في إمام‬
‫الرعية ‪ ،‬عن عمرو بن مرة الجهني رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫يقول ‪ " :‬ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إل أغلق ال‬
‫أبوب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته " ‪.‬‬
‫أما المحضر ‪ ،‬فهو الذي يرتب الخصوم ‪ ،‬وينادي عليهم ‪ ،‬وكان يسمي النقيب ‪،‬‬
‫فل بأس أن يتخذه القاضي لوجود الحاجة إليه ‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫مشاورة الفقهاء ‪:‬‬
‫ويندب للقاضي عند اختلف وجهات النظر ‪ ،‬وتعارض الدلة في الحكم أن‬
‫يشاور أهل الفقه والبصر بالدين ‪ ،‬لقول ال عز وجل ‪ ﴿ :‬وشاورهم في المر ﴾ (‬
‫سورة آل عمران ‪)519:‬‬
‫التسوية بين الخصوم ‪:‬‬
‫ويسوي القاضي وجوبا بين الخصمين في أمور ثلثة ‪:‬‬
‫‪-1‬في الدخول عليه ‪ ،‬فل يجوز أن يقوم لحدهما ‪ ،‬ول يقوم للخر ‪ ،‬لن‬
‫ذلك ينافي العدل ‪ ،‬ويكسر قلب من لم يقم له ‪ ،‬فإما أن يقوم لهما ‪ ،‬أو ل‬
‫يقوم لحد ‪.‬‬
‫‪-2‬في الستماع لهما ‪ ،‬وطلقة الوجه معهما ‪ ،‬ورد السلم عليهما ‪ ،‬وذلك‬
‫لتحقيق العدل معهما ‪ ،‬ولئل ينكسر قلب أحدهما ‪ ،‬إذا ما خص أحدهما‬
‫بلفظ أو لحظ لم يعامل الثاني منهما بمثله ‪.‬‬
‫‪-3‬وفي المجلس بين يديه ‪ ،‬وذلك بأن يجلسهما أمامه ‪ ،‬وبين يديه ‪ ،‬أو‬
‫أحدهما عن يمينه ‪ ،‬والخر عن شماله ‪ ،‬ليطيب بذلك قلبهما ‪ ،‬ويعدل‬
‫بينهما‪.‬‬
‫والصل في هذا ما رواه الدارقطني [‪ ]4/205‬عن أم سلمه رضي ال عنها ‪،‬‬
‫‪ " :‬من ابتلي بالقضاء بين الناس فليعدل بينهم في لحظه‬ ‫قالت ‪ :‬قال رسول ال‬
‫وإشارته ومقعده ‪ ،‬ول يرفعن صوته على أحد الخصمين ‪ ،‬مال يعرفه على الخر"‬
‫وروي أبو داود [‪ ]3588‬في القضية ‪ :‬باب كيف يجلس الخصمان بين يدي‬
‫أن‬ ‫القاضي ‪ ،‬عن عبدال بن الزبير رضي ال عنه قال ‪ :‬قضى رسول ال‬
‫الخصمين يقعدان بين يدي الحكم ‪.‬‬
‫هذا ول يجوز للقاضي أن يسال المدعى عليه ‪ ،‬إل بعد فراغ المدعي من بيان‬
‫دعواه ‪ ،‬ول يحلف المدعي عليه إل بعد أن يطلب المدعي من القاضي أن يحلفه‬
‫لن استيفاء اليمين من المدعي عليه حق للمدعي فيتوقف على إذنه وطلبه ‪ ،‬ول‬
‫يلقن خصما حجة ‪ ،‬ول يفهمه كلما يعرف به كيفية الدعوى أو الجواب ‪ ،‬أو كيف‬
‫ينكر أو يقر ‪ ،‬لما في ذلك من إظهار الميل له والضرار بخصمه ‪ ،‬وهذا حرام ‪،‬‬

‫‪172‬‬
‫ول يتعنت بالشهداء فيشق عليهم ‪ ،‬ول يؤذيهم بالقول ونحوه ‪ ،‬كأن يهزأ بهم أو‬
‫يعارضهم في أقوالهم ‪ ،‬لن مثل هذا ينفر من الشهادة وتحملها وأدائها ‪ ،‬والناس‬
‫شهِيدٌ َوإِن تَ ْف َعلُواْ فَِإنّهُ‬
‫في حاجة إليها ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ ﴿ :‬وَلَ ُيضَآرّ كَا ِتبٌ وَلَ َ‬
‫فُسُوقٌ ِبكُمْ ﴾ ( سورة البقرة ‪ . )282 :‬ول يقبل الشهادة إل ممن ثبتت عدالته ‪،‬‬
‫بمعرفة القاضي له ‪ ،‬أو بتزكية عدلين له عنده ‪ ،‬ول يقبل شهادة عدو على عدوه ‪،‬‬
‫ول شهادة والد لولده ‪ ،‬ول ولد لوالده ‪ ،‬وذلك لوجود تهمة التحامل على العدو ‪،‬‬
‫والمحاباة للوالد ‪ ،‬أو الولد ‪ ،‬والصل في رد مثل هذه الشهادة ما رواه الترمذي [‬
‫‪ ]2299‬في الشهادات ‪ ،‬باب ‪ :‬فيمن ل تجوز شهادته ‪ ،‬عن عائشة رضي ال عنها‬
‫قل ‪ " :‬ل تجوز شهادة خائن ول خائنه ول زانٍ ول زانية ول‬ ‫أن رسول ال‬
‫ذي عمر على أخيه " ‪.‬‬
‫[ الغمر ‪ :‬الحقد والغل والشحناء ]‬
‫وروي مالك في الموطأ [ ‪ ] 2/720‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في الشهادات‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬بلغني أن عمر بن الخطاب رضي ال عنه قال ‪ ( :‬ل تجوز شهادة خصم‬
‫ول ظنين )‬
‫[ الظنين ‪ :‬المتهم ]‬
‫الحالت التي يتجنب فيها القاضي القضاء ‪:‬‬
‫ويتجنب القاضي القضاء في عشرة مواضع ‪ :‬عند الغضب ‪ ،‬والجوع‬
‫والعطش ‪ ،‬وشدة الشهوة ‪ ،‬والحزن والفرح المفرط ‪ ،‬وعند المرض ‪ ،‬ومدافعة‬
‫الخبثين ـ البول والغائط وعند النعاس ‪ ،‬وشدة البرد والحر ‪ .‬ويلحق بهذه‬
‫الحوال ما كان مثلها من كل ما يورث اضطرابا في النفس وسواء في الخلق ‪،‬‬
‫وخللً في الفكر ‪.‬‬
‫والصل في هذا ما رواه البخاري [‪ ]6739‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬هل يقضى‬
‫القاضي أو يفتي وهو غضبان ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1717‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬كراهة‬
‫قضاء القاضي وهو غضبان ‪ ،‬عن أبي بكرة رضي ال عنه قال ِِ‪ :‬سمعت رسول‬
‫يقول ‪ " :‬ول يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ] ‪.‬‬ ‫ال‬
‫والنهي في الحديث محمول على الكراهة فلو قضي في حال منها نفذ حكمه‬

‫‪173‬‬
‫شراء وبيع القاضي بنفسه ‪:‬‬
‫يندب للقاضي أن ل يشتري ‪ ،‬وأن ل يبيع بنفسه ‪ ،‬لئل يشتغل قلبه عما هو‬
‫بصدده ‪ ،‬ولنه قد يحابي ‪ ،‬فيميل قلبه إلي من يحابيه ‪ ،‬إذا وقع بينه وبين غيره‬
‫خصومة ‪.‬‬
‫حكم القاضي لنفسه أو شريكه وأصله وفرعه ‪:‬‬
‫‪-1‬ل يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه ‪ ،‬ول ينفذ حكمه في ذلك لوجود التهمة‬
‫في حكمه ‪ ،‬وخوف الميل لمصلحته ‪.‬‬
‫‪-2‬ول يحكم أيضا لشريكه في المال المشترك بينهما ‪ ،‬للتهمة أيضا ‪،‬‬
‫وخشية الميل والمحاباة ‪.‬‬
‫‪-3‬وكذلك ل يجوز له أن يحكم لصله ‪ ،‬ول لفرعه ‪ ،‬ول ينفذ حكمه لكل‬
‫منهما ‪ ،‬لحتمال التهمة والمحاباة ‪.‬‬
‫أما إذا حكم على من ذكرنا سابقا ‪ ،‬فإنه يجوز حكمه ‪ ،‬وينفذ ‪ ،‬لعدم التهمة‬
‫في ذلك ‪.‬‬
‫هـ ول يجوز للقاضي أيضا أن يحكم على عدون ‪ ،‬لوجود التهمة ‪ ،‬ويجوز أن‬
‫يحكم له لنتفائها ‪.‬‬
‫وإذا امتنع حكم القاضي لمن ذكرنا سابقا ‪ ،‬فإنه يحكم لهم المام ‪ ،‬أو يحكم‬
‫لهم قاضٍ آخر ‪ ،‬لنتفاء التهمة في حكمه ‪.‬‬
‫الهدية إلي القاضي ‪:‬‬
‫ـ ل يجوز للقاضي أن يقبل الهدية من الذين يرجعون إليه في حل خصوماتهم‬
‫والفصل في منازعاتهم ‪ ،‬مهما قلت تلك الهدية ‪ ،‬أو زادت ‪ ،‬وسواء كانوا يهدون‬
‫إليه قبل ولية القضاء ‪ ،‬أو لم يكونوا ‪ ،‬وسواء كانوا من محل وليته ‪ ،‬أو كانوا‬
‫من غيرها ‪ ،‬لن قبول مثل هذه الهدايا من أولئك الذين لهم خصومات عنده يدعو‬
‫إلي الميل والمحاباة غالبا ‪ .‬وقد أمر الدين بسد الذرائع التي قد يفضي الولوج منها‬
‫إلي محرم ‪.‬‬
‫ـ وكذلك ل يجوز له قبول الهدية من كل شخص لم يعتد أن يهدي إليه قبل وليته‬
‫القضاء ‪ ،‬ولو لم يكن له عنده خصومة ‪ ،‬لحتمال حصول الخصومة في‬

‫‪174‬‬
‫المستقبل ‪ ،‬وليس من عادته أن يهدى إليه قبل الولية ‪ ،‬فيحمل عمله ذلك على أن‬
‫سببه القضاء غالبا ‪.‬‬
‫والصل في هذا ما رواه البخاري [‪ ]6260‬في اليمان والنذور ‪ ،‬باب ‪:‬‬
‫‪ ،‬ومسلم [‪ ]1832‬في المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬تحريم هدايا‬ ‫كيف كانت يمين النبي‬
‫استعمل عاملً‬ ‫العمال ‪ ،‬عن أبي حميد الساعدي رضي ال عنه ‪ ،‬أن رسول ال‬
‫‪ ،‬فجاءه العامل حين فرغ من عمله ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هذا لكم وهذا أهدي‬
‫لي ‪ ،‬فقال له ‪ " :‬أفل قعدت في بيت أبيك وأمك ‪ ،‬فنظرت أيهدي لك أم ل ؟! " ثم‬
‫عشية بعد الصلة ‪ ،‬فتشهد وأثني على ال بما هو أهله ‪ ،‬ثم قال‬ ‫قام رسول ال‬
‫‪ " :‬أما بعد فما بال العامل نستعمله ‪ ،‬فيأتينا فيقول ‪ :‬هذا من عملكم ‪ ،‬وهذا أهدى‬
‫لي ‪ ،‬أفل قعد في بيت أبيه وأمه فنظر ‪ :‬هل يهدي له أم ل ؟! فو الذي نفس محمد‬
‫بيده ‪ ،‬ل يغل أحدكم منا شيئا إل جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه ‪ :‬إن كان‬
‫بعيرا جاء به له رغاء ‪ ،‬وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار ‪ ،‬وإن كانت شاة جاء‬
‫يديه حتى إنا للنظر إلي عُفرة إبطيه ‪.‬‬ ‫بها تيعر ‪ ،‬قد بلغت " ثم رفع رسول ال‬
‫وفي رواية عند أحمد [‪ ]5/424‬عن أبي هريرة رضي ال عنه ‪ :‬أن رسول‬
‫غلُولٌ " ‪.‬‬
‫قال ‪ " :‬هدايا العمال ُ‬ ‫ال‬
‫[استعمل ‪ :‬وظفه على جمع الزكاة ‪ .‬ل يغل ‪ :‬من الغلول ‪ ،‬والغلول في‬
‫الصل ‪ :‬الخذ من الغنيمة قبل قسمتها ‪ ،‬وسميت هدية العامل غولً ‪ ،‬بجامع أن‬
‫كلً منهما فيه خيانة ‪ ،‬وإخلل بالمانة ‪ ،‬لن الهدية غالبا ما تحمل العامل على‬
‫ذلك ولذلك هي حرام كالغلول ‪ .‬رغاء ‪ :‬صوت البل ‪ .‬خوار ‪ :‬صوت البقر تيعر‬
‫‪ :‬من اليعار وهو صوت الغنم والمعز عُفرة إبطيه ‪ :‬باطنهما ‪ ،‬من شدة رفعه ليديه‬
‫‪ ،‬والعفرة في الصل ‪ :‬بياض يخالطه لون كلون التراب ‪ ،‬وكذلك لون باطن البط‬
‫]‬
‫هذا كله إذا كانت الهدية للقاضي ممن له عنده خصومة ‪ ،‬أو قضية ينظر‬
‫فيها أو ممن لم تسبق له عادة في إهدائه قبل توليته القضاء ‪ ،‬فإن كانت ممن له‬
‫عادة في إهدائه وليس له خصومة عنده ‪ ،‬جاز له قبولها ‪ ،‬إن لم يزد فيها عن‬
‫القدر المعتاد ‪ ،‬كما وكيفا ‪ ،‬فإن زاد فيها نظر ‪ ،‬فإن كانت الزيادة لها أثر ظاهر لم‬

‫‪175‬‬
‫تقبل ‪ ،‬وإل قبلت ومما ينبغي النتباه إليه ‪ :‬هو أن الكلم في الهدية إذا لم يكن‬
‫هناك قصد ظاهر ‪ ،‬فإن كانت بقصد أن يحكم بغير الحق ‪ ،‬أو ليمتنع من الحكم‬
‫بالحق ‪ ،‬فهي رشوة ‪ ،‬وهي من الكبائر ‪ ،‬ويأثم القاضي بقبولها ‪ ،‬كما يأثم الباذل‬
‫لها والساعي في شأنها ‪.‬‬
‫روي الترمذي [‪ ]2336‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في الراشي والمرتشي‬
‫في الحكم ‪ ،‬وأبو داود [‪ ]3580‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬في كراهية الرشوة ‪ ،‬عن ابي‬
‫لعن الراشي‬ ‫هريرة وعبد ال بن عمر رضي ال عنهم ‪ :‬أن رسول ال‬
‫والمرتشي في الحكم ‪ .‬وعند أحمد [‪ ]5/279‬عن ثويان رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬لعن‬
‫الراشي والمرتشي ‪ ،‬والرائش بينهما ‪.‬‬ ‫رسول ال‬
‫[ الرائش ‪ :‬الذي يمشي بين الراشي والمرتشي ] ‪.‬‬
‫ملك الهدية ‪:‬‬
‫إذا قبل القاضي الهدية ‪ ،‬في الصور المحرمة التي مر ذكرها ‪ ،‬فإنه ل‬
‫يملكها ‪ ،‬ويجب عليه ردها إلي صحابها ‪ ،‬فإن تعذر ردها إلي صاحبها وضعها في‬
‫بيت مال المسلمين ‪ ،‬لنها كسب غير مشروع ‪ ،‬فل يملكها ‪.‬‬
‫حضور الولئم ‪:‬‬
‫‪-‬ل يجوز للقاضي حضور وليمة أحد الخصمين ‪ ،‬حال‬
‫الخصومة ‪ ،‬ول يقبل ضيافة أحد منهما ولو كانا في غير‬
‫محل وليته ‪ ،‬لخوف الميل والمحاباة ‪.‬‬
‫‪-‬ويجوز له حضور وليمة غير المتخاصمين ‪ ،‬إذا جرت‬
‫عادته قبل الولية ‪ ،‬لعدم التهمة في ذلك ‪.‬‬
‫‪-‬ويندب له إجابة دعوة غير المتخاصمين ‪ ،‬ولو من غير‬
‫عادة ‪ ،‬إذا كانت وليمة عامة ‪ ،‬كوليمة العرس ‪،‬‬
‫والختان ‪ ،‬وقد عمم صاحبها الدعوة ‪ ،‬لنتفاء التهمة في‬
‫ذلك ‪ ،‬ولن فيها تطيب قلوب أصحاب الدعوة ‪ ،‬شريطة‬
‫أن ل يشغله ذلك عن أعمال القضاء ‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫‪-‬يجوز للقاضي عيادة المريض ‪ ،‬وشهود الجنائز ‪ ،‬لن في‬
‫ذلك قربة ‪ ،‬ول تهمة فيه ‪.‬‬
‫رجوع القاضي عن الجتهاد الذي قضى به ‪ ،‬وما يترتب عليه ‪:‬‬
‫إذا قضي القاضي في قضية من القضايا ‪ ،‬ثم تغير اجتهاده فيها ‪ ،‬فهل‬
‫ينقض الحكم الول ‪ ،‬أم ينفذ حكمه على ما قضاه ‪ ،‬ويكون رجوعه ساريا فيما يجد‬
‫من القضايا والحكام ؟‬
‫في الجابة على ذلك تفصيل نذكره فيما يلي ‪:‬‬
‫‪-1‬إذا حكم القاضي باجتهاده ‪ ،‬ثم بان له أن حكمه كان خلف نص‬
‫الكتاب أو خلف السنة المتواترة أو الحاد الصحيحة ‪ ،‬أو كان خلف‬
‫الجماع ‪ ،‬أو القياس الجلي ‪ ،‬وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق بين‬
‫الصل والفرع ‪ ،‬نقول ‪ :‬إذا كان حكمه خلف أصل من هذه‬
‫الصول ‪ ،‬وجب نقضه من قبل القاضي نفسه ‪ ،‬أو من قبل غيره ‪.‬‬
‫ويترتب على ذلك رد ما قضى به ‪ ،‬وإعادته إلي ما يوافق الكتاب والسنة ‪ ،‬أو‬
‫الجماع والقياس ‪ ،‬وتصحيح الثار التي ترتبت على ذلك الحكم ‪ .‬ودليل ذلك قول‬
‫‪ " :‬من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " ‪ ( .‬أخرجه البخاري [‬ ‫الرسول‬
‫‪ ]2550‬في البيوع ‪ ،‬باب ‪ :‬النجش ‪ ،‬تعليقا ووصله في الصلح باب ‪ :‬إذا اصطلحوا‬
‫علي صلح جور فالصلح مرود ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1718‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬نقض‬
‫الحكام الباطلة ‪ ،‬ورواه غيرهما عن عائشة رضي ال عنها ) ‪.‬‬
‫والمثلة على ذلك كثيرة في أقضية الصحابة ومن بعدهم ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪-1‬كان عمر بن الخطاب رضي ال عنه يفاضل بين الصابع في الدية ‪،‬‬
‫لتفاوت منافعها ‪ ،‬حتى روي له الخبر في التسوية بينها ‪ ،‬فنقض حكمه ‪،‬‬
‫ورجع عنه ‪ .‬رواه الخطابي في "المعالم " ‪.‬‬
‫‪-2‬قضى عمر بن عبدالعزيز رضي ال عنه فيمن رد عبدا بعيب ‪ ،‬أنه يرد‬
‫خراجه معه ‪ ،‬فأخبره عروة عن عائشة رضي ال عنها ‪ :‬أن النبي‬
‫قضى أن الخراج بالضمان ‪ ،‬فرجع عن حكمه ‪ ،‬وقضى بأخذ الخراج‬
‫من الذي أخذه ‪ .‬رواه الشافعي في مسنده ‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫‪-3‬ونقض على رضي ال عنه قضاء شُريح في ابني عم ‪ ،‬أحدهما أخ‬
‫ضهُمْ‬
‫لرْحَامِ َب ْع ُ‬
‫لم ‪ ،‬بأن المال للخ ‪ ،‬متمسكا بقوله تعالى ‪َ ﴿ :‬وُأوْلُواْ ا َ‬
‫َأ ْولَى ِب َبعْضٍ﴾ ( سورة النفال ‪ ﴾75 :‬قال له على رضي ال عنه ‪ :‬قال‬
‫اله تعالي ‪ ﴿ :‬وإن كان رجل يورث كللة أو امرأة وله أخ أو أخت‬
‫فلكل واحدٍ منهما السدس ﴾ ‪.‬‬
‫‪-2‬أما إذا كان حكمه الول ‪ ،‬إنما بناه على اجتهاد ‪ ،‬أو على مقتضي‬
‫قياس خفي ‪ ،‬ثم تغير اجتهاده ‪ ،‬فإنه ل ينتقض حكمه الول ‪ ،‬بل ينفذ‬
‫على ما مضى ‪ ،‬ويتغير الحكم بناء على الجتهاد الجديد بما سيأتي من‬
‫أقضية ‪ ،‬لن الظنون المتعادلة ‪ ،‬ليس بعضها أولي من بعض ‪ ،‬ولو‬
‫جاز أن ينقض بعضها بعضا ‪ ،‬لما استمر حكم ‪ ،‬ولما استقر تشريع ‪،‬‬
‫ولشق المر على الناس ‪ ،‬ومن هنا نشأت القاعدة المعروفة ‪ ( :‬ل‬
‫ينقض الجتهاد بمثله ) ‪.‬‬
‫ويترتب على ذلك أن الحكم الول يمضي على حاله ول يرد ‪ ،‬وقد روي عن‬
‫عمر رضي ال عنه مثل هذا ‪ :‬روي أن عمر بن الخطاب رضي ال عنه حكم‬
‫بحرمان الخ الشقيق من الميراث ‪ ،‬في المسألة المعروفة بالمشتركة ‪ ،‬وهي أن‬
‫يموت الميت عن زوج وأم وإخوة لم وأخ شقيق ‪ .‬ومقتضي القواعد أن يأخذ‬
‫الزوج النصف ‪ ،‬والم السدس ‪ ،‬والخوة لم الثلث ‪ ،‬ول شيء للخ الشقيق ‪ ،‬لنه‬
‫عصبة ‪ ،‬ولم يبق له شيء بعد أصحاب الفروض ‪ ،‬وهكذا قضى عمر رضي ال‬
‫عنه أولً ‪.‬‬
‫ثم رجع عن ذلك ‪ ،‬وقضي بالتشريك بين الخ الشقيق والخوة لم في‬
‫الثلث ‪ ،‬على أنهم أخوة لم ‪ ،‬وقال رضي ال عنه لما قيل له ‪ :‬قد قضيت بغير هذا‬
‫‪ ( :‬ذلك على ما قضينا ‪ ،‬وهذا على ما نقضي ) ولم ينتقض حكمه الول ‪.‬‬
‫حكم القاضي نافذٌ قضاءَ ل ديانة ‪:‬‬
‫إذا قضي القاضي في قضية ‪ ،‬بناء على بينة صحيحة شرعا نفذ حكمه‬
‫قضاءً وظاهرا ‪ ،‬واستحق المحكوم له ما حكم له به القاضي ن فإن كان المدعى‬
‫صادقا في دعواه استحق المدعي به ‪ ،‬وحل له قضاء وديانة ‪ ،‬ظاهرا وباطنا ‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫أما إذا كان المدعى كاذبا ‪ ،‬وحكم له القاضي ببينته ‪ ،‬فإن هذا الحكم وإن نفذ قضاءٌ‬
‫وظاهرا وباطنا ‪.‬‬
‫أما إذا كان المدعى كاذبا ‪ ،‬وحكم له القاضي ببينته فإن الحكم وإن نفذ‬
‫قضاءٌ ‪ ،‬واستحق المدعي والمحكوم له به ‪ ،‬إل أنه ديانة وعند ال عز وجل حكم‬
‫باطل ل يحل به الحرام ‪ ،‬ول يستحق هذا المدعى ما حكم له به ن وعليه أن يتوب‬
‫‪ " :‬إنما أنا‬ ‫غلي ال تعالى ‪ ،‬ويرد الحق إلي صاحبه ‪ .‬ودليل ذلك قول النبي‬
‫بش ٌر وإنكم تختصمون إلي ‪ ،‬ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض ‪،‬‬
‫فأقضي له على نحو ما أسمع ‪ ،‬فمن قضيت له بحق أخيه ‪ ،‬فإنما أقطع له قطعة‬
‫من النار " ‪.‬‬
‫(رواه البخاري [‪ ]6748‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬موعظة المام للخصوم ‪ ،‬ورواه‬
‫أيضا ي غر هذا الباب ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1713‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬الحكم بالظاهر‬
‫واللحن بالحجة عن أم سلمه رضي ال عنها ) ‪.‬‬
‫[ألحن بحجته ‪ :‬أقوم بها ‪ ،‬وأقدر عليها ]‬
‫وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أحكاما منها ‪:‬‬
‫‪-1‬إثم من خاصم في باطل ن فاستحق به في الظاهر شيئا ‪،‬‬
‫وما استحقه بهذه الطريقة حرام ل يحل له ديانة عند ال‬
‫تعالى ‪.‬‬
‫‪-2‬أن من احتال لمر باطل بوجه من وجوه الحيل ‪ ،‬حتى‬
‫يصير حقا له في الظاهر ويحكم له ه ‪ ،‬فإنه ل يحل له‬
‫تناوله في الباطن ‪ ،‬ول يرتفع عنه الثم بالحكم ‪.‬‬
‫‪-3‬أن المجتهد إذا أخطأ في الحكم ‪ ،‬ل يلحقه إثم ‪ ،‬بل يؤجر‬
‫عند ال ‪ ،‬وإن كان حكمه هذا ل يحل حراما في حقيقة‬
‫المر ‪ ،‬وعند ال تعالى ‪ .‬جاء في الحديث ‪ " :‬إذا حكم‬
‫الحاكم فاجتهد فأصاب ‪ ،‬فله أجران وإذا حكم فاجتهد‬
‫فأخطأ فله أجرٌ" (رواه الترمذي [‪ ]1326‬في الحكام ‪،‬‬
‫باب ‪ :‬ما جاء في القاضي يصيب ويخطيء ‪ ،‬والنسائي‬

‫‪179‬‬
‫[‪ ]8/224‬في القضاء ‪ ،‬باب ‪ :‬الصابة في الحكم ‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة رضي ال عنه ‪ ،‬ورواه البخاري [‪]6919‬‬
‫في العتصام ‪ ،‬باب ‪ :‬أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو‬
‫أخطأ ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1716‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬أجر الحاكم‬
‫إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ‪ ،‬عن عبدال بن عمرو بن‬
‫العاص رضي ال عنهما ) ‪.‬‬
‫ما يترتب على هذه القاعدة ( حكم القاضي نافذ قضاء ل ديانة ) من‬
‫المسائل ‪:‬‬
‫لقد رتب العلماء على هذه القاعدة أحكاما كثيرة في أبواب متعددة ‪ ،‬نذكر منها‬
‫بعض المسائل ‪:‬‬
‫‪-1‬إذا ادعى رجل على امرأة أنها زوجته ‪ ،‬وأقام البينة ‪ ،‬وقضى له‬
‫القاضي بذلك ‪ ،‬وكان المدعى كاذبا ‪ ،‬فإنه ل يحل له الستمتاع بها‬
‫بذلك الحكم ‪ ،‬ويجب على المرأة المتناع منه ‪ ،‬وعدم تمكينه منها ‪.‬‬
‫‪-2‬إذا ادعى رجل مالً على غيره ‪ ،‬وحكم له به القاضي ‪ ،‬وكان المدعى‬
‫كاذبا ‪ ،‬فل يحل له هذا المال ‪ ،‬ول يملكه ديانة ‪ ،‬ويجب رده إلي‬
‫صاحبه ‪.‬‬
‫‪-3‬إذا قضى القاضي لشريك بالشفعة ‪ ،‬وكان قد أسقط حقه فيه ‪ ،‬ثم أنكر‬
‫وأقام البينة ‪ ،‬فإنه ل يستحق الشفعة ديانة ‪ ،‬وإن استحقها قضاءً ‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫انعزال القاضي وعزله‬

‫أولً ‪ :‬انعزال القاضي ‪:‬‬


‫ينعزل القاضي بنفسه من غير عزل المام له إذا اتصف بواحدة من الصفات‬
‫التالية ‪:‬‬
‫‪-1‬الردة ‪ ،‬لنه بذلك يخرج من السلم ‪ ،‬ويصبح كافرا ‪ ،‬والكافر ل ولية‬
‫علَى‬
‫ل اللّهُ ِل ْلكَا ِفرِينَ َ‬
‫جعَ َ‬
‫له على المسلمين ‪ ،‬قال ال تعالى ‪َ ﴿ :‬ولَن يَ ْ‬
‫سبِيلً﴾ (سورة النساء‪. )141 :‬‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َ‬
‫‪-2‬زوال الهلية ‪ ،‬وذلك كأن يعتريه جنون أو إغماء أو عمى أو خرس أو‬
‫صمم ‪ ،‬أو ذهبت أهليه اجتهاده وضبطه للمور ‪ ،‬بنحو غفلة أو نسيان‬
‫‪ .‬فإذا انعزل بذلك لم ينفذ حكمه ‪ ،‬لفقدان أهليه القضاء في كل ذلك ‪.‬‬
‫ومثل ذلك المرض المعجز عن القيام بواجب القضاء ‪.‬‬
‫‪-3‬الفسق وكذلك لو فسق القاضي فإنه ينعزل ول ينفذ حكمه لوجود‬
‫المنافي للولية ‪ ،‬وهذا في غير قاضي الضرورة وهو القاضي الفاسق‬
‫الذي يعينه سلطان ذو شوكة ‪.‬‬
‫وإذا زالت هذه العوارض التي ذكرناها ‪ ،‬والحوال اتي بيناها عن القاضي ‪ ،‬لم‬
‫تعد وليته ‪ ،‬لنه خرج عن منصبه ‪ ،‬ول يعود إليه إل بتنصيب جديد ‪ ،‬ولن‬
‫الشيء إذا بطل لم ينقلب إلي الصحة نفسه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬عزل القاضي من قبل المام ‪:‬‬
‫‪-1‬ويجوز للمام عزل القاضي إذا ظهر منه خلل ل يقتضي انعزاله ‪ :‬كما‬
‫إذا كثرت الشكاوي منه ‪ ،‬وقد روى أبو داود في باب ‪ :‬أن النبي‬
‫عزل إماما يصلى بقوم بصق في القبلة ‪ ،‬وقال ‪ " :‬ل يصلي بهم بعدها‬
‫أبدا " ‪ .‬فإذا جاز هذا في إمام الصلة ‪ ،‬جاز هذا في القاضي ‪ ،‬بل هو‬
‫أولي ‪.‬‬
‫‪-2‬ويجوز للمام عزله أيضا إذا وجد من هو أفضل منه تحصيلً لتلك‬
‫المزية للمسلمين ‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫‪-3‬ويجوز عزله إن كان هناك مثله ‪ ،‬أو دونه وكان في عزلة مصلحة‬
‫للمسلمين ‪ :‬كتسكين فتنة ‪ ،‬لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين‬
‫بالقضاء علي الفتنة ‪.‬‬
‫‪-4‬فإن لم يكن شيء من ذلك حرم عزله ‪ ،‬لن ذلك عبث منهي عنه ‪ ،‬لكنه‬
‫إن فعل ينفذ عزله إن وجد صالح للقضاء مكانه ‪ ،‬مراعاة لطاعة‬
‫المام ‪ ،‬فإن لم يوجد مكانه من يصلح للقضاء ‪ ،‬فإنه ل ينفذ العزل ‪،‬‬
‫لشدة الضرر في ذلك على مصالح المسلمين ‪.‬‬
‫متى يتم عزل القاضي ؟‬
‫‪-1‬ل ينعزل القاضي قبل بلوغه خبر عزله ‪ ،‬لعدم عمه بذلك ‪ ،‬وإنما يتم‬
‫عزله حين يبلغه خبر العزل ‪.‬‬
‫‪-2‬وإذا كتب المام إليه ‪ :‬إذا قرأت كتابي فأنت معزول ‪ ،‬فقرأه انعزل ‪،‬‬
‫وكذلك إذا قرئ عليه ‪ ،‬لنه بكل ذلك قد بلغه خبر العزل ‪ ،‬ول ولية له‬
‫بعد العزل ‪.‬‬
‫عزل القاضي نفسه ‪:‬‬
‫ويجوز للقاضي أن يعزل نفسه ‪ ،‬لنه كالوكيل عن المام ‪ ،‬والوكيل يصح له أن‬
‫يعزل نفسه عن الوكالة ‪ ،‬وكذلك القاضي ‪ .‬هذا إذا لم يتعين للقضاء ‪ ،‬أما إذا تعين‬
‫للقضاء ‪ ،‬ولم يوجد مكانه قاض آخر صالح للقضاء ‪ ،‬فإنه ل يجوز له عزل‬
‫نفسه ‪ ،‬ول ينعزل في هذه الحال ‪ ،‬لن القضاء في الحالة هذه فرض عليه ‪ ،‬ول‬
‫يجوز له تركه ‪.‬‬
‫عدم انعزال القاضي بموت المام ‪:‬‬
‫وإذا مات المام ‪ ،‬أو خرج من وليته ‪،‬فإن القاضي ل ينعزل ‪،‬لشدة الضرر ‪ ،‬في‬
‫تعطل القضاء‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫الباب السادس‬

‫ال ّدعَاوى و ال َبيّنات و الشهَادَات‬

‫‪183‬‬
‫الدّعَاوى والبَيّنات‬

‫تعريف الدعاوى ‪:‬‬


‫الدعاوَي بفتح الواو ‪ ،‬والدعاوي بكسر الواو ‪ ،‬جمع دعوى ‪ .‬والدعوى لغة‬
‫‪ :‬الطلب ‪ .‬قال ال تعالى ‪ ﴿ :‬ولم ما يدعون ﴾ (سورة يس ‪ )57 :‬أي ‪ :‬لهم ما‬
‫يطلبون ‪.‬‬
‫والدعوى شرعا ‪ :‬إخبار عن وجوب حق على الغير عند الحاكم‬
‫تعريف البيّنات ‪:‬‬
‫البيّنات ‪ :‬جمع بينة ‪ ،‬وهي ‪ :‬الحجة الواضحة ‪ ،‬من البيان ‪ ،‬وهو اليضاح‬
‫والكشف ‪.‬‬
‫سمّوا بذلك لن بهم يظهر الحق و يتضح ‪.‬‬
‫والبيئة شرعا ‪ :‬هم الشهود ُ‬
‫دليل مشروعية الدعاوي والبيّنات ‪:‬‬
‫يستدل على تشريع الدعوى والبينات بالقرآن والسنة ‪.‬‬
‫حكُمَ َب ْي َنهُمْ‬
‫أما القرآن فقول ال عز وجل ‪َ ﴿ :‬وإِذَا دُعُوا ِإلَى اللّهِ َورَسُولِهِ ِليَ ْ‬
‫إِذَا َفرِيقٌ ّم ْنهُم ّم ْعرِضُونَ﴾ (سورة النور ‪. )48 :‬‬
‫عوْنَ‬
‫وقوله تبارك وتعالى ‪َ ﴿ :‬ألَمْ َترَ ِإلَى الّذِينَ ُأ ْوتُواْ َنصِيبا مّنَ ا ْل ِكتَابِ يُدْ َ‬
‫حكُمَ َب ْي َنهُمْ ثُمّ َي َت َولّى َفرِيقٌ ّم ْنهُمْ وَهُم ّم ْع ِرضُونَ﴾ (سورة آل عمران‬
‫ِإلَى ِكتَابِ اللّهِ ِليَ ْ‬
‫‪. )23 :‬‬
‫‪ " :‬لو يعطي الناس بدعواهم لدعى ناس‬ ‫وأما الحديث ‪ ،‬فقول النبي‬
‫دماء رجالٍ وأموالهم ‪ ،‬ولكن اليمين على المدعي عليه " (رواه البخاري [‪]4277‬‬
‫في التفسير ‪ ،‬باب ‪ :‬إن الذين يشترون بعهد ال وأيمانهم ثمنا قليلً ومسلم [‪]1711‬‬
‫في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬اليمين على المدى عليه ‪ ،‬عن عبدال ن عباس رضي ال‬
‫عنهما) ‪.‬‬
‫وروي مسلم [‪ ]138‬في اليمان ‪ ،‬باب ‪ :‬وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين‬
‫فاجرة بالنار ‪ ،‬عن الشعث بن قيس رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬كان بيني وبين رجل‬

‫‪184‬‬
‫‪ ،‬فقال ‪ " :‬هل لك بينة ؟" فقلت ل ‪ .‬قال "‬ ‫أرض باليمن ‪ ،‬فخاصمته إلي النبي‬
‫فيمينه " ‪ .‬وفي رواية " شاهداك أو يمينه "‬
‫وروي الترمذي [‪ ]1341‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في أن البينة على‬
‫المدعي واليمين على المدعى عليه ‪ ،‬عن عبدال بن عمرو بن العاص رضي ال‬
‫قال في خطبته ‪ " :‬البينة على المدعى ‪ ،‬واليمين على‬ ‫عنهما ‪ ،‬أن رسول ال‬
‫المدعي عليه " ‪.‬‬
‫تعريف المدعي والمدعي عليه والفرق بينهما ‪:‬‬
‫المدعى ‪ :‬هو من خالف فوله الظاهر ‪.‬‬
‫والمدعى عليه ‪ :‬هو من وافق قوله الظاهر ‪.‬‬
‫والفرق بينهما أن المدعي يدعى حقا على المدعى عليه ‪ ،‬وقوله هذا مخالف‬
‫للظاهر ‪ ،‬وهو البراءة ‪ ،‬والمدعى عيه ينكر ذلك الحق ‪ ،‬والصل ـ وهو البراءة‬
‫ـ معه ‪.‬‬
‫حكمه كون البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه ‪:‬‬
‫الحكمة في ذلك ‪ :‬هي أن جانب المدعى ضعيف ‪ ،‬لكون دعواه خلف‬
‫الصل ‪ ،‬فكلف الحجة القوية ‪ ،‬وهي البينة ‪ ،‬وأن جانب المدعى عليه قوي ‪ ،‬لنه‬
‫متمسك بالصل ‪ ،‬وهو البراءة ‪ ،‬فاكتفي منه بالحجة الضعيفة ‪ ،‬وهي اليمين ‪.‬‬
‫وإنما كانت البينة قوية ‪ ،‬واليمين ضعيفة ‪ ،‬لن الحالف متهم في يمينه‬
‫بالكذب ‪ ،‬لنه يدفع عن نفسه ‪ ،‬بخلف الشاهد ‪ ،‬فإنه غير متهم ‪ ،‬لنه يشهد لغيره‬
‫كما جاء في الحديث الذي تقدم ذكره ‪ " :‬فأقضي له على نحو ما أسمع " ‪.‬‬
‫شروط صحة الدعوى ‪:‬‬
‫يشترط لصحة كل دعوى أمام القاضي ‪ ،‬سواء كانت دعوي دم ‪ ،‬أو غيره‬
‫‪ :‬كغصب وسرقة وإتلف ستة شروط ‪:‬‬
‫الشرط الول ‪ :‬أن تكون الدعوى معلومة ‪ ،‬وذلك بأن يفصل المدعى ما‬
‫يدعيه ‪ ،‬كأن يقول المدعى ‪ :‬إن فلنا قتل قريبي عمدا ‪ ،‬أو يقول ‪ :‬قتله خطأ وحده‬
‫أو اشترك مع فلن ‪ ،‬فلو أطلق ‪ ،‬وقال ‪ :‬هذا قتل قريبي ل تقبل دعواه ‪ ،‬لكن يسن‬
‫للقاضي أن يطلب منه أن يفصل دعواه ‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫وإنما وجب عليه أن يفصل دعواه ‪ ،‬لن الحكام تختلف باختلف‬
‫الحالت ‪ ،‬فحكم العمد غير حكم الخطأ مثلً ‪.‬‬
‫الشرط الثاني ‪ :‬أن تكون الدعوى ملزمة ‪ ،‬فل تسمع دعوى هبة مطلقة من‬
‫غير دعوى القباض ‪ ،‬كأن يقول المدعى ‪ :‬وهبني فلن مالً ‪ ،‬لن الهبة ل تلزم‬
‫إل بالقبض فلو قال المدعي ‪ :‬وهبني وقبضته بإذن الواهب ـ والهبة تلزم بالقبض‬
‫ـ فإن الدعوى تسمع عندئذ ‪ ،‬ويقبلها القاضي ‪.‬‬
‫الشرط الثالث ‪ :‬أن يعين المدعى في دعواه المدعي عليه ‪ ،‬واحدا كان أو‬
‫جمعا فلو قال عند القاضي ‪ :‬قتل قريبي أحد هؤلء الثلثة ‪ ،‬ل يقبل القاضي دعواه‬
‫حتى يعين المدعى عليه ‪ ،‬لوجود البهام في دعواه من غير تعيين ‪ .‬فلو طلب‬
‫المدعي من القاضي أن يحلفهم ل يحلفهم القاضي لعدم صحة الدعوي ‪.‬‬
‫الشرط الرابع ‪ :‬أن يكون المدعى مكلفا ‪ :‬أي بالغا عاقلً ‪ ،‬فل تسمع دعوى‬
‫صبي ول مجنون ‪.‬‬
‫الشرط الخامس ‪ :‬أن ل يكون المدعي أو المدعى عليه حربيا ‪ ،‬ل أمان‬
‫له ‪ ،‬فإن الحربي ل يستحق قصاصا ول غيره ‪ ،‬لن حقوقه مهدورة ‪.‬‬
‫الشرط السادس ‪ :‬أن ل تناقض الدعوى دعوى أخري ‪ ،‬فلو ادعى على‬
‫شخص أنه انفرد وحده بالقتل ‪ ،‬ثم ادعى على آخر انه شريكه ‪ ،‬أو انفرد وحده‬
‫أيضا بالقتل ‪ ،‬لم تسمع الدعوى الثانية ‪ ،‬لما فيها من تكذيب الدعوى الولي‬
‫ومناقضتها ‪ ،‬إل إذا صدقه المدعى عليه الثاني ‪ ،‬فإنه يؤخذ بإقراره ‪ ،‬وتسمع‬
‫الدعوى عليه ‪ ،‬فإذا استوفت الدعوى هذه الشروط كلها صحت وسمعها القاضي ‪،‬‬
‫ثم سأل المدى البينة بعد ذلك على صحة دعواه ‪ ،‬فإن أثبتها حكم له بمدعاه ‪.‬‬
‫ما يتوقف فيه الحكم على الدعوى وما ل يتوقف ‪:‬‬
‫أفعال المكلفين من حيث تعلق الحكام الشرعية بها أربعة أقسام ‪:‬‬
‫القسم الول ‪ :‬أحكام شرعت والمقصود بها مصلحة المجتمع ‪ ،‬فحكمها أنها حق‬
‫خالص ل تعالى ‪ ،‬وليس للمكلف فيها خيار ‪ ،‬وتنفيذ هذه الحكام عائد إلي ولي‬
‫المر ‪ ،‬ول يتوقف الحكم فيها على دعوى عند القاضي ‪ .‬ومثالها ‪:‬‬

‫‪186‬‬
‫‪-1‬العبادات المحضة كالصلة والصيام والحج وما تستند‬
‫إليه هذه العبادات ‪ ،‬من اليمان والسلم ‪ ،‬فإن هذه‬
‫العبادات إنما قصد بتشريعها إقامة الدين ‪ ،‬وإقامته‬
‫ضروري لنظام المجتمع ‪.‬‬
‫‪-2‬العبادات التي فيها معنى المؤونة ‪ ،‬كالزكاة وصدقة‬
‫الفطر ‪ ،‬فإنها عبادة من جهة أن المكلف يتقرب بها إلي‬
‫ال تعالى ‪ ،‬وفيها معنى الضريبة على المال أو النفس‬
‫من جهة أخري ‪.‬‬
‫‪-3‬الضرائب التي فرضت على الرض الزراعية ‪ ،‬سواء‬
‫كانت عشرية أو خراجية ‪ ،‬فإن المقصود من هذه‬
‫الضرائب صرفها في مصالح المجتمع ‪.‬‬
‫‪-4‬الضرائب التي فرضت فيما يغنم بالجهاد ‪ ،‬أو فيما يوجد‬
‫في باطن الرض من الكنوز والمعادن ‪.‬‬
‫‪-5‬أنواع من العقوبات الكاملة ‪ ،‬وهو حد الزنى ‪ ،‬وحد‬
‫السرقة ‪ ،‬وحد البغاة الذين يحاربون ال ورسوله ‪،‬‬
‫ويسعون في الرض فسادا ‪.‬‬
‫‪-6‬نوع من العقوبات القاصرة ‪ ،‬وهي حرمان القاتل من‬
‫الميراث ‪ ،‬وسميت قاصرة ‪ ،‬لنها ليست بعقوبات جسدية‬
‫‪ ،‬ول مالية ‪ ،‬وإنما هي منع له من حق كان يستحقه لو‬
‫لم يقتل ‪.‬‬
‫‪-7‬عقوبات فيها معنى العبادة ‪ :‬ككفارة اليمين والظهار‬
‫والقتل الخطأ ‪ ،‬فإن فيها معنى العبادة ‪ ،‬لنها تؤدي بما‬
‫هو عبادة من صوم وصدقة و تحرير رقبة‪.‬‬
‫فهذه النواع حق خالص ل تعالى ‪ ،‬وإنما كان تشريعها لتحقيق مصالح‬
‫الناس العامة ‪ ،‬فل يملك المكلف أن يسقط منها شيئا ‪ ،‬لن المكلف ل يملك أن‬

‫‪187‬‬
‫يسقط إل حق نفسه ‪ ،‬وهذه ليست له ‪ ،‬وإنما هي من حقوق ال تعالى ‪ ،‬ول يتوقف‬
‫الحكم فيها على دعوى من المكلف أمام القضاء ‪ ،‬كما أسلفنا ‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬أحكام شرعت وكان المقصود بها مصلحة المجتمع والمكلف‬
‫معا ‪ ،‬غير أن مصلحة المجتمع فيها أظهر ‪ ،‬فحق ال فيها غالب ‪.‬‬
‫وحكم هذا القسم ‪ ،‬كحكم ما هو حق خالص ل تعالى ‪ ،‬ل يملك المكلف‬
‫إسقاطه ‪ ،‬ول يتوقف الحكم فيه على دعوي أمام القضاء ‪.‬‬
‫القسم الثالث ‪ :‬أحكام شرعت ‪ ،‬وكان المقصود بها مصلحة المكلف‬
‫خاصة ‪ ،‬فحكمها حق خالص لمكلف ‪ ،‬مثال ذلك تضمين من أتلف مالً بمثله أو‬
‫قيمته ‪ ،‬وهذا حق خالص لصاحب المال ‪ .‬وحبس العين المرهونة حق خالص‬
‫للمرتهن ‪ .‬واقتضاء الدين حق خالص للدائن ‪.‬‬
‫فالشارع الحكيم أثبت هذه الحقوق لصحابها ‪ ،‬وجعل لهم الخيرة في‬
‫أمرها ‪ ،‬فإن شاؤوا استوفوها ‪ ،‬وإن شاؤوا أسقطوها ويتوقف الحكم فيها على‬
‫دعوى عند القاضي ‪ ،‬وليس للقاضي أن يتبرع بإقامة الدعوى نيابة عنهم بغير‬
‫دعواهم ‪.‬‬
‫القسم الرابع ‪ :‬أحكام شرعت وكان المقصود بها مصلحة المكلف والمجتمع‬
‫غير أن مصلحة المكلف فيها أظهر وأغلب ‪ .‬وحكم هذا القسم كحكم القسم الثالث ‪،‬‬
‫وهو ما كان حقا خالصا للمكلف ‪ ،‬ومثاله القصاص من القاتل عمدا ‪ ،‬وحدٌ القذف‬
‫من القاذف ‪ ،‬فل بد لستيفائها والحكم بهما من إقامة دعوى عند القاضي ‪.‬‬
‫يقول المام النووي رحمه ال تعالى ‪ ،‬في متن المنهاج ‪ ( :‬تشترط الدعوى‬
‫عند قاض في عقوبة كقصاص وقذف ‪ ،‬فلولي الدم أن يعفو عن القصاص ‪ ،‬وله‬
‫أن يسامح بالدية ‪ .‬وكذلك للمقذوف أو المقذوفة أن يسقط حقه في الحد ويسامح‬
‫به)‪.‬‬
‫وبعض العلماء يجعل حد القذف مما غلب فيه حق ال تعالى ‪ ،‬فل يتوقف‬
‫فيه الحكم على دعوى ‪ ،‬ول يملك المقذوف أو المقذوفة حق إسقاطه والعفو عن‬
‫القاذف إذا ثبت القذف عند القاضي ل يشترط لقامة حده دعوى عنده ‪.‬‬
‫بيان أن البينة علي المدعى واليمين على من أنكر ‪:‬‬

‫‪188‬‬
‫قلنا ‪ :‬إن البينة إنما هي الشهود وسموا بذلك لن الحق يستبين بشهادتهم‬
‫ويظهر ‪ ،‬وإنما يكلف بإقامة البينة المدعى ‪ ،‬الذي يدعي حقا على غيره ليثبت‬
‫دعواه ‪ ،‬وإنما جعلت البينة عليه لن جانبه ضعيف ‪ ،‬إذ إنه يدعى خلف الصل ‪،‬‬
‫إذ الصل في الناس براءة ذممهم حتى تثبت إدانتهم ‪ .‬لذلك كلف المدعى بالبينة ‪،‬‬
‫وهي حجته في ثبوت حقه ‪.‬‬
‫واليمين وهو الحلف بال تعالى ‪ ،‬أو بصفة من صفاته ‪ ،‬وقد جعله الدين‬
‫على المدعى عليه ‪ ،‬ينفي به الدعوى عن نفسه ‪ ،‬وإنما كلف المدعى عله باليمين ‪،‬‬
‫لن جانبه قوي ‪ ،‬إذ هو مؤيد بالبراءة الصلية ‪ :‬كما قلنا ‪ ،‬فاكتفي منه باليمين ‪،‬‬
‫وهو حجة ضعيفة ‪.‬‬
‫‪ " :‬البينة‬ ‫ودليل هذا التوزيع بين المدعى والمدعى عليه ‪ ،‬قول النبي‬
‫على المدعى واليمين علي من أنكر " ‪( .‬رواه البيهقي ) [‪ ]8/123‬في القسامة ‪.‬‬
‫وقد سبق حديث البخاري [‪ ]4277‬ومسلم [‪ ]1711‬عن ابن عباس رضي‬
‫ال عنهما ‪ ... " :‬ولكن اليمين على المدعى عليه " ‪.‬‬
‫وحديث مسلم [‪ ]138‬عن عبدال بن عمرو بن العاص رضي ال عنهما ‪" :‬‬
‫البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه " ‪ .‬وقد مر تخريج هذه الحاديث ‪.‬‬
‫فإذا أقام المدعى البينة على دعواه ‪ ،‬حكم له القاضي ‪ ،‬وليس له أن يطلب‬
‫من المدعى عليه أن يحلف على نفي الدعوى ‪ ،‬وليس للمدعي عليه أن يطلب من‬
‫القاضي أن يحلف المدعى بعد إقامة البينة ‪ ،‬لن في ذلك تكليف المدعى أن يقيم‬
‫حجة بعد حجة ‪.‬‬
‫عجز المدعي عن إقامة البينة ‪:‬‬
‫إذا عجز المدعى أن يقيم البينة على ما يدعيه ‪ ،‬بأن لم يكن له بينة ‪ ،‬أو أن‬
‫الشهود ماتوا مثلً ‪ ،‬فإن القاضي يطلب من المدعى عليه أن يحلف على نفي ما‬
‫يدعيه المدعى ‪ ،‬فإن حلف حكم القاضي ببراءته ‪.‬‬
‫امتناع المدعى عليه من حلف اليمين ‪:‬‬
‫إذا لم يكن للمدعى بينة ‪ ،‬وامتنع المدعى عليه من اليمين ‪ ،‬ردت اليمين‬
‫على المدعى ‪ ،‬فيطلب منه القاضي ‪ ،‬أن يحلف على مدعاه ‪ ،‬فإذا حلف استوجب‬

‫‪189‬‬
‫‪ ،‬فقد رد اليمين إلي المدعى ‪.‬‬ ‫ما يدعيه وحكم له به القاضي عملً بفعل النبي‬
‫رد اليمين‬ ‫روي الحاكم [‪ ]4/100‬عن ابن عمر رضي ال عنهما قال ‪ :‬إن النبي‬
‫على طالب الحق ‪.‬‬
‫حكم يمين الرد كالقرار ‪:‬‬
‫ويمين الرد ‪ ،‬وهي ـ كما قلنا ـ يمين المدعي بعد نكول خصمه ‪ ،‬كإقرار‬
‫الخصم ‪ ،‬ل كالبينة ‪ ،‬لنه قد توصل باليمين بعد نكول المدعى عليه إلي الحق ‪،‬‬
‫فأشبه إقراره به ‪ ،‬فيجب الحق للمدعى بعد فراغه من اليمين من غير افتقار إلي‬
‫حكم كالقرار ‪ ،‬ول تسمع بعدها حجة بمسقط ‪ ،‬أو إبراء ‪ ،‬لتكذيبه لها بنكوله عن‬
‫اليمين ‪ ،‬لن نكوله كالقرار ‪ ،‬كما مر ‪.‬‬
‫امتناع المدعي عن اليمين ‪:‬‬
‫إذا امتنع المدعى عن اليمين بعد إذ ردها إليه القاضي ول عذر له سقط‬
‫حقه ‪ ،‬لعراضه عن اليمين ‪.‬‬
‫ويسن للقاضي أن يبين حكم النكول للجاهل له ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬إن نكلت عن‬
‫اليمين حلف المدعى وأخذ منك الحق ‪ ،‬أو يقول للمدعى إن امتنعت عن يمين الرد‬
‫سقط حقك ‪ ،‬فإن لم يبين لهما وحكم لمجرد النكول نفذ حكمه ‪ ،‬وكان المدعى أو‬
‫المدعى عليه مقصرا بترك البحث عن حكم النكول ‪.‬‬
‫سكوت المدعى عليه ‪:‬‬
‫إذا أصر المدعي عليه على السكوت عن جواب الدعوى لغير عذر ‪ ،‬جعل‬
‫كمنكر للمدعى به ‪ ،‬وجعل أيضا ناكلً عن اليمين ‪ ،‬وترد اليمين على المدعى ‪.‬‬
‫بيان النكول ‪:‬‬
‫النكول لغة ‪ :‬مأخوذ من نكل عن العدو ‪ ،‬وعن اليمين إذا جبن ‪.‬‬
‫والنكول شرعا ‪ :‬أن يقول المدعى عليه ‪ :‬أنا ناكل ‪ ،‬أو يقول له القاضي ‪:‬‬
‫احلف فيقول ‪ :‬ل أحلف ‪ ،‬أو يصر على السكوت ‪،‬كما مر ‪.‬‬
‫إذا ادعى اثنان شيئا ‪:‬‬
‫إذا ادعى شخصان شيئا ‪ ،‬كأرض مثلً ‪ ،‬فادعى كل واحد منهما أنها له ‪،‬‬
‫ول بينة لحدهما ‪ ،‬فإن كانت الرض في يد أحدهما ‪ ،‬فالقول قول صاحب اليد‬

‫‪190‬‬
‫بيمينه ‪ ،‬فيحلف على أنها له ‪ ،‬ويستحقها ‪ ،‬عملً بالصل ‪ ،‬واستصحاب الحال ‪،‬‬
‫فإن وجودها بيده يرجح أنها ملكه ‪ ،‬حيث ل بينة تخالفه ‪ ،‬لن الصل أن ل تدخل‬
‫في يديه إل بسبب مشروع ‪ ،‬وإن كانت في أيديهما ‪ ،‬ول بينة كما قلنا لحدهما ‪،‬‬
‫تحالفا ‪ ،‬وجعلت الرض بينهما ‪.‬‬
‫ومعنى تحالفا ‪ :‬أي حلف كل منهما على نفي أن تكون الرض ملكا‬
‫للخر ‪ ،‬ودليل ذلك ما رواه أبو داود [‪ ]3613‬عن أبي موسى الشعري رضي ال‬
‫‪ ،‬ليست لواحد منهما بينة ‪،‬‬ ‫عنهما ‪ :‬أن رجلين ادعيا بعيرا أو دابة إلي النبي‬
‫بينهما ‪ ،‬ورواه الحاكم أيضا [‪ ]4/95‬وقال ‪ :‬هذا حديث صحيح ‪.‬‬ ‫فجعله النبي‬
‫البينات وأنواعها ‪:‬‬
‫لقد سبق تعريف البينات ‪ ،‬ودليل مشروعيتها ‪ ،‬في أول بحث الدعاوي‬
‫والبينات ‪.‬‬
‫والبينات أنواع ‪ :‬فقد تكون البينة شاهدين ذكرين ‪ ،‬وقد تكون رجلً‬
‫وامرأتين ‪ ،‬وقد تكون شاهدا ويمينا ‪ ،‬وقد تكون أربع نسوة ‪ ،‬وقد تكون أربعة جال‬
‫‪ ،‬وسنفصل هذا في بحث الشهادات‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫الشهــادات‬
‫تعريف الشهادات ‪:‬‬
‫الشهادات جمع شهادة ‪ ،‬من الشهود بمعني الحضور ‪.‬‬
‫والشهادة لغة ‪ :‬الخبر القاطع ‪.‬‬
‫والشهادة شرعا ‪ :‬إخبار عن شيء بلفظ خاص ‪.‬‬
‫دليل مشروعية الشهادة ‪:‬‬
‫الشهادة مشروعة بنص القرآن والسنة ‪ ،‬وإجماع المة ‪.‬‬
‫أما القرآن فقول ال عز وجل ‪ ﴿ :‬واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾ (سورة البقرة‬
‫‪ )282 :‬وقوله تبارك وتعالى ‪ ﴿ :‬ول تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه‬
‫﴾ (سورة البقرة ‪. )283:‬‬
‫وأما السنة ‪ ،‬فما رواه مسلم [‪ ]138‬في اليمان ‪،‬باب ‪ :‬وعيد من اقتطع حق‬
‫مسلم بيمين فاجرة بالنار ‪ ،‬عن الشعث بن قيس رضي ال عنه قال ‪ :‬كان بيني‬
‫فقال ‪ " :‬شاهداك أو‬ ‫وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلي رسول ال‬
‫يمينه " ‪.‬‬
‫وأما الجماع ‪ ،‬فهو منعقد علي مشروعية الشهادة ‪ ،‬واستحبابها ‪ ،‬ولم‬
‫يخالف بذلك أحد من العلماء ‪.‬‬
‫حكمة تشريع الشهادة ‪:‬‬
‫والحكمة من تشريع الشهادة صيانة الحقوق ‪ ،‬وإثباتها ‪ ،‬فلو لم تشرع‬
‫الشهادة لمكن أن يضيع كثير من الحقوق ‪ ،‬ويتعذر إثباتها لصحابها ‪ ،‬وهذا ينافي‬
‫غرض السلم وحرصه على أن يصل كل إنسان إلي حقه ‪ ،‬من غير نزاع ول‬
‫صراع ‪ ،‬فكان تشريع الشهادة تلبية إذا لحاجة مقصودة ‪ ،‬ومصلحة أكيدة ‪.‬‬
‫اختلف الشهادات من حيث عدد الشهود ‪:‬‬
‫الحقوق المشهود بها نوعان ‪ :‬حق ال ‪ ،‬وحق العباد ‪.‬‬
‫النوع الول ‪ :‬حق ال تعالي ‪:‬‬

‫‪192‬‬
‫وهذا النوع من الحقوق ل يقبل فيه شهادة النساء ‪ ،‬بل ل بد فيه من شهادة‬
‫الرجال ‪ ،‬لن شهادة النساء ل تخلو من شبهة النسيان والخطأ ‪ ،‬وهذه حقوق يؤخذ‬
‫فيها بالحتياط ‪.‬‬
‫وحقوق ال هذه ثلثة أضرب ‪:‬‬
‫الضرب الول ‪ :‬ل يقبل فيه أقل من أربعة شهود ‪ ،‬وهو الزنى ‪ .‬قال ال‬
‫جلِدُوهُمْ َثمَانِينَ‬
‫شهَدَاء فَا ْ‬
‫حصَنَاتِ ثُمّ لَمْ َي ْأتُوا ِبَأ ْر َبعَةِ ُ‬
‫تعالى ‪ ﴿ :‬وَالّذِينَ َي ْرمُونَ ا ْلمُ ْ‬
‫جلْ َدةً ﴾ (سورة النور ‪ )4:‬فقد رتب سبحانه وتعالى الجلد على عدم التيان بأربعة‬
‫َ‬
‫شهداء ‪ ،‬فدل بذلك على أن الزني ل يثبت بأقل منهم ‪.‬‬
‫عَل ْيهِنّ َأ ْربَعةً‬
‫شهِدُواْ َ‬
‫ستَ ْ‬
‫لتِي َي ْأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآ ِئكُمْ فَا ْ‬
‫وقال تعالى ‪ ﴿ :‬وَال ّ‬
‫مّنكُمْ﴾ (سورة النساء ‪. ) 15 :‬‬
‫شهَدَاء َفإِذْ‬
‫عَليْهِ بَِأ ْر َبعَةِ ُ‬
‫وقال عز من قائل ‪ ،‬في حادثة الفك ‪ْ َ ﴿ :‬ولَا جَاؤُوا َ‬
‫شهَدَاء فَُأ ْوَل ِئكَ عِن َد اللّهِ هُمُ ا ْلكَا ِذبُونَ ﴾ (سورة النور ‪. )13 :‬‬
‫لَمْ يَ ْأتُوا بِال ّ‬
‫دل ذلك على أن نصاب الشهادة في الزني أربعة من الذكور ‪.‬‬
‫وبيّن هذا حديث مسلم [‪ ]1498‬في كتاب اللعان ‪ ،‬أن سعد بن عبادة رضي‬
‫‪ " :‬نعم " ‪ ،‬قال ‪ :‬كل والذي بعثك بالحق ‪ ،‬إن‬ ‫ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬يا رسول ال‬
‫" اسمعوا إلي ما يقول‬ ‫كنت لعاجلنه بالسيف قبل ذلك ‪ ،‬قال رسول ال‬
‫سيدكم ‪ ،‬إنه لغيور ‪ ،‬وأنا أغير منه ‪ ،‬وال أغير مني " ‪ .‬وقال ذلك عندما نزل ‪﴿ :‬‬
‫والذين يرمون المحصنات ‪ ﴾ ....‬ثم نزلت آيات اللعان فسحة للزواج ‪.‬‬
‫الحكمة من وجود أربعة شهداء في الزنى‪:‬‬
‫الحكمة من طلب أربعة شهداء على ثبوت حد الزني ‪ ،‬أن الزني لما كان‬
‫يقوم بين اثنين ‪ :‬الرجل والمرأة ‪ ،‬صار كالشهادة على فعلين ‪ ،‬فاحتاج إلي أربعة‬
‫من الشهود ‪.‬‬
‫وكذلك فإن الزني من أغلظ الفواحش ‪ ،‬فغلظت الشهادة فيه ليكون أستر‬
‫على الناس ‪ .‬وإنما تقبل شهادة الشهود في الزني ‪ ،‬إذا قالوا ‪ :‬حانت منا التفاته‬
‫فرأينا ذلك كاملً ‪ ،‬أو قالوا ‪ :‬إنا تعمدنا النظر لداء الشهادة ‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫الضرب الثاني ‪ :‬وهذا يقبل فيه رجلن اثنان ‪ ،‬وهو ما سوى الزني من‬
‫حقوق ال عز وجل ‪ ،‬مثل الردة ‪ ،‬وقطع الطريق ‪ ،‬وقتل النفس ‪ ،‬والسرقة ‪،‬‬
‫وشرب الخمر ‪.‬‬
‫ودليل ذلك عموم قوله تعالى ‪ ﴿ :‬واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾ (سورة‬
‫البقرة ‪ . )282:‬وقوله عز وجل ‪ ﴿ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم ﴾ (سورة الطلق ‪:‬‬
‫‪ " :‬شاهداك أو يمينه " ‪ ( .‬رواه مسلم ‪. ) ]138[ :‬‬ ‫‪. )2‬وقوله‬
‫وقول الزهري ‪ ( :‬مضت السنة بأنه ل يجوز شهادة النساء في الحدود ) ‪.‬‬
‫الضرب الثالث ‪ :‬وهذا يقبل فيه شهادة رجل واحد ‪ ،‬وهو هلل رمضان‬
‫بالنسبة للصوم ‪ ،‬وذلك احتياطا له ‪ .‬إذ الخطأ في فعل العبادة أقل مفسدة من الخطأ‬
‫في تركها ‪ ،‬ولذلك ل يقبل في هلل شوال أقل من شاهدين رجلين ‪.‬‬
‫روي أبو داود [‪ ]2342‬في الصوم ‪ ،‬باب ‪ :‬شهادة الواحد على رؤية هلل‬
‫رمضان ‪ ،‬عن أبي عمر رضي ال عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬تراءي الناس الهلل ‪ ،‬فأخبرت‬
‫أني رايته فصامه وأمر الناس بصيامه ‪.‬‬ ‫رسول ال‬
‫النوع الثاني ‪ :‬حق العباد ‪:‬‬
‫وهذا النوع أيضا على ثلثة أضرب ‪:‬‬
‫الضرب الول ‪ :‬ل يقبل فيه إل شهادة رجلين ‪ ،‬وهو مال يقصد منه المال ‪،‬‬
‫ويكون مما يطلع عليه الرجال ‪ :‬كالطلق ‪ ،‬والرجعة ‪ ،‬والسلم والردة ‪ ،‬والجرح‬
‫‪ ،‬والتعديل ‪ ،‬والوقف والوصية ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ودليل ذلك أن الشريعة نصت علي شهادة الرجلين في النكاح والطلق‬
‫والوصية ‪ ،‬وقيس عليها ما لم يذكر فيها نص ‪ ،‬مما هو مثلها من كل حق لدمي‬
‫سكُوهُنّ ِب َم ْعرُوفٍ َأوْ فَارِقُوهُنّ‬
‫ل يقصد به المال ‪ .‬قال تعالى ‪ ،‬في الطلق ‪ ﴿ :‬فََأمْ ِ‬
‫شهِدُوا َذ َويْ عَدْلٍ مّنكُمْ ﴾ (سورة الطلق ‪)2 :‬‬
‫ِب َم ْعرُوفٍ َوأَ ْ‬
‫ضرَ‬
‫ح َ‬
‫شهَا َدةُ َب ْي ِنكُمْ إِذَا َ‬
‫وقال عز وجل في الوصية ‪ ﴿ :‬يِا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ َ‬
‫صيّةِ ا ْثنَانِ َذوَا عَدْلٍ مّنكُمْ ﴾ (سورة المائدة ‪. )106 :‬‬
‫أَحَ َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ حِينَ ا ْلوَ ِ‬
‫في الزواج ‪ " :‬ل نكاح إل بولي ‪ ،‬وشاهدي عدل " ‪.‬‬ ‫وقال رسول ال‬
‫(رواه الشافعي في مسنده ‪ ،‬وقال المام أحمد رحمه ال تعالى ‪ :‬إنه اصح شيء في‬

‫‪194‬‬
‫الباب ـ انظر ‪ :‬مغني المحتاج ‪ 3/155‬ـ ورواه ابن حبان [‪ ]1247‬وقال ‪ :‬ل‬
‫يصح في ذكر الشاهدين غيره ) ‪.‬‬
‫وقال الزهري رحمه ال ‪ :‬مضت السنّة بأن ل يجوز شهادة النساء في‬
‫الحدود ول في النكاح والطلق ‪.‬‬
‫الضرب الثاني ‪ :‬يقبل فيه شاهدان رجلن ‪ ،‬أو رجل وامرأتان ‪ ،‬أو شاهد‬
‫ويمين المدعى ‪ ،‬وهو كل حق كان القصد منه المال ‪ ،‬من عين أو دين أو منفعة ‪،‬‬
‫كالبيع ‪ ،‬والقالة ‪ ،‬والحوالة ‪ ،‬والضمان ‪ ،‬والجارة ‪ ،‬والرهن ‪ ،‬والشفعة ‪،‬‬
‫ونحوهما ‪.‬‬
‫شهِي َديْنِ من رّجَاِلكُمْ فَإِن لّمْ‬
‫شهِدُواْ َ‬
‫ستَ ْ‬
‫ودليل ذلك قول ال عز وجل ‪ ﴿ :‬وَا ْ‬
‫شهَدَاء أَن َتضِلّ إْحْدَا ُهمَا َفتُ َذ ّكرَ‬
‫ضوْنَ مِنَ ال ّ‬
‫جَليْنِ َفرَجُلٌ وَا ْم َرَأتَانِ ِممّن َترْ َ‬
‫َيكُونَا رَ ُ‬
‫خرَى ﴾ ( سورة البقرة ‪. )282 :‬‬
‫إِحْدَا ُهمَا الُ ْ‬
‫وروي مسلم [‪ ]1712‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬القضاء باليمين والشاهد ‪ ،‬عن‬
‫قضى بيمين وشاهد ‪ .‬وفي مسند‬ ‫ابن عباس رضي ال عنهما ‪ ،‬أن رسول ال‬
‫الشافعي ‪ :‬قال عمرو ـ أي ابن دينار راويه عن ابن عباس ـ ‪ :‬في الموال ‪.‬‬
‫[ الم ‪ 6/156 :‬هامش ] ‪ .‬وقيس ما ذكر غيرها من كل حق فيه مال ‪.‬‬
‫الضرب الثالث ‪ :‬يقبل فيه شهادة رجلين ‪ ،‬أو شهادة رجل وامرأتين ‪ ،‬أو‬
‫أربع نسوة ‪ ،‬وذلك في كل حق للدمي ل يطلع عليه الرجال غالبا ‪ ،‬وذلك مثل‬
‫الولدة ‪ ،‬والرضاعة ‪ ،‬والبكارة ‪ ،‬وعيوب النساء ‪.‬‬
‫ودليل ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن الزهري رحمه ال تعالى ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫مضت السنة بأنه يجوز شهادة النساء فيما ل يطلع عليه غيرهن ‪ ،‬من ولدة النساء‬
‫وعيوبهن ‪ [ .‬القناع‪. ]2/297 :‬‬
‫ومثل هذا القول من التابعي حجة ‪ ،‬لنه في حكم الحديث المرفوع ‪ ،‬إذ ل‬
‫يقال مثله من قبيل الرأي والجتهاد ‪ .‬وقيس بما ذكر غيره مما يشاركه في معناه‬
‫وضابطه ‪ ،‬واشترط العدد لن الشارع جعل شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد ‪،‬‬
‫وإذا قبلت شهادة النساء منفردات في شؤونهن ‪ ،‬فقبولها مع اشتراك رجل ‪،‬‬

‫‪195‬‬
‫وامرأتين أولي ‪ ،‬لن الصل في الشهادة الرجال ‪ ،‬وكذلك إذا انفرد الرجال‬
‫بالشهادة ‪.‬‬
‫تنبيه ‪:‬‬
‫قال العلماء ‪ :‬ل تقبل شهادة على فعل من الفعال ‪ ،‬كالزنى وشرب الخمر‬
‫ونحوهما ‪ ،‬إل بالبصار والمعاينة لذلك الفعل مع فاعله ‪ ،‬لنه بذلك يصل به إلي‬
‫العلم اليقين ‪ ،‬فل يكفي فيه السماع من الغير ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ ﴿ :‬وَلَ تَ ْقفُ مَا َل ْيسَ‬
‫علْمٌ ﴾ (سورة السراء‪. )36:‬‬
‫َلكَ بِهِ ِ‬
‫إل أنه في الحقوق اكتفي فيها بالنظر المؤكد ‪ ،‬لتعذر اليقين فيها ‪ ،‬والحاجة‬
‫تدعو إلي إثباتها ‪ ،‬كالعدالة والعسار ‪ ،‬فل سبيل لمعرفة ذلك يقينا ‪ ،‬فاكتفي فيه‬
‫بغلبة الظن ‪.‬‬
‫شروط الشهادة ‪:‬‬
‫الشهادة قسمان ‪ :‬شهادة تحمل ‪ ،‬وشهادة أداء ‪.‬‬
‫أولً ـ شروط تحمل الشهادة ‪:‬‬
‫ل يشترط عند تحمل الشهادة إل شرط واحد ‪ ،‬أل وهو التمييز ‪ ،‬لنه به‬
‫يعي النسان ما شاهده ‪ ،‬ويحفظ ما يراه ‪.‬‬
‫ثانيا ـ شروط أداء الشهادة ‪:‬‬
‫يشترط في الشاهد عند أداء الشهادة الشروط التالية ‪:‬‬
‫‪-1‬السلم ‪ ،‬فل تقبل شهادة كافر على مسلم ‪ ،‬ول على كافر ‪ .‬ودليل‬
‫شهِي َديْنِ من رّجَاِلكُمْ ﴾ (سورة‬
‫شهِدُواْ َ‬
‫ستَ ْ‬
‫ذلك قول ال تعالي ‪ ﴿ :‬وَا ْ‬
‫شهِدُوا‬
‫البقرة ‪ )282 :‬والكافر ليس من رجالنا ‪ .‬وقال تعالى ‪َ ﴿ :‬وأَ ْ‬
‫َذ َويْ عَدْلٍ مّنكُمْ ﴾ (سورة الطلق ‪ )2 :‬والكافر ليس بعدل ‪ ،‬كما أنه‬
‫ليس منا أيضا ‪ ،‬لنه ل يؤمن كذبه ‪ ،‬وأيضا فالشهادة ولية ‪ ،‬ول‬
‫ولية للكافر ‪.‬‬
‫‪-2‬البلوغ ‪ ،‬فل تقبل شهادة الصبي ‪ ،‬ولو مميزا ‪ ،‬لن ال عز وجل قال ‪:‬‬
‫﴿ من رجالكم ﴾ والصبي لم يبلغ مبلغ الرجال ‪ ،‬ولنه ل يؤمن كذبه ‪،‬‬
‫لنه غير مكلف ‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫‪-3‬العقل ‪ ،‬فل تقبل الشهادة من مجنون ‪ ،‬لعدم معرفته بما يقول ‪،‬‬
‫وللجماع أيضا على عدم جواز شهادته ‪.‬‬
‫‪-4‬الحرية ‪ ،‬فل تقبل شهادة العبد ‪ ،‬لن الشهادة فيها معنى الولية ‪،‬‬
‫والعبد مسلوب الولية ‪.‬‬
‫‪-5‬العدالة ‪ ،‬فل تقبل شهادة الفاسق ‪ ،‬لقوله تعالي ‪ ﴿ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا‬
‫إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ ِب َنبَأٍ َف َت َب ّينُوا ﴾ (سورة الحجرات ‪ ، )6 :‬ولقوله عز‬
‫وجل ‪﴿:‬واستشهدوا ذوي عدل منكم ﴾ (سورة الطلق ‪ ، )2 :‬وقوله‬
‫تبارك وتعالى ‪ ﴿ :‬ممن ترضون من الشهداء ﴾ (سورة البقرة ‪)282:‬‬
‫وغير العدل ممن ل يرضي ول يؤمن كذبه ‪.‬‬
‫‪-6‬أن يكون غير متهم في شهادته ‪ ،‬لقول ال عز وجل ‪ ﴿ :‬ذلكم اقسط‬
‫عند ال وأقوم للشهادة وأدني أن ل ترتابوا ﴾ (سورة البقرة ‪)282 :‬‬
‫والريبة حاصلة بالمتهم ‪.‬‬
‫وبناء على ذلك ل تقبل شهادة عدو على عدوه ‪ ،‬ول شهادة والد‬
‫لولده ‪ ،‬ول والد لوالده ‪ ،‬لتهمة التحامل على العدو ‪ ،‬والمحاباة للوالد ‪ ،‬أو‬
‫الولد ‪.‬‬
‫روي أبو داود [‪ ]3600‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬من ترد شهادته ‪ ،‬عن‬
‫‪":‬‬ ‫عبدال بن عمرو بن العاص رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫ل تجوز شهادة خائن ‪ ،‬ول خائنة ‪ ،‬ول زان ول زانية ‪ ،‬ول ذي غمر على‬
‫أخيه "‪.‬‬
‫وفي رواية عند الترمذي [‪ ]2299‬في الشهادات ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء‬
‫فيمن ل تجوز عن عائشة رضي ال عنها ‪ " :‬ول ظنين في ولء ول‬
‫قرابة"‪.‬‬
‫وعند مالك [‪ ]2/720‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في الشهادات ‪ ،‬عن أنس‬
‫رضي ال عنه بلغا ‪ " :‬ل تجوز شهادة خصم ول ظنين " ‪.‬‬
‫[ الغمر ‪ :‬الحقد والغل والشحناء ‪ .‬الظنين ‪ :‬المتهم ]‬

‫‪197‬‬
‫‪-7‬أن يكون ناطقا ‪ ،‬فل تقبل شهادة الخرس ‪ ،‬وإن كانت إشارته مفهمة ‪،‬‬
‫احتياطيا في إثبات الحقوق ‪.‬‬
‫‪-8‬أن يكون الشاهد يقظا ‪ ،‬فل تقبل شهادة المغفل لحتمال الخطأ والغلط‬
‫في شهادته‬
‫شروط العدالة في الشهادة ‪:‬‬
‫للعدالة في الشاهد خمسة شروط ‪:‬‬
‫‪-1‬أن يكون مجتنبا للكبائر ‪.‬‬
‫‪-2‬غير مصر على القليل من الصغائر ‪.‬‬
‫‪-3‬سليم السريرة ‪.‬‬
‫‪-4‬مأمونا عند الغضب ‪.‬‬
‫‪-5‬محافظا على مروءة مثله ‪.‬‬
‫فالكبائر من الذنوب ‪ :‬هي كل ما ورد فيه وعيد شديد في كتاب أو سنة ‪ ،‬ودل‬
‫ارتكابه على تهاون في الدين ‪ :‬كشرب الخمر ‪ ،‬والتعامل بالربا ‪ ،‬وقذف المؤمنات‬
‫شهَا َدةً َأبَدا َوُأ ْوَل ِئكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ (سورة‬
‫بالزنى‪ :‬قال ال تعالي ‪َ ﴿ :‬ولَا تَ ْق َبلُوا َلهُمْ َ‬
‫النور ‪. )4 :‬‬
‫والصغائر ‪ :‬هي ما لم ينطبق عليه تعريف الكبيرة ‪ ،‬كالنظر المحرم ‪ ،‬وهجر‬
‫المسلم فوق ثلثة أيام ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ومعني سليم السريرة ‪ :‬أي سليم العقيدة ‪ ،‬فل تقبل شهادة من يعتقد جواز سب‬
‫الصحابة رضي ال عنهم ‪.‬‬
‫ومعنى مأمونا عند الغضب ‪ ،‬أي ل يتجاوز الحد في تصرفه إذا غضب ‪ ،‬ول‬
‫يقع في الباطل والزور ‪ ،‬إذا ما استثير ‪.‬‬
‫ومعني مروءة مثله ‪ :‬أي متخلقا بأخلق أمثاله من أبناء عصره ‪ ،‬ممن يراعون‬
‫آداب الشرع ومناهجه في الزمان والمكان ‪ ،‬ويرجع في هذا غالبا إلي العرف ‪.‬‬
‫فإذا قلت مروءة الشخص ‪ ،‬قل حياؤه ‪ ،‬ومن قل حياؤه قال ما شاء ‪.‬‬
‫" إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (أخرجه البخاري ) ‪[ .‬‬ ‫قال رسول ال‬
‫‪ ]3296‬في النبياء‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫وكذلك ل تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعا بشهادته ‪ ،‬أو يدفع عنها ضررا ‪:‬‬
‫مثال الول ‪ :‬أن يشهد الوارث أن مورثه مثلً قد مات قبل أن يندمل جرحه ‪،‬‬
‫وغرضه من هذه الشهادة أخذ الدية ‪ ،‬فل تقبل ‪.‬‬
‫ومثال الثاني ‪ :‬أن تشهد العاقلة مثلً في قتل الخطأ أن الشهود الذين شهدوا‬
‫على القتل كانوا فسقة ‪ ،‬حتى ل يتحملوا الدية ‪.‬‬
‫والصل في رد هذه الشهادات وجود التهمة ‪.‬‬
‫شهادة العمى ‪:‬‬
‫الصل في شهادة العمى أنها ل تجوز ‪ ،‬لنه ل يستطيع أن يميز بين‬
‫الخصوم‪ ،‬ولكن العلماء جوزوا شهادته في خمسة مواضع ‪:‬‬
‫‪-1‬الموت ‪.‬‬
‫‪-2‬النسب ‪.‬‬
‫‪-3‬الملك المطلق ‪ :‬وذلك كأن يدعي شخص ملك شيء ‪ ،‬ول منازع له فيه‬
‫‪ ،‬فيشهد العمى ‪ : ،‬أن هذا الشيء مملوك ‪ ،‬دون أن ينسبه لمالك‬
‫معين ‪.‬‬
‫وإنما قبلت شهادة العمى في هذه المور ‪ ،‬لنها مما يثبت بتسامع الناس‬
‫لها وتناقلها بينهم ‪ ،‬واستفاضتها فيهم ‪ ،‬ول تفتقر إلي مشاهدة وسماع خاص‬
‫‪ ،‬لنها تدوم مدة طويلة ‪ ،‬يعسر فيها إقامة البينة على ابتدائها لذهاب من‬
‫حضرها في غالب الحيان ‪.‬‬
‫‪-4‬الترجمة ‪ :‬أي بيان كلم الخصوم والشهود وتوضيحها ‪ ،‬لن ذلك‬
‫يعتمد على اللفظ ل على الرؤية ‪.‬‬
‫‪-5‬على المضبوط ‪ :‬أي على الممسوك ‪ ،‬وذلك ‪ :‬كأن يقول أحد في أذن‬
‫العمى قولً من إقرار ‪ ،‬أو طلق ‪ ،‬ونحوه ‪ ،‬فيمسكه ويذهب به إلي‬
‫القاضي ويشهد عليه بما قاله في أذنه ‪.‬‬
‫حكم الرجوع عن الشهادة وما يترتب على ذلك ‪:‬‬
‫أولً ـ حكم الرجوع عن الشهادة ‪:‬‬

‫‪199‬‬
‫الرجوع عن الشهادة حرام ‪ ،‬إن كان الشهود صادقين في شهادتهم ‪ ،‬لن في‬
‫رجوعهم تضييعا للحقوق ‪ ،‬ويعتبر رجوعهم كتمانا للشهادة ‪ .‬وال عز وجل يقول‬
‫شهَا َدةَ َومَن َي ْك ُت ْمهَا َفِإنّهُ آثِمٌ َق ْلبُهُ ﴾ (سورة البقرة ‪)283 :‬‬
‫‪َ ﴿ :‬لَ َت ْك ُتمُواْ ال ّ‬
‫أما إذا كان الشهود كاذبين فرجوعهم عن الشهادة واجب ‪ ،‬لنها شهادة زور‬
‫‪ ،‬وهي كبيرة من الكبائر ‪.‬‬
‫ثانيا ـ ما يترتب على رجوعهم عن الشهادة ‪:‬‬
‫وإذا رجع الشهود عن الشهادة التي كانوا قد شهدوا بها ‪ ،‬فإما أن يكون‬
‫رجوعهم عنها قبل الحكم ‪ ،‬أو بعده ‪.‬‬
‫وإذا كان رجوعهم عنها بعد الحكم ‪ ،‬فإما أن يكون ذلك الرجوع قبل استيفاء‬
‫الحقوق من مال أو عقوبة ‪ ،‬أو بعد استيفائها ‪ ،‬فهذه حالت ثلث نذكرها فيما يلي‪:‬‬
‫‪-1‬رجوعهم عن الشهادة قبل الحكم ‪:‬‬
‫فإن كان رجوعهم عن الشهادة قبل حكم الحاكم به امتنع الحكم‬
‫بشهادتهم ‪ ،‬سواء شهدوا شهادة غيرها ‪ ،‬أم لم يشهدوا ‪ ،‬وسواء كانت‬
‫شهادتهم مال ‪ ،‬أو بعقوبة ‪ ،‬لن الحاكم ل يدري ‪ :‬اصدقوا في الولي ‪ ،‬أو‬
‫في الثانية ‪ ،‬أم صدقوا في الشهادة أو في الرجوع ‪ ،‬فينتفي ظن الصدق‬
‫بشهادتهم ‪ ،‬وأيضا فإن كذبهم ثابت ل محالة ‪ ،‬إما في الشهادة الولي ‪ ،‬أو‬
‫في الشهادة الثانية ‪ ،‬وفي الشهادة أو في الرجوع عنها ول يجوز الحكم‬
‫بشهادة الكاذب ‪.‬‬
‫وإن رجعوا عن شهادة في زني حدوا حد القذف ‪ ،‬لن شهادتهم قذف‬
‫للمقذوف ‪.‬‬
‫ب ـ رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم وقبل استيفاء الحق ‪:‬‬
‫وإن كان رجوع الشهود عن الشهادة بعد حكم القاضي بها ‪ ،‬ولكن ذلك‬
‫الرجوع كان قبل استيفاء الحق ممن هو عليه ‪:‬‬
‫ـ فإن كان المشهود به مالً نفذ الحكم به ‪ ،‬واستوفي المال ممن هو عليه ‪ ،‬لن‬
‫القضاء قد تم ‪ ،‬وليس الحكم بالمال مما يسقط بالشبهة ‪ ،‬حتى يتأثر بالرجوع ‪،‬‬
‫فينفذ الحكم ‪ ،‬ويستوفي المال ‪ ،‬مادام الحكم قد صدر قبل رجوعهم ‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫ـ وإن كان الحق المشهود به عقوبة ‪ ،‬سواء كانت ل تعالي ‪ :‬كالزني ‪ ،‬أم كانت‬
‫لدمي ‪ :‬كالقذف ‪ ،‬فل تستوفي العقوبة ‪ ،‬مادام الشهود قد رجعوا عن شهادتهم قبل‬
‫استيفائها ‪ ،‬لنها تسقط بالشبهة ‪ ،‬والرجوع عن الشهادة شبهة ‪.‬‬
‫روي الترمذي [‪ ]1424‬في الحدود ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في درء الحدود ‪ ،‬عن‬
‫‪ " :‬ادرؤوا الحدود عن‬ ‫عائشة رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ :‬قال رسول ال‬
‫المسلمين ما استطعتم ‪ ،‬فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ‪ ،‬فإن المام أن يخطئ في‬
‫العفو خير من أن يخطئ في العقوبة " ‪.‬‬
‫جـ _ رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم وبعد استيفاء الحق ‪:‬‬
‫وإن كان رجوع الشهود عن الشهادة بعد الحكم بها ‪ ،‬وبعد الستيفاء‬
‫للمحكوم به ‪ ،‬لم ينقض الحكم ‪ ،‬لتأكد المر ‪ ،‬ولجواز صدقهم في الشهادة ‪ ،‬وكذبهم‬
‫في الرجوع ‪ ،‬أو العكس ذلك ‪.‬‬
‫وليس أحدهما بأولي من الخر ‪ ،‬فل ينقض الحكم بأمر مختلف ومشكوك‬
‫فيه يترتب على رجوعهم هذا ‪:‬‬
‫ـ أنه إن كان الحق المستوفي من المشهود عليه عقوبة ‪ :‬كأن كان قصاصا في‬
‫نفس أو طرف ‪ ،‬أو قتلً في ردة أو رجما في زني ‪ ،‬ومات المشهود عليه ‪ ،‬ثم‬
‫رجعوا عن الشهادة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬تعمدنا الشهادة ‪ ،‬ول نعلم حال المشهود عليه ‪ ،‬أو‬
‫قالوا ‪ :‬تعمدنا الكذب في الشهادة ‪ ،‬فعليهم القصاص ‪ ،‬أو دية مغلظة في مالهم‬
‫موزعة على عدد رؤوسهم ‪ ،‬لتسببهم إلي إهلك المشهود عليه ‪.‬‬
‫ـ ولو شهدوا بطلق بائن ‪ ،‬أو لعان ‪ ،‬وفرق القاضي بين الزوجين ‪ ،‬فرجعا عن‬
‫الشهادة دام الفراق ‪ ،‬لن قولهما في الرجوع محتمل الكذب والصدق ‪ ،‬فل يرد‬
‫الحكم بقول محتمل ‪ ،‬وعلي هؤلء الشهود الراجعين عن الشهادة مهر مثل‬
‫للزوج ‪ ،‬لنه بدل ما فوتوه عليه ‪.‬‬
‫ـ ولو رجع شهود شهدوا على مال بعد الحكم واستيفاء المال غرموا المال الذي‬
‫استوفي من المحكوم عليه ‪ ،‬لنه بدل ما فوتوه عليه ‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫اليمين ‪ ،‬وآدابه ‪ ،‬وكيفيته ‪ ،‬وحكم النكول‬

‫تعريف اليمين ‪:‬‬


‫اليمين في اللغة ‪ ،‬تطلق على اليد اليمنى ‪ ،‬وإنما أطلقت اليمين على الحلف‬
‫لنهم كانوا إذا تحالوا ‪ ،‬يأخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه ‪.‬‬
‫وسميت اليد اليمنى بهذا السم لوفور قوتها ‪ .‬قال ال تعالى ‪ ﴿ :‬لََأخَ ْذنَا ِمنْهُ‬
‫بِا ْل َيمِينِ ﴾ ( سورة الحاقة ‪ ) 45 :‬أي بالقوة ‪.‬‬
‫واليمين شرعا ‪ :‬توثيق أمر غير ثابت المضمون ـ ماضيا أو مستقبلً ‪،‬‬
‫نفيا أو إثباتا ـ بذكر اسم من أسماء ال عز وجل ‪ ،‬أو صفة من صفاته ‪.‬‬
‫ما يصح به اليمين ‪:‬‬
‫واليمين ل تصح ول تنعقد إل بذات ال عز وجل ‪ ،‬أو صفة من صفاته ‪.‬‬
‫روي البخاري [‪ ]6270‬في اليمان والنذور ‪ ،‬باب ‪ :‬النهى عن الحلف بغير‬
‫أدرك عمر بن‬ ‫ال تعالى عن عبدال بن عمر رضي ال عنهما ‪ :‬أن رسول ال‬
‫الخطاب ‪ ،‬وهو يسير في ركب ‪ ،‬يحلف بأبيه ‪ :‬فقال ‪ " :‬أل إن ال ينهاكم أن‬
‫تحلفوا بآبائكم ‪ ،‬من كان حالفا فليحلف بال أو ليصمت ‪.‬‬
‫فاليمين إذا ل يصح ول ينعقد إل بما ذكر ‪ ،‬وهو بغير ذلك معصية يأثم‬
‫الحالف بها ‪.‬‬
‫روي الترمذي [‪ ]1535‬في اليمان والنذور ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في كراهية‬
‫الحلف بغير ال ‪ ،‬عن سعد بن عبيدة ‪ ،‬أن ابن عمر رضي ال عنهما سمع رجلً‬
‫يقول‬ ‫يقول ‪ :‬ل والكعبة ‪ ،‬فقال له ‪ :‬ل تحلف بغير ال ‪ ،‬فإن سمعت رسول ال‬
‫‪ " :‬من حلف بغير ال فقد كفر أو أشرك " قال الترمذي ‪ :‬هذا حديث حسن ‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫هذا على التغليظ ‪.‬‬
‫آداب اليمين ‪:‬‬
‫لليمين آداب ينبغي مراعاتها ‪ ،‬منها ما هو واجب ‪ ،‬ومنها ما هو دون ذلك ‪،‬‬
‫ومن هذه الداب‪:‬‬

‫‪202‬‬
‫‪-1‬تعظيم القاضي لمر اليمين ‪ ،‬حيث يستحب له أن يعظ الحالف قبل‬
‫الحلف ‪ ،‬ويعظم له حرمة اليمين ‪ ،‬ويخوفه من اليمين الفاجرة ‪ ،‬أي‬
‫الكاذبة ‪ ،‬ويقرأ عليه من اليات والخبار ما فيه عظة ومزدجر ‪.‬‬
‫‪-2‬الحلف حال الصدق ‪ ،‬فإذا توجهت اليمين إلي المدعى عليه ‪ ،‬وهو يعلم‬
‫من نفسه ‪ ،‬أنه لو حلف كان صادقا ‪ ،‬فإنه يباح له أن يحلف ‪ ،‬ول‬
‫شيء عليه من إثم ول غيره ‪ ،‬لن ال عز وجل شرع اليمين ‪ ،‬ول‬
‫يشرع ما فيه إثم ‪ ،‬بل إن حلفه ربما كأن أولي من تركه ‪ ،‬وذلك‬
‫لمرين ‪:‬‬
‫المر الول ‪ :‬حفظ حقه من الضياع ‪ ،‬وقد نهى الشرع عن إضاعته ‪.‬‬
‫المر الثاني ‪ :‬تخليص أخيه الظالم من ظلمه ‪ ،‬وأكله مال غيره بغير حق ‪،‬‬
‫وهذا من باب النصح النصر له ‪ ،‬وذلك بكفه عن ظلمه ‪.‬‬
‫وهذا من باب النصح والنصر له ‪ ،‬وذلك بكفه عن ظلمه ‪.‬‬
‫أنه أشار على رجل أن يحلف ‪ ،‬ويأخذ حقه ‪،‬‬ ‫ويؤيد هذا ما روي عن النبي‬
‫وقد حلف عمر بن الخطاب رضي ال عنه لبي رضي ال عنه على نخل ‪ ،‬ثم‬
‫وهبه له ‪.‬‬
‫‪-3‬التورع عن الحلف حال الكذب ‪ ،‬إذ الحلف الكاذب الذي يقتطع به حق‬
‫الغير ‪ ،‬ويؤكل به مال الناس بالباطل جريمة نكراء ‪ ،‬وإثم كبير ‪ ،‬فإذا‬
‫كان المدعي عليه يعلم من نفسه الكذب ‪ ،‬فينبغي له ن ويجب عليه أن‬
‫يترك اليمين ‪ ،‬ويتورع عنه ‪ ،‬ويعترف بالحق على نفسه ‪ ،‬ويرده إلي‬
‫صاحبه ‪ ،‬ول يوقع نفسه في الثم ‪ ،‬ومعصية ال تعالي ‪ ،‬والحرمان‬
‫من رحمته ‪.‬‬
‫ش َترُونَ ِب َعهْ ِد اللّهِ َوَأ ْيمَا ِنهِمْ َثمَنا َقلِيلً‬
‫قال ال عز وجل ‪ ﴿ :‬إِنّ الّذِينَ يَ ْ‬
‫ظرُ ِإَل ْيهِمْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ‬
‫خ َرةِ وَلَ ُي َكّل ُمهُمُ اللّهُ وَلَ يَن ُ‬
‫ُأ ْولَـئِكَ لَ خَلَقَ َلهُمْ فِي ال ِ‬
‫وَلَ ُي َزكّيهِمْ َوَلهُمْ عَذَابٌ َألِيمٌ ﴾ (سورة آل عمران ‪. )77 :‬‬
‫[ ل خلق لهم ‪ :‬ل نصيب لهم من الثوب في الخرة ‪ ،‬ول يزكيهم ‪:‬‬
‫ول يطهرهم من رجس الذنوب ] ‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫‪ " :‬من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ‬ ‫وقال رسول ال‬
‫مسلم هو فيها فاجر‪ ،‬لقي ال وهو عليه غضبان " ‪( .‬رواه البخاري [‪]6299‬‬
‫ش َترُونَ ِب َعهْدِ اللّهِ‬
‫في اليمان ‪ ،‬باب ‪ :‬قول ال تعالى ‪ ﴿ :‬إِنّ الّذِينَ يَ ْ‬
‫َوَأ ْيمَا ِنهِمْ َثمَنا َقلِيلً ﴾ ومسلم [‪ ]138‬في اليمان ‪ ،‬باب ‪ :‬وعيد من اقتطع‬
‫حق مسلم بيمين فاجرة ‪ ،‬عن عبدال بن مسعود رضي ال عنه )‬
‫[يمين صبر ‪ :‬أصل الصبر ‪ :‬الحبس ‪ ،‬وقتل فلن صبرا ‪ :‬أي حبسا‬
‫على القتل ‪ ،‬ويمين الصبر ‪ :‬أن يلزم الحاكم الخصم اليمين حتى يحلف ‪.‬‬
‫يقتطع ‪ :‬يأخذ بغير حق ] ‪.‬‬
‫وروي البخاري [‪ ]6298‬في اليمان والنذور ‪ :‬باب ‪ :‬اليمين الغموس ‪،‬‬
‫قال ‪" :‬‬ ‫عن عبدال بن عمرو بن العاص رضي ال عنهما ‪ ،‬عن النبي‬
‫الكبائر ‪ :‬الشراك بال ‪ ،‬وعقوق الوالدين ‪ ،‬وقتل النفس ‪ ،‬واليمين‬
‫الغموس"‪.‬‬
‫[ اليمين الغموس ‪ :‬اليمين التي يتعمد صاحبها فيها الكذب ‪ ،‬سميت‬
‫غموسا ‪ ،‬لن صاحبها يستحق أن يغمس في النار ] ‪.‬‬
‫كيفية اليمين ‪:‬‬
‫وكيفية الحلف ‪ ،‬أن الحالف إما أن يحلف على فعل نفسه ‪ ،‬أو على فعل‬
‫غيره ‪:‬‬
‫‪-‬فإن أراد أن يحلف على فعل نفسه ‪ ،‬فليحلف على البت‬
‫والقطع ‪ ،‬إثباتا كان أو نفيا ‪ ،‬لنه يعلم حال نفسه ‪ ،‬ويطلع‬
‫عليها ‪ ،‬فيقول في البيع والشراء مثلً ‪ :‬ول لقعد بعت‬
‫بكذا ‪ ،‬أو يقول في النفي ‪ :‬وال ما بعت بكذا ‪.‬‬
‫‪-‬وإن أراد أن يحلف على فعل غيره ‪ :‬فإن كان في الثبات‬
‫‪ :‬كالبيع والشراء والغصب ونحوها ‪ ،‬فليحلف أيضا على‬
‫البت والقطع ‪ ،‬لنه يسهل معرفة ذلك والوقوف عليه‬
‫فيقول ‪ :‬وال لقد باع بكذا ‪ ،‬أو اشتري بكذا ‪ ،‬أو وال لقد‬
‫اغتصب كذا ‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫وإن كان يحلف على النفي ‪ ،‬فليحلف على نفي العلم ‪ ،‬لن النفي المطلق‬
‫يعسر الوقوف عليه ‪ ،‬فيقول مثلً ‪ :‬وال ما علمت أن فلنا سدد ما عليه ‪.‬‬
‫حكم النكول عن اليمين ‪:‬‬
‫مر معنا بيان النكول ‪ ،‬وقلنا ‪ :‬هو أن يمتنع المدعى عليه من الحلف بعد أن‬
‫يعرضها عليه القاضي ‪ ،‬وهنا نبين حكم النكول في اليمين ‪.‬‬
‫قال الشيخ عز الدين رحمه ال تعالى ‪ :‬إذا كان المدعى كاذبا في دعواه ‪،‬‬
‫وكان المدعى به ـ أي الذي يدعيه المدعى ـ مما ل يباح بالباحة ‪ :‬كالدماء‬
‫والبضاع ‪:‬‬
‫فإن علم المدعى عليه أن خصمه ل يحلف على ما يدعيه ‪ ،‬إن هو نكل عن‬
‫اليمين ‪ ،‬فإنه يتخير إن شاء حلف ‪ ،‬وإن شاء نكل ‪.‬‬
‫وإن علم أو غلب على ظنه أنه يحلف ‪ ،‬وجب عليه أن يحلف حتى ل‬
‫تستحل الدماء والبضاع باليمين الكاذبة ‪.‬‬
‫فإن كان المدعى به مما يباح بالباحة كالموال ‪ ،‬وعلم المدعى عليه أو‬
‫ظن أن المدعي ل يحلف إذا نكل فيتخير أيضا ‪ ،‬وإن علم أو غلب على ظنه أنه‬
‫يحلف فالذي أراه وجوب الحلف دفعا لمفسدة كذب الخصم ‪.‬‬
‫أما ما يترتب علي امتناع المدعى عليه عن الحلف وحلف المدعى فقد مر‬
‫في بحث البينة ‪ :‬البينة على المدعى واليمين على من أنكر ‪ ،‬وهو أنه يرد اليمين‬
‫على المدعى ‪ ،‬فإن أبي سقطت الدعوى ‪ .‬وال أعلم ‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫الباب السابع‬

‫القسمة‬

‫‪206‬‬
‫القسمة‬
‫تعريف القسمة ‪:‬‬
‫القسمة ‪ :‬لغة مأخوذة ‪ ،‬من قسم الشيء يقسمه ‪ ،‬إذا فصله إلي أجزاء ‪.‬‬
‫والقسمة شرعا ‪ :‬تمييز بعض النصباء عن بعض تبعا لمصلحة الشركاء ‪،‬‬
‫وطبقا لشروط مخصوصة ‪ ،‬وكيفيات معينة ‪.‬‬
‫مشروعية القسمة ‪:‬‬
‫القسمة مشروعة نص الكتاب والسنة ‪ ،‬ودليل الجتهاد والنظر ‪ .‬أما الكتاب‬
‫سمَةَ ُأ ْولُواْ الْ ُق ْربَى وَا ْل َيتَامَى وَا ْلمَسَاكِينُ‬
‫ضرَ الْقِ ْ‬
‫ح َ‬
‫‪ ،‬فقول ال عز وجل ‪َ ﴿ :‬وإِذَا َ‬
‫فَا ْرزُقُوهُم ّمنْهُ وَقُولُواْ َلهُمْ َقوْلً ّم ْعرُوفا ﴾ (سورة النساء ‪. )8 :‬‬
‫فقد علق المر بإكرام اليتيم وأولي القربى على حضورهم قسمة المال ‪،‬‬
‫فدل ذلك على مشروعيتها ‪ ،‬وعدم وجود ما يمنع منها ‪ ،‬إذا جرت على أصولها‬
‫المشروعة ‪.‬‬
‫وأما السنة ‪ ،‬فقد روي البخاري [‪ ]2138‬في الشفعة ‪ :‬باب ‪ :‬الشفعة فيما لم‬
‫يقسم ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1608‬في المساقاة ‪ ،‬باب ‪ :‬الشفعة ‪ ،‬عن جابر رضي ال عنه قال‬
‫بالشفعة في كل ما لم يقسم ‪ ،‬فإذا وقعت الحدود وصرفت‬ ‫‪ :‬قضى رسول ال‬
‫الطرق فل شفعة ‪.‬‬
‫فتعليق حق الشفعة على عدم القسمة فرع عن مشروعيتها ‪ ،‬ودليل على‬
‫جوازها ‪ ،‬كما دلت الية المذكورة سابقا ‪.‬‬
‫وأما دليل النظر والجتهاد ‪ ،‬فهو أن الشركة لما كانت عقدا جائزا من‬
‫الشريكين ‪ ،‬أي لكل منهما فسخها متى شاء كان لبد للقسمة أن تكون مشروعة‬
‫استجابة لرغبة كل منهما ‪ ،‬إذ ل معنى لنفساخ الشركة ‪ ،‬إذا لم يكن سبيل إلي‬
‫القسمة ‪ ،‬ولن في القسمة مصلحة صاحب الحق عندما يرى مصلحته في ذلك ‪.‬‬
‫أنواع القسمة ‪:‬‬
‫تنحصر القسمة المشروعة في ثلثة أنواع ‪ ،‬وذلك بالنظر إلي طبيعة المال‬
‫الذي تعلقت به القسمة ‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫النوع الول ‪:‬‬
‫القسمة بالجزاء ـ وتسمى أيضا ‪ :‬قسمة المتشابهات ـ ‪ :‬وهي التي تتعلق‬
‫بمال ل تحتاج قسمته إلي رد ‪ ،‬ول إلي تقويم ‪ ،‬ول إلي التجاء لسبيل من سبل‬
‫التسوية بين القسام ‪ :‬كالمثليات من حبوب ‪ ،‬ورداهم ‪ ،‬وأقمشة ‪ ،‬ونحوها ‪،‬‬
‫وكأرض مستوية القيمة والجزاء ‪.‬‬
‫ويمتاز هذا النوع من القسمة بسهولة تقسيمه ‪ ،‬وإن تفاوتت الحصص ‪.‬‬
‫النوع الثاني ‪:‬‬
‫قسمة التعديل ‪ :‬وهي تطلق على تقسيم كل متمول تختلف قيمة أجزائه ‪:‬‬
‫كأرض تختلف قيمة أجزائها بسبب اختلفها في قوة النبات ‪ ،‬وخصوبة التربة ‪،‬‬
‫أو القرب من الماء ‪ ،‬أو نحو ذلك ‪ ،‬بحيث تكون قيمة ثلثها كقيمة ثلثيها مثلً ‪.‬‬
‫ويمتاز هذا النوع من القسمة بضرورة ملحظة القيمة دون القتصار على‬
‫المساحة أو الشكل أو الكيل وحده ‪.‬‬
‫النوع الثالث ‪:‬‬
‫القسمة بالرد ‪ :‬وهي أن تتعلق بمتمول يمتاز ببعض أجزائه بشيء غير قابل‬
‫للقسمة ‪ ،‬ول يوجد نظيره في الطرف الخر ‪ ،‬أو الجزاء الخرى ‪ ،‬كأن يكون‬
‫في أحد جانبي الرض بئر أو شجر ‪ ،‬وليس في الجان الخر ما يعادله ‪ ،‬إل‬
‫بواسطة ضميمة خارجية إليه ‪.‬‬
‫ويمتاز هذا النوع بضرورة إدخال الجبر على التقسيم فيه ن كي تتحقق‬
‫العدالة في القسمة ز‬
‫فإذا تأملت في هذه النواع الثلثة للقسمة أدركت أن بينها قدرا مشتركا من‬
‫الشبه ‪ ،‬وهو أنها جميعا تتعلق بأموال قابلة للقسمة من حيث المبدأ ‪ ،‬أي ل ضرر‬
‫في قسمتها ‪ ،‬وإن اختلفت هذه النواع عن بعضها في طريق القسمة ‪ :‬أي يقع‬
‫ضرر بالمالك بسبب قسمته ‪ :‬كالجوهرة ‪ ،‬والثوب ‪ ،‬والرحى ‪ ،‬والبئر ‪،‬‬
‫والسيارة ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫فل يدخل في القسمة المشروعة ‪ ،‬ول يجبر الطرف الممتنع عن القسمة‬
‫على القسمة ‪ ،‬لن فيه إضاعة للمال ‪ ،‬وإضرارا بالمالك ‪ ،‬بل يحرم التقسيم وإن‬

‫‪208‬‬
‫رضي الطرفان ‪ ،‬إذا كان فيه نقص بين للمنفعة ‪ ،‬أو إهدار لها ‪ ،‬لنه من التبذير‬
‫الذي نص ال عز وجل على وجوب اجتنابه ‪.‬‬
‫أحكام القسمة ‪:‬‬
‫للقسمة أحكام نذكرها فيما يلي ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬شأن القسمة أن يتولها الشركاء ‪ ،‬أو من يرتضونه ‪ ،‬أو من‬
‫يحكمونه عند الختلف ‪ ،‬أو من ينصبه الحاكم ‪.‬‬
‫فأما في الحالتين الوليين ‪ ،‬فل يشترط أكثر من التراضي وموافقة‬
‫الطراف ‪. ،‬‬
‫وأما في الحالتين الخيرتين ‪ ،‬فيشترط في القاسم أن يكون ‪:‬‬
‫ذكرا ‪ ،‬مسلما ‪ ،‬بالغا ‪ ،‬عاقلً ‪ ،‬حرا ‪ ،‬عدلً ‪ ،‬عالما ‪ ،‬بالحساب والمساحة ‪،‬‬
‫وذلك لن القاسم له ولية على من يقسم لهم ‪ ،‬لن قسمته ملزمة ‪ ،‬ومن لم تتوفر‬
‫فيه هذه الشروط ‪ ،‬فليس من أهل الولية ‪.‬‬
‫وأما معرفة الحساب والمساحة ‪ ،‬وما يحتاج إليه القاسم حسب نوع المقسوم‪،‬‬
‫فلن ذلك آلة القسمة ‪ ،‬كما أن معرفة أحكام الشرع آلة القضاء ‪ ،‬فالقاسم في‬
‫الحالتين الخيرتين ‪ ،‬يتولى إذا منصبا سواء جاء عن طريق الحاكم ‪ ،‬أو عن‬
‫طريق الشركاء ‪ ،‬ول بد لتوليه هذا المنصب من توفر شروط الكفاءة فيه ‪ ،‬وهي‬
‫ما ذكرنا ‪.‬‬
‫أما في حالة ارتضاء الشركاء بمن يقسم بينهم ‪ ،‬فإنه ليس أكثر من وكيل‬
‫عنهم ‪ ،‬ولهم أن يوكلوا عنهم في ذلك من يشاؤون ‪ ،‬إذا كانت شروط الوكالة‬
‫كالعقل والبلوغ ونحوها متوفرة في القاسم ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬كل ما عظم الضرر في قسمته ‪ ،‬ل يجبر الطرف الممتنع على قبول‬
‫قسمته ‪ ،‬ول يجب الحاكم الطراف ‪ ،‬وإن اتفقوا ـ في تعيين خبير يتولى القسمة‬
‫بينهم ‪.‬‬
‫فإن تولوا هم بأنفسهم التقسيم بناء على رضي الجميع ‪ ،‬جاز لهم ذلك إن لم‬
‫تبطل منفعة المقسوم بالكلية ‪ ،‬وليس للحاكم أن يمنعهم من القسمة ‪ ،‬ولم يجز لهم‬

‫‪209‬‬
‫ذلك إن بطلت بسبب تلك القسمة منفعة المقسوم بطلنا تاما ‪ ،‬وللحاكم أن يمنعهم‬
‫من المضي في تلك القسمة ‪ :‬ككسر سيف ‪ ،‬وتجزيء سيارة ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬كل ما ل ضرر في قسمته من النواع الثلثة التي ذكرناها يستجاب‬
‫فيها لرأي طالب القسمة ‪ ،‬فيجبر الممتنع من الشركاء عليها ‪ ،‬إذ ل ضرر عليه‬
‫يقول ‪ " :‬ل‬ ‫فيها ‪ ،‬وفي الستجابة لتعنته إضرار بشركائه الخرين ‪ ،‬والنبي‬
‫ضرر ول ضرار " ‪( .‬رواه مالك مرسلً [‪ ]2/745‬في القضية ‪ ،‬باب ‪ :‬القضاء‬
‫في المرفق ‪ ،‬وغيره ‪،‬بأسانيد يقوي بعضها بعضا ) ‪.‬‬
‫فإن كان المال من النوع الول (وهو قسمة الجزاء ) عدلت السهام حسب‬
‫نصيب كل من الشركاء ‪ ،‬كيل في المكيل ‪ ،‬ووزنا في الموزون ‪ ،‬وذرعا في‬
‫المذروع كالرض ‪ ،‬فإن استوت الحصص ‪ :‬كأرباع ‪ ،‬مثلً ‪ ،‬أو نصفين ‪ ،‬وجب‬
‫اعتماد القرعة في توزيع هذه الحصص على أصحابها ‪.‬‬
‫وإن كانت القسمة من النوع الثاني (وهو قسمة التعديل ) كأرض تختلف‬
‫قيمة أجزائها حسب تفاوت منافعها‪ ،‬أو اختلف خصائصها ‪ :‬كبستان بعضه نخل ‪،‬‬
‫وبعضه عنب ‪ ،‬أو بعضه أقوي في الثبات والخصوبة من بعض وجب التعديل في‬
‫أجزائها ‪ ،‬بحيث تتساوي قيمة القسام إذا كانت متساوية ‪ :‬كأرباع وأثلث ‪ ،‬أو‬
‫بحيث يكون لكل جزء من القيمة ما يتفق مع نسبته إلي الكل ‪.‬‬
‫فالذي يملك السدس يجتزأ له من الرض ما يساوي سدس مجموع القيمة ‪،‬‬
‫والذي يملك الربع يجتزأ منها ما يساوي ربع مجموع القيمة ‪ ،‬بقطع النظر عن‬
‫مساحة أجزاء الرض ‪ ،‬ثم تعين الحصص لربابها ‪ ،‬إذا كانت متساوية عن‬
‫طريق القتراع ‪.‬‬
‫وإن كانت القسمة من النوع الثالث (وهو قسمة الرد ) وهو ما كان في أحد‬
‫أجزائه شيء له قيمة ماليه خاصة به ول يمكن قسمته ‪ :‬كأرض في بعض جوانبها‬
‫بئر أو دار وجب جعل البئر ‪ ،‬أو الدار ضمن أحد النصبة ‪ ،‬ورد نسبة حصص‬
‫الخرين من قيمتها عليهم ‪ ،‬فإن كانت الرض بين اثنين مثلً أخذ البئر أحدهما‬
‫وأعاد نصف قيمتها إلي شريكه ‪ ،‬وإنما يأخذ البئر ‪ ،‬أو نحوها من خرجت له‬
‫القرعة ‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫رابعا ‪ :‬ل بد من التراضي بعد تحقيق ما سلف ذكره من السباب ‪ ،‬وبعد‬
‫العتماد على وسيلة القتراع فإن لم يقع التراضي لم تصح القسمة ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬قسمة الجزاء (وهو النوع الول ) من قبيل الفراز ‪ ،‬أما النوعان‬
‫الخران (وهما قسمة التعديل ‪،‬وقسمة الرد ) فبيع على الصحيح ‪ ،‬لنقابل المال‬
‫بالمال فيه وقيل ‪ :‬هو بيع في القدر الذي يتم فيه التعديل والرد ‪.‬‬
‫وعلى كل فهو بيع ضمني وليس بيعا صريحا ‪ ،‬فهو ل يتوقف في صحته‬
‫على إيجاب وقبول نحوهما ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬كل قسمة تتضمن تقويما ـ كقسمة الرد ـ لبد لصحتها من‬
‫العتماد على قاسمين اثنين ‪ .‬إذ هي تتضمن شهادة تعيين قيمة لشيء متمول ومثل‬
‫هذه الشهادة ل بد فيها من شاهدين اثنين ‪ .‬أما ما ل يعتمد منها على تقوم‪ ،‬فيكتفي‬
‫فيه بقاسم واحد ‪ ،‬سواء كان من قبل الحاكم أو من قبل الشريكين ‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫الباب الثامن‬

‫القــــرار‬

‫‪212‬‬
‫القرار‬
‫تعريف القرار ‪:‬‬
‫القرار لغة ‪ :‬الثبات ‪ ،‬مأخوذ من ‪ :‬قر الشيء ‪ ،‬إذا ثبت ‪.‬‬
‫والقرار شرعا ‪ :‬إخبار عن حق ثابت على المخبر ‪ .‬ويسمى القرار‬
‫اعترافا ‪.‬‬
‫دليل مشروعية القرار ‪:‬‬
‫القرار مشروع ‪ ،‬وقد ثبتت مشروعيته ‪ ،‬بنص الكتاب ‪ ،‬والسنة وإجماع‬
‫الُمة‬
‫صرِي قَالُواْ‬
‫علَى َذِلكُمْ ِإ ْ‬
‫أما الكتاب فقول ال عز وجل ‪َ ﴿ :‬أَ ْق َر ْرتُمْ َوأَخَ ْذتُمْ َ‬
‫شهَدُواْ َوَأنَاْ َم َعكُم مّنَ الشّاهِدِينَ ﴾ ( سورة آل عمران ‪. )81 :‬‬
‫أَ ْق َر ْرنَا قَالَ فَا ْ‬
‫[ إصري ‪ :‬عهدي ]‬
‫شهَدَاء‬
‫وقوله تبارك وتعالي ‪ ﴿ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ كُونُواْ َقوّامِينَ بِالْقِسْطِ ُ‬
‫سكُمْ ﴾ ( سورة النساء ‪)135 :‬‬
‫علَى أَنفُ ِ‬
‫ِللّهِ َوَلوْ َ‬
‫[ قوامين بالقسط ‪ :‬دائمي القيام بالعدل ] ‪.‬‬
‫قال العلماء ‪ :‬شهادة النسان على نفسه ‪ ،‬معناها القرار ‪.‬‬
‫قال ‪ " :‬اغد يا أنيس‬ ‫وأما في السنة فما ثبت في الصحيحين أن النبي‬
‫إلي امرأة هذا ‪ ،‬فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت ‪ ،‬فأمر بها رسول اله‬
‫فرُجمت ( رواه البخاري [‪ ]2575‬في الشروط ‪ ،‬باب ‪ :‬الشروط التي ل تحل‬
‫في الحدود ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1697‬في الحدود ‪ ،‬باب ‪ :‬من اعترف على نفسه بالزنى ‪،‬‬
‫عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي ال عنهما ) ‪.‬‬
‫أما الجماع ‪ ،‬فقد نقل عن العلماء أنه منعقد على مشروعيته ‪ ،‬وأن المقر‬
‫مؤاخذ بإقراره ‪.‬‬
‫حكمة تشريع القرار ‪:‬‬

‫‪213‬‬
‫والحكمة من تشريع القرار ‪ ،‬وجود الحاجة إليه ‪ ،‬وما أكثر ما تشرع‬
‫الحكام تلبية لمقتضي حاجة الناس إليها ‪ .‬فقد يكون على المرء حق ل بينه‬
‫لصاحبه عليه ‪ ،‬فلو لم يكن القرار مشروعا ‪ ،‬ول حجة على المقر لضاع كثير‬
‫من هذه الحقوق ‪ ،‬والسلم ـ كما هو معلوم ـ حريص على إثبات الحقوق إلي‬
‫أصحابها ‪ ،‬وإيصالها إليهم ـ كما هو معلوم ـ حريص على إثبات الحقوق إلي‬
‫أصحابها ‪ ،‬وإيصالها إليهم ‪ .‬وهو دائما يسعى إلي حفظ الموال وصيانتها من‬
‫الضياع ‪ ،‬فكان طبيعيا إذا أن يشرع القرار ويعتد به ‪.‬‬
‫وكذلك إن كانت الحقوق غير أموال ‪ ،‬سواء كانت ال ‪ ،‬أو لدمي ‪ ،‬فإنها‬
‫تظهر بالقرار ‪ ،‬وتتضح ‪ ،‬فيؤخذ حق الدمي ‪ ،‬وتؤدى حقوق ال عز وجل ‪.‬‬
‫بالزنى ‪ ،‬واقر به‬ ‫فقد اعترف ماعز بن مالك رضي ال عنه أمام النبي‬
‫وطلب من الرسول أن يطهره منه ويقيم الحد عليه أداء الحق ال تعالى ‪ ،‬فأمر‬
‫برجمه حتى مات ‪.‬‬
‫فرجمت ‪ .‬جاء‬ ‫وكذلك أقرت امرأة من غامد بالزني ‪ ،‬فأمر رسول ال‬
‫هذا في البخاري [‪ ]2575‬ومسلم [‪. ]1695‬‬
‫وهذا يدل على مشروعية القرار ‪ ،‬وبيان الحكمة من تشريع وانه حجة‬
‫يؤخذ به المقر ولو كان الحق ل تعالى ‪.‬‬
‫المقر به من الحقوق وحكم الرجوع فيه ‪:‬‬
‫المقر به من الحقوق نوعان ‪:‬‬
‫حق ال عز وجل ‪ ،‬وحق العباد ‪.‬‬
‫النوع الول ‪ :‬حق ال تعالى ‪:‬‬
‫حق ال تعالى ‪ ،‬مثل حد الزني ‪ ،‬وحد السرقة ‪ ،‬وحد الردة ‪ ،‬وشرب‬
‫الخمر‪ ،‬والزكاة والكفارة ونحوها ‪ ،‬فهذه الحقوق إنما شرعت إقامة للدين ‪ ،‬وتحقيق‬
‫مصالح المجتمع ‪.‬‬
‫وحكم حق ال عز وجل أنه تنفع فيه التوبة فيما بين العبد وربه ‪ ،‬ويصح‬
‫الرجوع عنه بعد القرار فيه ‪ ،‬لن مبنى حق ال عز وجل على الدرء والستر ‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫عرض لماعز بن مالك بالرجوع عندما أقر على‬ ‫ودليل ذلك أن النبي‬
‫نفسه بالزني فقال له " لعلك قبلت ‪ ،‬أو غمزت " ‪ .‬ومعنى هذا الكلم الشارة على‬
‫تلقينه الرجوع عن القرار بالزني ‪ ،‬واعتذاره بشبهة يتعلق بها ‪.‬‬
‫‪ " :‬ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ‪ ،‬فإن‬ ‫وقد قال رسول ال‬
‫كان له مخرج فخلوا سبيله ‪ ،‬فإن المام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في‬
‫العقوبة " ‪( .‬أخرجه الترمذي [‪ ]1424‬في الحدود ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في درء الحدود)‬
‫‪.‬‬
‫ول شك أن الرجوع عن القرار شبهة تسقط الحدود‪.‬‬
‫ويندب للقاضي أن يعرض للمقر بالرجوع ‪ ،‬ول يقول له ‪ :‬ارجع ‪ ،‬فيكون‬
‫أمرا له بالكذب ‪.‬‬
‫فلو رجع المقر بعد إقراره بحقوق بال وجل ‪ ،‬صح رجوعه ‪ ،‬وزال عنه‬
‫حكم ما كان أقر به ‪.‬‬
‫يدل على ذلك ‪ ،‬ما جاء في قصة رجم ماعز بن مالك رضي ال عنه ‪،‬أنه‬
‫فقال ‪" :‬‬ ‫لما وجد مس الحجارة فر ‪ ،‬فأدركوه ورجموه ‪ ،‬وأخبر بذلك رسول ال‬
‫هل تركتموه " ‪( .‬رواه البخاري [‪ ، ]4670‬ومسلم [‪ ]1691‬في نفس البواب‬
‫السابقة ‪ ،‬كما رواه الترمذي [‪ ]1428‬في الحدود ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء في درء الحد عن‬
‫المعترف إذا رجع )‬
‫النوع الثاني ‪ :‬حق العباد ‪:‬‬
‫وهذا الحق ل يصح الرجوع فيه عن القرار ‪ ،‬لتعلق حق المقر له بالحق‬
‫المقر به إل إذا كذبه المقر له به ‪ ،‬فحينئذ يصح له الرجوع به ‪.‬‬
‫فلو أنه بدين لزيد ‪ ،‬أو إتلف ‪ ،‬أو قذف ‪ ،‬فإنه ل يصح الرجوع عنه ‪،‬‬
‫ويلزمه ما أقر به ‪ ،‬إل كذبه المقر له ‪ ،‬كما قلنا ‪.‬‬
‫شروط المقر ‪:‬‬
‫للمقر شروط حتى يصح إقراره أمام القضاء ‪ ،‬ويعتد به ‪ .‬وهذه الشروط هي ‪:‬‬
‫‪-1‬البلوغ ‪ ،‬فل يصح إقرار صبي دون البلوغ ‪ ،‬ولو كان مميزا ‪ ،‬لمتناع‬
‫تصرفه ‪ ،‬ولرفع القلم عنه ‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫‪-2‬العقل ‪ ،‬فل يحص إقرار مجنون أو مغمي عليه ‪ ،‬أو من زال عقله‬
‫بعذر ‪ ،‬لمتناع تصرفهم ‪ ،‬وعدم تمييزهم ‪ ،‬ولرفع القلم عنهم ‪ .‬قال‬
‫‪ " :‬رفع القلم عن ثلثة ‪ :‬عن النائم حتى يستيقظ ‪ ،‬وعن‬ ‫رسول ال‬
‫الصبي حتى يحتلم ‪ ،‬وعن المجنون حتى يعقل " ‪ ( .‬رواه أبو داود [‬
‫‪ ، ]4403‬وغيره ‪ ،‬عن على رضي ال عنه ) ‪.‬‬
‫‪-3‬الختيار ‪ ،‬فل يعتد بإقرار المكره بما أكره عليه ‪ .‬روي ابن ماجه [‬
‫" " إن‬ ‫‪ ]2044‬عن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫ال تجاوز لمتي عما توسوس به صدورها ‪ ،‬ما لم تعمل به أو تتكلم‬
‫به ‪ ،‬وما استكرهوا عليه " أي أنه سبحانه وتعالى أسقط التكليف عن‬
‫المكره فيما استكره عليه ‪ ،‬فل يصح إقراره فيما أكره على القرار‬
‫به ‪ ،‬بل إن ال تعالى الغي اعتبار القرار بالكفر حال الكراه مع‬
‫طمأنينة القلب ‪ ،‬فقال تعالى ‪ ﴿ :‬إل من أُكره وقلبه مطمئن باليمان‬
‫﴾ (سورة النحل ‪ )106 :‬فل اعتبار للقرار بغيره من باب أولي ‪.‬‬
‫‪-4‬أن ل يكون محجورا عليه ‪ ،‬فإن كان محجورا عليه فإنه ل يصح‬
‫إقراره بدين في معاملة أسند وجوب الدين إليها قبل الحجر أو بعده ‪،‬‬
‫وكذلك ل يصح إقراره بإتلف مال قبل الحجر ‪ ،‬أو بعده ‪ ،‬لن‬
‫المحجور عليه ممنوع من التصرف بماله ‪.‬‬
‫ويصح إقرار المحجور عليه بالحد والقصاص ‪ ،‬لعدم تعلقها بالمال ‪ ،‬ولبعد‬
‫التهمة ‪ ،‬فإذا كان الحد قطع سرقة قطع ‪ ،‬ول يلزمه المال المسروق الذي اقر به ‪.‬‬
‫شروط المقر له ‪:‬‬
‫يشترط في المقر له الشروط التالية ‪:‬‬
‫‪-1‬أن يكون المقر له معينا نوع تعيين بحيث يتوقع منه الدعوى والطلب ‪.‬‬
‫فلو قال ‪ :‬لنسان أو لواحد من بني آدم على ألف ‪ ،‬لم يصح إقراره لنه‬
‫إقرار لمبهم ‪ ،‬والبهام مبطل للقرار ‪.‬‬
‫ولو قال ‪ :‬لحد هؤلء الثلثة على ألف صح إقراره لوجود التعيين ولو‬
‫بالجملة ‪ ،‬فإذا قل واحد منهم أنا المراد بالقرار صدق بيمينه إن لم يكذبه‬

‫‪216‬‬
‫المقر ‪ ،‬لحتمال أن يكون هو المراد ‪ ،‬ويمينه يؤكد ذلك ‪ ،‬أضف إلي ذلك‬
‫عدم تكذيب المقر له ز‬
‫‪-2‬أن يكون المقر له فيه أهلية استحقاق المقر به ‪ ،‬لن القرار حينئذ‬
‫يصادف محله ‪ ،‬وصدقه محتمل ‪ .‬فلو قال ‪ :‬لهذه الدابة على ألف لم‬
‫يصح إقراره ‪ ،‬لن الدابة ليست أهلً للستحقاق ‪ ،‬فإنها غير قابلة‬
‫للملك في الحال ول في المآل ‪.‬‬
‫‪-3‬ال يكذب المقر له المقر ‪ ،‬فلو كذبه في إقراره بطل إقراراه ‪ ،‬وبقي‬
‫المال المقر به في يده ‪ ،‬أن يده تشعر بأنه مالك للمال ولو ظاهرا ‪،‬‬
‫والقرار الطارئ عارضه التكذيب فسقط ‪.‬‬
‫شروط الصيغة ‪:‬‬
‫يشترط في صيغة القرار لفظ صريح أو كناية تشعر بالتزام ‪ ،‬وتدل عليه ‪،‬‬
‫وفي معنى اللفظ الصريح الكتابة مع النية ‪ ،‬وإشارة الخرس المفهمة ‪.‬‬
‫ـ فلو قال ‪ :‬لزيد على ألف ‪ ،‬أو له في ذمتي ألف ‪ ،‬كان ذلك إقرارا ‪ ،‬وحمل على‬
‫الدين الملتزم بالذمة ‪ ،‬لنه المتبادر من الصيغة عرفا ‪.‬‬
‫ـ ولو قال ‪ :‬لزيد معي أو عندي ألف كان ذلك أيضا إقرارا ‪ ،‬وحمل على العين ‪،‬‬
‫لنهما ظرفان ‪ ،‬فيحمل كل منهما عند الطلق على عين له بيده ‪.‬‬
‫ـ ولو قال له إنسان ‪ :‬لي عليك ألف ليرة فقال ‪ :‬بلى ‪ ،‬أو نعم ‪ ،‬أو صدقت ‪،‬‬
‫فإقرار لن هذه اللفاظ موضوعة للتصديق ‪.‬‬
‫ـ ولو قال له ‪ :‬أبرأتني منه أو قضيته له ‪ ،‬فهو إقرار أيضا ‪ ،‬لنه قد اعترف‬
‫بشغل ذمته بالحق ‪ ،‬ثم ادعى السقاط والصل عدمه ‪.‬‬
‫شروط المقر به ‪:‬‬
‫‪-1‬يشترط في الحق المقر به أن ل يكون ملكا للمقر حين يقر به ‪ ،‬لن القرار‬
‫ليس إزالة عن الملك ‪ ،‬وإنما هو إخبار عن كونه مملوكا للمقر له‪.‬‬
‫فلو قال ‪ :‬ثوبي لزيد ‪ ،‬أو ديني الذي لي على زيد لعمر لم يصح هذا‬
‫القرار‪ ،‬لن إضافة هذه الحقوق لنفسه تقتضي أنه مالكها ‪ ،‬فينا في ذلك إقراره بها‬
‫لغيره‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫‪-2‬أن يكون الحق المقر به في يد المقر ‪ ،‬ليسلمه بالقرار إلي المقر له ‪،‬‬
‫لنه إذا لم يكن في يده كان إقراره إما دعوى عن الغير بغير إذنه ‪ ،‬أو‬
‫شهادة بغير لفظها فل تقبل ‪.‬‬
‫فلو أقر بحق ولم يكن في يده ‪ ،‬ثم صار في يده عمل بمقتضي‬
‫القرار لوجود شرط العمل فيسلم للمقر له ‪.‬‬
‫القرار بمجهول ‪:‬‬
‫يصح القرار بالمجهول ‪ ،‬لن القرار إخبار عن حق سابق ‪ ،‬والشيء‬
‫يخبر عنه مفصلً تارة ‪ ،‬ومجملً تارة أخري ‪.‬‬
‫‪-‬فإذا قال ‪ :‬لزيد على مال صح إقراره ‪ ،‬ورجع إليه في تفسيره ‪،‬‬
‫ويقبل تفسيره بكل ما يتمول وإن قل كدرهم مثلً ‪ ،‬لن اسم المال‬
‫صادق عليه ‪.‬‬
‫‪-‬وإذا أقر بمجهول وامتنع من تفسيره حبس حتى يبين قدر الحق الذي‬
‫أقر به ن لن البيان واجب عليه ‪ ،‬فإذا امتنع منه حبس كالممتنع من‬
‫أداء الدين ‪.‬‬
‫الستثناء في القرار وحكمه ‪:‬‬
‫يصح الستثناء في القرار ‪ ،‬لكثرة وروده في القرآن الكريم وغيره من‬
‫السنة النبوية ‪ ،‬وكلم العرب في نثرهم وأشعارهم ‪.‬‬
‫فلو قال ‪ :‬على ألف إل مائة صح إقراراه ولزمه تسعمائة ‪.‬‬
‫شروط صحة الستثناء في القرار ‪:‬‬
‫ويشترط في الستثناء شروط حتى يكون صحيحا منها ‪:‬‬
‫‪-1‬أن يتصل المستثني المستثنى منه في الكلم ‪ ،‬بحيث يعد معه كلما‬
‫واحدا عرفا ‪ ،‬فل يضر الفصل اليسير بسكتة تنفس أو تذكر ‪.‬‬
‫أما لو طال الفصل ن وانقطع الكلم الول عن الثاني ‪ ،‬بحيث لم يعد‬
‫عرفا متصلً به فإن الستثناء ل يصح ‪ ،‬ويثبت كامل الحق المقر به قبل‬
‫الستثناء ‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫ب ـ أن ل يستغرق المستثني منه ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬له على خمسة إل أربعة فإن‬
‫الستثناء يصح ويلزمه واحد فقط ‪.‬‬
‫أما إذا قال ‪ :‬له على خمسة إل خمسة ‪ ،‬فاستثناؤه باطل ‪ ،‬وتلزمه الخمسة‬
‫كاملة ‪ ،‬لنه قد أقر بها ‪.‬‬
‫الستثناء المنقطع ‪:‬‬
‫ويصح الستثناء من غير جنس المستثني منه ‪ ،‬ويسمى استثناءً منقطعا ‪،‬‬
‫لوروده في القرآن الكريم وغيره ‪ ،‬ومنه قوله تعالي ‪ ﴿ :‬أَ َف َرَأ ْيتُم مّا كُنتُمْ َت ْعبُدُونَ‪.‬‬
‫أَنتُمْ وَآبَا ُؤكُمُ الْأَقْ َدمُونَ‪ .‬فَِإ ّنهُمْ عَ ُدوّ لّي ِإلّا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ﴾ (سورة الشعراء ‪-75 :‬‬
‫‪. )77‬‬
‫فلو قال ‪ :‬له على ألف ليرة إل ثوباًَ صح إقراره ‪ ،‬ويجب أن يبين بثوب‬
‫قيمته أقل من ألف ليرة ‪ ،‬حتى ل يستغرق المستثني المستثنى منه ‪ ،‬فإن فسره‬
‫بثوب قيمته ألف بطل تفسيره والستثناء ‪ ،‬ولزمه ألف ليرة ‪.‬‬
‫الستثناء من معين ‪:‬‬
‫يصح أيضا الستثناء من معين ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬لزيد هذه الدار إل هذا‬
‫البيت ‪ ،‬لنه إقرار وإخراج بلفظ متصل ‪ ،‬فهو كالتخصيص ‪.‬‬
‫القرار في حال المرض ‪:‬‬
‫يصح القرار في حال المرض ‪ ،‬ولو مرض موت ‪ ،‬ويكون حكمه حكم‬
‫القرار في حالة الصحة ‪ ،‬فلو اقر في صحته بدين لنسان ‪ ،‬وفي مرضه بدين‬
‫لخر صح إقراره بدين المرض ‪ ،‬ولم يقدم عليه دين الصحة ‪ .‬وكذلك يقبل إقراره‬
‫في مرض موته لوارثه كالجنبي ‪ ،‬لن الظاهر أنه محق ‪ ،‬لنه انتهي إلي حالة‬
‫يصدق فيها الكاذب ويتوب فيها الفاجر ‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫الباب التاسع‬

‫الحـــجر‬

‫‪220‬‬
‫الحـــجـــر‬

‫تعريف الحجر ‪:‬‬


‫الحجر في اللغة ‪ :‬المنع ‪ .‬والحجر في اصطلح الشريعة السلمية ‪ :‬هو‬
‫المنع من التصرفات المالية لسبب يخل بها شرعا ‪.‬‬
‫والسباب التي تخل بالتصرفات فتستوجب الحجر كثيرة ومتنوعة ‪ ،‬ويتنوع‬
‫الحجر تبعا لها ‪ .‬فمن أنواعه الحجر على المفلس لحق الغرماء ‪ ،‬والحجر على‬
‫المريض مرض الموت لحق الورثة ‪ ،‬والحجر على الصغير والمجنون محافظة‬
‫على مالهما ‪ ،‬والحجر على الراهن في التصرف في المرهون لحق المرتهن ‪.‬‬
‫وأكثر هذه النواع موزعة في أبواب فقهية مختلفة ‪ ،‬كباب الرهن ‪ ،‬والوصية ‪،‬‬
‫والردة ‪ ،‬وسنتحدث في هذا الباب عن أهم هذه النواع ‪ ،‬ونحيل علم النواع‬
‫الخرى إلي البواب التي تذكر فيها ‪ ،‬وسوف تجد أحكامها في هذه السلسلة‬
‫الفقهية‪.‬‬
‫دليل مشروع الحجر ‪:‬‬
‫الحجر بالمعني الذي ذكرناه مشروع ‪ ،‬ومقرر في الفقه ‪ ،‬ودليل تشريعه‬
‫القرآن والسنة والجماع ‪.‬‬
‫ل اللّهُ‬
‫جعَ َ‬
‫أما القرآن فقول ال عز وجل ‪ ﴿ :‬وَلَ ُت ْؤتُواْ السّ َفهَاء َأ ْموَاَلكُمُ اّلتِي َ‬
‫َلكُمْ ِقيَاما ﴾ (سورة النساء ‪. )5 :‬‬
‫[ السفهاء ‪ :‬جمع سفيه ‪ ،‬وهو الذي ل يحسن التصرف بالمال ن ويضعه‬
‫في غير مواضعه ‪ ،‬أموالكم ‪ :‬نسب المال إلي الجميع ‪ ،‬لنه مال ال تعالى ‪،‬‬
‫وللمة حق فيه وإن كان ملكا خالصا للفرد ‪ .‬قياما ‪ :‬فيه قيام معايشكم وقضاء‬
‫مصالحكم]‪.‬‬
‫ووجه الستدلل بالية أن ال عز وجل نهى الولياء أن يضعوا الموال‬
‫بين أيدي السفهاء ‪ ،‬وهذا هو الحجر عليهم ‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫ضعِيفا َأوْ لَ‬
‫عَليْهِ الْحَقّ سَفِيها َأوْ َ‬
‫وقال تبارك وتعالى ‪ ﴿ :‬فَإن كَانَ الّذِي َ‬
‫ستَطِيعُ أَن ُيمِلّ ُهوَ َف ْل ُي ْملِلْ َوِليّهُ بِا ْلعَدْلِ ﴾ ( سورة البقرة ‪. )281 :‬‬
‫يَ ْ‬
‫[ الذي عليه الحق ‪ :‬المستدين ‪ .‬ضعيفا ‪ :‬لصغر ‪ ،‬أو اختلل عقل ‪ .‬ل‬
‫يستطيع أن يمل ‪ :‬ل يحسن الملء لعقدة في لسانه ونحوه ‪ ،‬والملء هنا ‪ :‬أن‬
‫يقرأ على الكاتب عقد الدين ليكتبه]‬
‫ووجه الستدلل بالية ‪ :‬أن ال تعالى أخبر أن هؤلء ينوب عنهم أولياؤهم‬
‫في التصرف وهو معنى الحجر عليهم ‪.‬‬
‫ستُم‬
‫ح ّتىَ إِذَا َبَلغُو ْا ال ّنكَاحَ فَإِنْ آ َن ْ‬
‫وقال عز وجل أيضا ‪ ﴿ :‬وَا ْب َتلُواْ ا ْل َيتَامَى َ‬
‫ّم ْنهُمْ رُشْدا فَادْ َفعُواْ ِإَل ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُمْ ﴾ ( سورة النساء ‪. ) 6 :‬‬
‫[ ابتلوا‪ :‬اختبروا ‪ .‬اليتامى ‪ :‬جمع يتيم ‪ ،‬وهو الصغير الذي مات والده ‪.‬‬
‫ل للزواج ‪ ،‬والمراد به البلوغ ‪ .‬آنستم ‪ :‬لمستم وعرفتم ‪.‬‬
‫بلغوا النكاح ‪ :‬أصبحوا أه ً‬
‫رشدا ‪ :‬سلمة عقل وحسن تصرف وصلح دين ]‬
‫دلت الية على أن الذي لم يلمس منه الرشد ‪ ،‬ل يجوز أن يدفع له ماله ‪،‬‬
‫بل يحجر عليه حتى يرشد ‪.‬‬
‫وأما دليل السنة ‪ ،‬فما رواه عبدالرحمن بن كعب عن أبيه ‪ ،‬أن النبي‬
‫حجر على معاذ ماله ‪ ،‬وباعه على دين كان عليه ‪ .‬رواه البيهقي [‪ ]6/48‬والحاكم‬
‫[‪ ]4/101‬في الحكام وصححه ‪.‬‬
‫يوم أحد‬ ‫وروي ابن عمر رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬عرضت على النبي‬
‫وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ‪ ،‬وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس‬
‫عشرة سنة فأجازني ‪ ( .‬أخرجه البخاري [‪ ]3871‬في المغازي ‪ ،‬باب ‪ :‬غزوة‬
‫الخندق ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1868‬في المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬بيان سن البلوغ ) ‪.‬‬
‫وروي مالك [‪ ]1456‬في الوصية عن عمر رضي ال عنه قال ‪ :‬أل إن‬
‫السيفع ـ أسيفع جُهينة ـ رضي من دينه وأمانته ‪ :‬أن يقال ‪ :‬سبق الحاج ‪ ،‬فأدان‬
‫معرضا عن الوفاء ‪ ،‬فأصبح وقد رين به ن فمن كان له عنده شيء فليحضر غدا ‪،‬‬
‫فإنا ‪ :‬بائعوا ماله وقاسموه بين غرمائه ‪ ،‬ثم إياكم والدين ‪ ،‬فإن أوله هم ‪ ،‬وآخره‬
‫حزن ‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫[ فادان ‪ :‬استدان ‪ .‬رين به ‪ :‬تراكمت عليه الديون ‪ .‬غرماؤه ‪ :‬جمع غريم‬
‫وهو صاحب الدين] ‪.‬‬
‫وأما الجماع فمنعقد على مشروعية الحجر وجوازه ‪ ،‬من غير نكير من‬
‫أحد من العلماء ‪ ،‬وكيف ينكره أحد ‪ ،‬وقد دلت عليه النصوص الثابتة في القرآن‬
‫والسنة ‪.‬‬
‫الحكمة من تشريع الحجر ‪:‬‬
‫الحجر عمل سلبي احتياطي ‪ ،‬يستهدف تحقيق مصلحة المحجور عليه إن‬
‫كان طفلً أو سفيها أو نحوهما ‪ ،‬ويستهدف مصلحة غيره من ذوي الحقوق إذا كان‬
‫مفلسا ‪ ،‬ذلك لن الطفل والسفيه ومن في حكمهما كالمجنون ‪ ،‬ل تسقط أهلية‬
‫التملك والحتياز في حقهم ‪ ،‬وإنما ثمرة الملكة ما يتبعها من سياسة التصرف‬
‫كالبيع والشراء واليجار ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬وهي ل تستقيم إل على رشد كامل ونباهه‬
‫تامة في شؤون المال والدنيا ‪ ،‬فكان ل بد من كف يد هؤلء الذين لم يتكامل فيهم‬
‫الرشد والوعي الدنيوي عن التصرف بأموالهم ‪ ،‬على أن ينوب عنهم في ذلك من‬
‫توفرت لديهم هذه البصيرة الدنيوية ريثما يبلغون أشدهم ‪ ،‬ويصبحون قادرين على‬
‫إصلح أمرهم ‪.‬‬
‫أما المفلس الذي تراكمت عليه الديون ‪ ،‬فيغلب عليه أن يتناسى ـ في غمرة‬
‫الضيق الذي ينتابه ـ حقوق الخرين ‪ ،‬فيتصرف بماله الباقي عنده على نحو‬
‫يضر أصحاب الحقوق ويفوت عليهم حقوقهم ‪ ،‬أو ما يمكن أن يحصلوا منها ‪،‬‬
‫فكان في الحجر عليه عن طريق الرقابة العادلة ما يضمن توفير حق الغرماء مع‬
‫عدم الضرار به ‪ ،‬مهما أمكن ذلك ‪.‬‬
‫أنواع الحجر ‪:‬‬
‫قلنا ‪ :‬إن الحجر أنواع مختلفة ‪ ،‬ولكن الكثير من هذه النواع منتثر في‬
‫أماكنه من أبواب متفرقة في الفقه ‪ ،‬ولذا فلن نتعرض لها ههنا ‪.‬‬
‫أما النواع الرئيسية التي سوف نتناولها في هذا الباب ‪ ،‬فهي النواع التالية ‪:‬‬
‫‪-1‬الحجر على الصبي ومن في حكمه ‪ ،‬كالسفيه والمجنون ‪.‬‬
‫‪-2‬الحجر على المفلس ‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫‪-3‬الحجر على المريض المخوف عليه الموت ‪.‬‬
‫وسندرس فيما يلي كل نوع من هذه النواع الثلثة على حدة مع إيضاح‬
‫الحكام المتعلقة به ‪.‬‬
‫أحكام الحجر على الصبي ومن هو في حكمه ‪:‬‬
‫ونقصد بمن كان في حكم الصبي كلً من السفيه والمجنون ‪.‬‬
‫فأما الصبي ‪:‬‬
‫فهو من لم يحتلم ‪ ،‬أو يبلغ سن الحلم ‪ ،‬وهو خمس عشرة سنة ‪.‬‬
‫وأما السفيه ‪:‬‬
‫فهو من لم يكن رشيدا ‪ ،‬بحيث ل يقيم مصالح دينه ودنياه ‪ :‬بأن يكون‬
‫مبذرا ل يبالي أن يغبن غبنا فاحشا في معاملته ‪ ،‬أو أن يرمي ماله في غير طائل‬
‫‪ ،‬أو أن ينفقه في المحرمات التي ل وجه لها ‪.‬‬
‫وأما المجنون ‪:‬‬
‫فهو فاقد التمييز سواء كان بشكل جزئي أو كلي ‪ ،‬إذا كان ذلك يسرى‬
‫بالضطراب إلي تصرفاته المالية ‪.‬‬
‫أهم الحكام المتعلقة بالحجر على هؤلء ‪:‬‬
‫هناك أحكام تعلق بالحجر على هؤلء الصناف الثلثة من الناس نجملها‬
‫فيما يلي ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬ل يصح تصرف الصبي ول السفيه ول المجنون في بيع أو شراء أو‬
‫رهن ‪ ،‬أو هبه أو نكاح ونحوها ‪ ،‬أي ل يصح أن يكون أحدهم طرفا مستقلً في‬
‫أي عقد من العقود ‪ ،‬إذ هو ثمرة الحجر الذي دل عليه نص الكتاب الكريم والسنة‬
‫المشرفة ‪ .‬وترتب علي هذا الحكم ‪:‬‬
‫‪-1‬أنه لو اشتري أو اقترض مثلً ‪ ،‬وقبض المال ‪ ،‬ثم تلف تحت يديه بآفة ‪،‬‬
‫أو أتلفه بتقصير منه ‪ ،‬لم يضمنه المحجور عليه ‪ ،‬ولم يكن للبائع ‪ ،‬او‬
‫لمقرض حق في تضمينه ومطالبته ‪ ،‬سواء علم حاله أم لم يعلم ‪ ،‬لن عليه‬
‫ان يتحرى لمصلحته ‪ ،‬ولنه هو المفرط في حق نفسه ‪ ،‬إذ هو الذي سلط‬
‫المحجور عليه على إتلفه بإقباضه إياه ‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫نعم يضمن المحجور عليه في ثلث حالت ‪:‬‬
‫الحالة الولي ‪ :‬أن يقبضه ممن هو مثله في عدم الرشد ‪.‬‬
‫الحالة الثانية ‪ :‬أن يقبضه من رشيد ‪ ،‬ولكن بدون إذنه ‪.‬‬
‫الحالة الثالثة ‪ :‬أن يطالبه البائع ‪ ،‬أو المقرض بالتسليم ‪ ،‬فل يستجيب المحجور‬
‫عليه ثم يتلف المال المقبوض بعد ذلك ‪.‬‬
‫ففي هذه الحالت الثلث يضمن المحجور عليه ‪ ،‬أي يثبت في ذمته قيمة‬
‫المتلف ‪ ،‬لعدم وقوع أي تقصير من جانب المقبض ‪.‬‬
‫ب ـ وترتب على ذلك أيضا أنه ل يعتد بشيء من إقراراته المتعلقة بالمال ‪ ،‬سواء‬
‫كانت عائدة إلي ما قبل الحجر ‪ ،‬أو بعده ‪ ،‬كإقراره بدين ‪ ،‬أو إتلف مال‪ ،‬إذ‬
‫إن المحجور عليه بما ذكرنا ل يتمتع بأهلية تمكنه من أن يتعلق به أي‬
‫التزامات ماليه ‪ ،‬بخلف ما إذا اقر بموجب حد أو قصاص ‪ ،‬فهو إقرار‬
‫صحيح تترتب عليه أحكامه ‪ ،‬لنه غير مستوجب لي التزام مالي من حيث‬
‫الصل ‪.‬‬
‫نعم إذا أقر بعد رشده بأي التزام مالي كان قد لزمه أثناء الحجر صح إقراره‬
‫قطعا ‪ ،‬وكلف بدفعه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬يعتد بجميع التصرفات التي ل تتعلق بالمال ‪ ،‬ول تترتب عليها ذمم‬
‫مالية ‪ ،‬من الصبي ومن في حكمه ‪ ،‬وهو السفيه والمجنون ‪ .‬فتصح عباداتهم‬
‫على اختلفها ‪ ،‬إل المجنون المطبق فيما يشترط فيه التمييز ‪ .‬ولكن ليس‬
‫لهؤلء أن يتولوا تفريق زكاة أموالهم بأنفسهم ‪ ،‬إذ هو تصرف مالي ل ينفذ إل‬
‫ممن كان ذا أهلية ورشد ‪ ،‬وإنما يتولي ذلك عنه وليه ‪ ،‬أو يأذن له وليه ‪،‬‬
‫ويعين له الشخاص الذين ينبغي أن يدفع زكاته إليهم ‪ ،‬على أن يدفع المحجور‬
‫عليه إليهم بحضرة الولي وإشرافه ‪ ،‬خشية أن يتلف المال إذا خل به ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬إذا كان مصدر السفه هو الصغر ‪ ،‬أي بحيث لم يكن مسبوقا برشد ‪،‬‬
‫ترتبت الحكام المذكورة عليه بدون الحاجة إلي أدعاء ‪ ،‬ول إلي حكم قاض‬
‫بذلك ‪،‬فإذا ارتفع السفه ‪ ،‬وتحقق الرشد ‪ ،‬وانتهي الحجر بموجب ذلك ‪ ،‬ثم عاد‬

‫‪225‬‬
‫السفه لسبب عارض ‪ ،‬لم تعد هذه الحكام المذكورة إل بموجب حكم يصدره‬
‫القاضي ‪ ،‬ومثل السفه في ذلك الجنون ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬ولي الصبي ومن في حكمه ‪ ،‬ممن لم يطرأ موجب الحجر عليه‬
‫عرضا ‪ ،‬بل نشأ معه منذ صغره ‪ ،‬وهو الب ‪ ،‬ثم الجد للب وإن عل ‪ ،‬ثم‬
‫وصيهما ‪ ،‬بشرط العدالة في كل منهما ‪ ،‬فإن فسق الولي بعد أن كان عدلً نزع‬
‫القاضي الولية منه ‪ ،‬واختار لها من يراه ‪ ،‬أو باشرها بذاته ‪ ،‬وذلك لما رواه‬
‫الترمذي [‪ ]1102‬في النكاح ‪ ،‬باب ‪ :‬ما جاء ل نكاح إل بولي ‪ ،‬بسند حسن ‪،‬‬
‫قال ‪ " :‬السلطان ولي من ل ولي له " ‪.‬‬ ‫أن النبي‬
‫أما من طرأ عليه السفه أو الجنون بعد رشد ‪ ،‬فإن وليه القاضي ‪ ،‬أو من‬
‫ينيبه عنه ‪ ،‬إذ هو الذي يملك ضرب الحجر عليه ‪ ،‬فكان حق الولية له ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬يجب على الولي أيا كان أن يتصرف بمال المحجور عليه حسب‬
‫ما تقتضيه المصلحة ‪ ،‬بأن يحفظه عن التلف ‪ ،‬وينميه بالوسائل الممكنة ‪ ،‬التي‬
‫ل مقامرة فيها ‪ ،‬فيتاجر به ‪ ،‬أو يبتاع به عقارا ‪ ،‬أو يسخره في غير ذلك من‬
‫وجوه التنمية التي يغلب فيها احتمال الغبطة والربح ‪ ،‬وذلك لقوله تعالى ‪﴿ :‬وَلَ‬
‫ل اللّهُ َلكُمْ ِقيَاما وَا ْرزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ‬
‫جعَ َ‬
‫ُت ْؤتُواْ السّ َفهَاء َأ ْموَاَلكُمُ اّلتِي َ‬
‫َلهُمْ َقوْلً ّم ْعرُوفا ﴾ (سورة النساء‪. )5 :‬‬
‫ومكان الستدلل في الية ‪ :‬قوله تعالى ‪ ﴿ :‬وَا ْرزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾ فقد عدى‬
‫الفعل (بفي ) ولم يعده (بمن) تنبيها إلي أن على الولي أن ينفق على موليه من‬
‫ريع ماله ‪ ،‬ل من عينه بحيث يبقي ماله بذلك أشبه ببيت يستقر فيه ‪ ،‬ل يأتي‬
‫عليه نقصان ول تلف ‪.‬‬
‫فإن راعي الولي وجه الغبطة والحيطة في تنمية مال موليه ‪ ،‬فخسر المال‬
‫لسبب ل بد له فيه ‪ ،‬لم يضمن ‪ ،‬ويصدق الولي بيمينه ‪ ،‬إن وقع خلف بينه‬
‫وبين المحجور عليه بعد الرشد ‪.‬‬
‫وهل يجوز للولي أن يأخذ أجرا على رعايته لمال المحجور ؟ الصحيح أنه‬
‫إن كان غنيا لم يجز له ذلك ‪, ،‬إن كان فقيرا ‪ ،‬وشغلته هذه الرعاية عن كسبه‬
‫والتفرغ لشأن نفسه ‪ ،‬جاز له أن يأخذ أجرا على ذلك بالمعروف ‪ .‬وإنما يعين‬

‫‪226‬‬
‫القدر الذي يقضي به العرف الحاكم أو من يقوم مقامه ‪ .‬ودليل هذا الحكم قول‬
‫س َتعْ ِففْ َومَن كَانَ فَقِيرا َف ْليَ ْأكُلْ بِا ْل َم ْعرُوفِ‬
‫غ ِنيّا َف ْليَ ْ‬
‫ال عز وجل ‪َ ﴿ :‬ومَن كَانَ َ‬
‫عَل ْيهِمْ َوكَفَى بِاللّهِ حَسِيبا ﴾ (سورة النساء ‪.)6:‬‬
‫شهِدُواْ َ‬
‫فَإِذَا دَ َف ْعتُمْ ِإَل ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُمْ فَأَ ْ‬
‫أحكام الحجر على المفلس ‪:‬‬
‫المفلس في اللغة ‪ ،‬مأخوذ من الفلس ‪ ،‬وهو أقل النقود قيمة ‪ ،‬ويقصد به من‬
‫تحولت أمواله إلي فلوس ‪،‬كناية عن افتقاره ‪.‬‬
‫أما المفلس في اصطلح الشريعة السلمية ‪ ،‬فهو من تراكمت عليه ديون‬
‫حالة زائدة على ماله ‪.‬‬
‫وللحجر على المفلس أحكام مختلفة نجمل أهمها فيما يلي ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬ل يجوز الحجر علي المفلس إل إذا زادت الديون التي عليه عن‬
‫الموال التي يملكها ‪ ،‬فإذا تساويا ‪ ،‬أو زادت ممتلكاته عليها لم يجز الحجر‬
‫عليه ‪ ،‬سواء كانت نفقاته من هذه الموال ذاتها ‪ ،‬أم من كسب يومي يكتسبه ‪،‬‬
‫لن الدلة التي دلت على مشروعية الحجر على المفلس خاصة بما إذا زادت‬
‫الديون التي عليه على ممتلكاته ‪ ،‬ومنها حديث حجره عليه الصلة والسلم‬
‫على معاذ بن جبل السابق ذكره ‪ ،‬عند عرض الدلة ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ل يحجر على المفلس إل بسؤال الغرماء ذلك ‪ ،‬فإن اختلفوا فيما‬
‫بينهم استجيب لرغبة طالبي الحجر يشرط أن تزيد ديونهم بمفردها على‬
‫مجموع ماله ‪.‬‬
‫لما حجر على معاذ طلب غرماؤه ذلك ‪ ،‬ولن الحجر‬ ‫ذلك لن النبي‬
‫إنما هو لمصلحة الغرماء ‪ ،‬فإذا لم يصرحوا بطلب الحجر ‪ ،‬فإن ذلك يعني أنه‬
‫لم يتبين لهم مصلحة في الحجر ‪ ،‬فل يضار المفلس بذلك ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬إذا أوقع الحاكم الحجر على المفلس ‪ ،‬تحولت حقوق الغرماء من‬
‫التعلق بذمته إلي التعلق بأمواله ‪ :‬أي إن شأنها يصبح كشأن العين المرهونة‬
‫التي يتعلق بها حق المرتهن ‪.‬‬
‫ولذلك يعطيهم الشارع حق التسلط على هذه الموال ‪ ،‬باستيفاء حقوقهم‬
‫وديونهم منها ‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫رابعا ‪ :‬يسن للحاكم أن يشهر قرار الحجر على المفلس حتى يتقلي الناس‬
‫من التعامل المطلق معه ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬يجيب على الحاكم أو من ينيبه عنه أن يبيع ماله ‪ ،‬ثم يقسم القيمة‬
‫بين الغرماء حسب دين كل منهم ‪ ،‬ويسن أن يبادر بذلك قدر المكان ‪ ،‬وعليه‬
‫أن يتبع مصلحة المحجور عليه في طريقة البيع وكيفيته ‪ ،‬كأن يقدم أولً بيع ما‬
‫يسرع فساده ‪ ،‬كالطعام ونحوه ‪ ،‬ثم المنقول ‪ ،‬ثم العقار ‪ ،‬وكأن يبيع كل شيء‬
‫في سوقه وثمنه الذي يستحقه ويسن أن يكون ذلك بمشهد من المحجور عليه ‪،‬‬
‫وأصحاب الحقوق ‪.‬‬
‫ويجب أن يبقي له الحاكم حاجاته ‪ ،‬وحاجات أهله الضرورية بالمستوي‬
‫اللئق به ‪ ،‬من ثياب وقوت ومسكن ‪ ،‬فإن كان يمتع نفسه من ذلك ما يزيد‬
‫على اللئق به نزل به إلي الحد الذي يرى أنه اللئق به‬
‫سادسا ‪ :‬إذا قسم المال أو ثمنه على الغارمين ‪ ،‬كل منهم بنسبة وجب‬
‫عليهم أن يمهلوه فيما بقي لهم عليه ‪ ،‬إلي أن تحل عقدة عسرته ‪ ،‬وذلك عملً‬
‫س َرةٍ َوأَن َتصَدّقُواْ‬
‫ظ َرةٌ ِإلَى َميْ َ‬
‫س َرةٍ َفنَ ِ‬
‫بقول ال عز وجل ‪َ ﴿ :‬وإِن كَانَ ذُو عُ ْ‬
‫خ ْيرٌ ّلكُمْ إِن كُنتُمْ َت ْعَلمُونَ ﴾ (سورة البقرة ‪ ، )280 :‬ولما رواه مسلم عن أبي‬
‫َ‬
‫في‬ ‫سعيد الخدري رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬أصيب رجل في عهد رسول ال‬
‫‪ " :‬تصدقوا عليه " ‪،‬‬ ‫ثمار ابتاعها ‪ ،‬فكثرت ديونه ‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫( خذوا ما‬ ‫فتصدق الناس عليه ‪ ،‬ولم يبلغ ذلك وفاء دينه ‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫وجدتم ‪ ،‬وليس لكم إل ذلك " ‪.‬‬
‫ويترتب على ذلك أن المحجور عليه ل يطالب بعد تقسيم ماله بين الغرماء‪،‬‬
‫أن يكتسب لحسابهم ‪ ،‬أو أن يؤجر نفسه لهم ‪ ،‬كي يوفي بقية حقوقهم عليه ‪.‬‬
‫تصرف المفلس بعد الحجر عليه ‪:‬‬
‫يترتب على الحجر على المفلس ‪ ،‬وما يتعلق به من الحكام التي ذكرناها ‪،‬‬
‫كف يد المحجور عليه عن التصرفات المالية المختلفة ‪ ،‬إذ تنحسر علقته عن‬
‫أمواله عد الحجر ‪ ،‬لتحل محلها حقوق الغارمين ‪ ،‬وإن كانت ملكيته باقية ‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫ويمكن أن نجمل لك خلصة الحكام المتعلقة بتصرفات المفلس بعد الحجر‬
‫عليه فيما يلي ‪:‬‬
‫‪-1‬ل يصح من المفلس المحجور عليه أن تصرف مالي ‪ :‬كالبيع والرهن‬
‫والهبة واليجار ‪ ،‬أذا كان متعلقا بعين ماله وهو القول الصحيح في‬
‫مذهب المام الشافعي رحمه ال تعالى ‪ ،‬والرأي المقابل له ـ وهو‬
‫ضعيف ـ يرى أنه تصرف موقوف ‪ ،‬فإن تبين أنه قد زاد عن ديون‬
‫الغارمين نفذ ‪ ،‬وإل فل ‪.‬‬
‫ب ـ يصح من المفلس المحجور عليه جميع التصرفات المالية إذا كانت‬
‫متعلقة بذمته ‪ ،‬كما لو باع على وجه السلم ‪ ،‬أو باع موصوفا بالذمة ‪ ،‬إذ ل‬
‫ضرر على الغرماء في ذلك ‪.‬‬
‫ج ـ يصح منه جميع التصرفات التي ل تتعلق بشيء من أمواله العينية ن‬
‫سواء تعلق بالذمة ‪ ،‬كما ذكرنا في الفقرة (ب) السابقة ‪ ،‬أو لم يتعلق بمال قط ‪،‬‬
‫فيصح نكاحه وطلقه ‪ ،‬وخلعه ‪ ،‬واقتصاصه ممن ثبت له عليه حق القصاص ‪،‬‬
‫أو إسقاطه ذلك ‪ ،‬سواء تحول عنه إلى الدية ‪ ،‬أو عفا عن الدية أيضا ‪.‬‬
‫نعم إذا كانت الزوجة هي المحجور عليها ‪ ،‬لم يصح لها أن تخالع نفسها ‪،‬‬
‫لنه تصرف يتعلق ببعض مالها الذي تعلقه به حق الغرماء ‪.‬‬
‫د‪ -‬يصح منه كل إقرار بحق أو مال ‪ ،‬يعود وجوبه إلى ما قبل الحجر عليه ‪،‬‬
‫ويترتب عليه خضوع أمواله العينية التي وقع الحجر عليها لما يقتضيه ذلك‬
‫القرار من تعلق حقوق أخري بها ‪ ،‬واشتراك آخرين مع الغرماء في قسمتها‬
‫بينهم‪.‬‬
‫أما إن أقر بحقوق ترتبت على ماله بعد الحجر ‪ ،‬فهو إقرار مرفوض ليس‬
‫على الغرماء أن يخضعوا له ‪ .‬ومن ثم فليس للشخاص الذين اقر المفلس‬
‫لمصلحتهم أن يشركوهم في تقاسم أمواله ‪،‬بل ينتظرون فك الحجر عنه ‪.‬‬
‫أحكام تصرف المريض المخوف عليه من الموت ‪:‬‬
‫تعريفه ‪:‬‬

‫‪229‬‬
‫المريض المخوف عليه من الموت ‪ :‬هو من أصيب بمرض من شأنه أن‬
‫ينتهي بالموت إذا اشتد ‪ ،‬ثم برح به هذا المرض إلى درجة جعلت الطبيب‬
‫وأصحاب الخبرة يحذرون عليه من الموت ‪.‬‬
‫ويقاس على هذا المريض من هم في حكمه ‪ ،‬مثل حالة التحام القتال ‪ ،‬أو‬
‫تموج البحر واشتداد العاصفة به ‪ ،‬أو اشتداد طلق الولدة ‪.‬‬
‫وخرج بما ذكرنا وجع الضرس مثلً ‪ ،‬فإنه ل يدخل في حكم المرض‬
‫المخوف منهما كان شديدا ‪ ،‬إذ ليس من شأنه عادة أن ينتهي بالموت ‪.‬‬
‫الحكام المتعلقة به ‪:‬‬
‫وإليك أهم الحكام المتعلقة بهذا المريض‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬إذا لم يكن له وارث خاص ‪ ،‬أو كان له وارث غير جائز التصرف‬
‫كطفل صغير مثلً ‪ ،‬لم يجز له أن يتصرف فيما يزيد على ثلث ماله ‪ ،‬سواء كان‬
‫تصرفا ناجزا ‪ ،‬أو تصرفا معلقا على الموت ‪ ،‬كالوصية ‪ ،‬فإن تصرف غير ملتزم‬
‫بهذا الحد نفذ منها ما كان داخلً في الثلث وطل الزائد ‪.‬‬
‫هذا إذا جاءت تصرفاته متتابعة ‪ ،‬فإن وقعت دفعة واحدة ‪ ،‬قسم الثلث عليها‬
‫حسب نسبة كل منها إن أمكن ‪ ،‬وإل بطل جميعها ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬إذا كان له وارث خاص ‪ ،‬وكان جائز التصرف توقفت تصرفاته‬
‫فيما زاد على ثلث ماله على إجازة وارثه ‪ ،‬فإن أجازها صحت ‪ ،‬وإل آلت إلى‬
‫البطلن ‪.‬‬
‫والعبرة بإجازته لها أو عدم أجازته بعد الموت ‪.‬‬
‫ودليل ما سبق ما رواه البخاري [‪ ]1233‬في الجنائز ‪ ،‬باب ‪ :‬رثاء النبي‬
‫سعد بن خولة ؛ ومسلم [‪ ]1628‬في الوصية ‪ ،‬باب ‪ :‬الوصية بالثلث ‪ ،‬عن سعد‬
‫يعودني عام حجة الوداع‬ ‫بن أبي وقاص رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬كان رسول ال‬
‫من وجع اشتد بي ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول ال إني قد بلغ بي من الوجع ‪ ،‬وأنا ذو مال ‪،‬‬
‫ول يرثني إل ابنة ‪ ،‬أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال " ل " فقلت ‪ :‬بالشطر ؟ فقال ‪" :‬‬
‫ل " ثم قال " الثلث ‪ ،‬والثلث كبير ‪ ،‬أو كثير ‪ ،‬إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من‬
‫أن تذرهم عالة يتكففون الناس " ‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫ثالثا ‪ :‬محل هذا الحكم السابق الذي ذكرناه إذا لم يكن على المريض دين‬
‫يستغرق جميع تركته ‪،‬فإن كان عليه ذلك حجر عليه في الجميع دون نظر إلي‬
‫الثلث وغيره ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬ينبغي أن نفرق فيما ذكرناه بين التبرعات والتصرفات ‪ ،‬أو النفقات‬
‫الواجبة ‪.‬‬
‫فأما التبرعات فينطبق عليه ما ذكرناه في البنود الثلثة الماضية ‪.‬‬
‫وأما التصرفات ‪ ،‬أو النفقات الواجبة ‪ ،‬فإن أنجزها في حياته ‪ ،‬فهي من‬
‫رأس المال كله ‪ ،‬وإن أوصي بها إلي ما بعد موته ‪ ،‬كما لو أوصي بأداء دين ‪ ،‬أو‬
‫حج واجب عليه ‪ ،‬أو زكاة ‪ ،‬فإن أطلق الوصية بها فهي من رأس ماله ‪ ،‬وإن‬
‫قيدها بالثلث اعتبرت منه ‪ ،‬ولكن يجب أن تتمم ما زاد عليه إن لم يف بها الثلث ‪.‬‬
‫وما الفائدة إذاَ من التقيد بالثلث ؟‬
‫الفائدة تظهر فيما لو كان قد أوصى بتبرعات غيرها ‪ ،‬فإن هذه الواجبات‬
‫تزاحمها عندئذ ‪ ،‬حتى إذا لم يتسع الثلث للجميع أُلغيت التبرعات ‪ ،‬أو أُلغي منها‬
‫بالقدر الذي يكفي لتنفيذ الواجبات ‪ ،‬وهكذا فإن فائدة التقيد بالثلث تؤول إلى النظر‬
‫في مصلحة الورثة كي ل تستهلك الوصايا قدرا كبيرا من التركة ‪.‬‬
‫البلوغ والرشد وطريقة معرفة كل منهما ‪:‬‬
‫علق ال تعالى انتهاء الحجر على الصغار ‪ ،‬بظهور صفتين فيهم ‪ ،‬وهما‬
‫البلوغ والرشد ‪.‬‬
‫ستُم ّم ْنهُمْ‬
‫ح ّتىَ إِذَا َبَلغُو ْا ال ّنكَاحَ فَإِنْ آنَ ْ‬
‫قال تبارك وتعالى ‪ ﴿ :‬وَا ْب َتلُواْ ا ْل َيتَامَى َ‬
‫رُشْدا فَادْ َفعُواْ ِإَل ْيهِمْ َأ ْموَالَهُمْ ﴾ (سورة النساء ‪. )6 :‬‬
‫فما معنى كل منهما ‪ ،‬وكيف السبيل إلى التحقق منهما ؟‬
‫أما البلوغ ‪ :‬فالمقصود به بلوغ السن التي يتأهل فيها النسان للتكليفات اللهية‪،‬‬
‫إذ كان سويا في نشأته النسانية العامة ‪ .‬وسن البلوغ يعرف بواحد من هذه‬
‫الشياء‪:‬‬
‫‪-1‬استكمال الخامسة عشرة من العمر ‪ ،‬سواء كان ذكرا أم أنثي ‪.‬‬
‫‪-2‬الحتلم ‪ ،‬بخروج المنى من الذكر أو النثى ‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫‪-3‬رؤية دم الحيض بالنسبة للنثى ‪.‬‬
‫والوقت الذي يمكن أن يحصل فيه الحتلم ‪ ،‬أو الحيض يبدأ من استكمال تسع‬
‫سنين من العمر ‪.‬‬
‫ثم إن التأخر وعدمه عن سن المكان هذه يتبع طبيعة القاليم ‪ ،‬وظروف‬
‫الحياة‪.‬‬
‫وأما الرشد ‪ :‬فالمقصود به الهتداء إلي سبيل حفظ الموال ورعايتها ‪ ،‬ويتضح‬
‫ذلك بالختبار والتجربة ‪،‬وهل يشترط أن يضم ذلك إلى صلح في الدين أيضا ؟‬
‫مذهب جمهور من أصحاب الشافعي رحمهم ال تعالى أنه يشترط ذلك ‪ ،‬فل‬
‫يسمى رشيدا إل من اهتدي إلى سبيل الخير في دينه ودنياه ‪ ،‬وذهب فريق من‬
‫علماء المذهب إلي أن المطلوب هنا الرشد في شؤون المال والدنيا ن إ ذ هو محل‬
‫البحث في هذا المقام ‪.‬‬
‫إذا علمت هذا ‪ ،‬فلتعلم أنه ل بد لرفع الحجر عن الصغير من تحقق كل من‬
‫وصفي ‪ :‬البلوغ والرشد ‪.‬‬
‫فلو لوحظ في تصرفاته الرشد ‪ ،‬وهو دون البلوغ ‪ ،‬لم يكن له أي أثر ‪ ،‬ولو‬
‫بلغ الحلم ولم يلحظ فيه الرشد لم يكن لبلوغه أيضا أي أثر مهما تطاول به العمر‪.‬‬
‫ح ّتىَ إِذَا َبَلغُو ْا ال ّنكَاحَ فَإِنْ‬
‫نلحظ هذا في قول ال عز وجل ‪ ﴿ :‬وَا ْب َتلُواْ ا ْل َيتَامَى َ‬
‫ستُم ّم ْنهُمْ رُشْدا فَا ْد َفعُواْ ِإَل ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُمْ ﴾ ( سورة النساء ‪. ) 6 :‬‬
‫آنَ ْ‬
‫فقد جعل الرشد شرطا للبلوغ المستلزم رفع الحجر ‪.‬‬
‫الفسق بعد البلوغ وما يترتب عليه ‪:‬‬
‫والفسق ‪ :‬أن يتجاوز الرجل حدود أوامر ال تعالى ‪ :‬بأن يرتكب كبيرة من‬
‫الكبائر ‪ ،‬ول يتوب عنها ‪ ،‬أو أن يثابر على ارتكاب بعض الصغائر من‬
‫المحرمات ‪ .‬وقد عرفت فيما سبق ضابط كل من الكبائر ‪ ،‬والصغائر من‬
‫المعاصي ‪.‬‬
‫فإذا رفع الحجر عن البالغ الراشد ‪ ،‬ثم فسق في سلوكه مع صلح تصرفاته‬
‫الدنيوية ‪ ،‬فهل يعود الحجر عليه ؟‬

‫‪232‬‬
‫الصحيح في المذهب ‪ ،‬أنه ل يُعاد الحجر عليه بسبب ذلك ‪ ،‬إذا لم يؤثر في‬
‫عهد الصحابة ‪ ،‬ول في عهد التابعين أنهم كانوا يعيدون الحجر على من انحرف‬
‫إلي الفسوق بعد الستقامة ‪.‬‬
‫والفرق بين هذه الصورة ‪ ،‬وصورة بلوغه فاسقا عند الجمهور القائلين بأن‬
‫الرشد هو الهداية إلي صلح الدين والدنيا معا ‪ ،‬أن الحجر هناك مستمر ن فل‬
‫يرتفع إل بزوال مجموع أسبابه ‪ ،‬إذ الصل بقاء ما كان على حاله ‪ ،‬فإذا ارتفع‬
‫بعد ذلك لم يجز أن يعود ثانية إل بوجود مجموع أسبابه أيضا ‪ ،‬وإنما الفسق سبب‬
‫واحد فقط ‪.‬‬
‫أما إذا صاحبه سفه جديد ‪ ،‬أي سوء تصرف في شؤونه المالية ‪ ،‬فإن ذلك‬
‫يستوجب عود الحجر عليه ‪ ،‬ولكن بشرط أن يقضي بذلك الحاكم أو نائبه ‪ .‬ول‬
‫عبرة بولية أقاربه حينئذ على الصحيح ‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫الباب العاشر‬

‫المَامَة العظمَي‬

‫‪234‬‬
‫المامة العظمي‬
‫مقدمة في بيان أهمية المامة ‪،‬‬
‫وقيام الحكم والمجتمع السلمي على سلمتها‬
‫المامة العظمي منصب ديني يخلف النبوة ‪ ،‬بحيث يكون المام خليفة عن‬
‫في إدارة شؤون المسلمين ‪،‬مع ملحظة فارق واحد ‪ ،‬هو أن النبي‬ ‫النبي‬
‫يتلقي الحكام التي يلزم بها أمته وحيا من عند ال عز وجل ‪ ،‬أما المام فهو‬
‫يتلقاها نصوصا ثابتة من الكتاب والسنة ‪ ،‬أو إجماعا التقى عليه المسلمون ‪ ،‬أو‬
‫يجتهد في شأنها طبق الدلة العامة ‪ ،‬والقواعد الثابتة ‪ ،‬إن لم يجد فيها نصا ولم‬
‫يتعلق بها إجماع ‪.‬‬
‫ومنصب المامة ‪ ،‬ذو أهمية قصوى في تحقيق الوجود المعنوي للمسلمين ‪،‬‬
‫فكان ل بد من إيجاد إمام لهم ‪ ،‬وتنصيبه عليهم ‪ ،‬للسباب التالية ‪:‬‬
‫‪-1‬من أعظم الواجبات التي أمر ال بها عباده المسلمين أن يجتمعوا على‬
‫حبل ال عز وجل ‪ ،‬ول يتفرقوا أو يتنازعوا فيما بينهم ‪ ،‬ول يمكن لي‬
‫أمة أن تنجوا من بلء التفرق والتنازع إل إذا أسلمت مقادتها لكبير فيها‬
‫‪ ،‬تجتمع الكلمة على رأيه ‪ ،‬وتخضع الراء لحكمه ‪ ،‬ويكون من سائر‬
‫أفراد المة كالقطب من الدائرة ‪ ،‬يجسد وحدتهم ‪ ،‬ويرعى بقيادته‬
‫قوتهم ‪ ،‬وهى حاجة ماسة في استقامة النظام ‪ ،‬واتساق الوضاع ‪،‬‬
‫يشعر بها حتى عالم الحيوانات والبهائم ‪.‬‬
‫ب ـ إن شطرا كبيرا من أحكام الشريعة السلمية منوطة ـ من الناحية‬
‫التنفيذية ـ بسلطة المام ‪ ،‬بحيث ل عبرة في تنفيذها والقيام بشأنها إل‬
‫بواسطته وإشرافه ‪:‬‬
‫كالفصل في الخصومات ‪ ،‬وتعيين الولياء ‪ ،‬وإعلن الحجر ‪ ،‬والحرب‬
‫وإقرار الصلح ‪ ...‬إلخ ‪ ،‬فكان ل بد ‪ ،‬لكي تنزل الحكام الشرعية منزلتها‬

‫‪235‬‬
‫الصحيحة المقبولة عند ال عز وجل من وجود إمام يقوم بشأنها ‪ ،‬ويرعى‬
‫تنفيذها ‪.‬‬
‫جـ‪ -‬في الشريعة السلمية طائفة كبيرة من الحكام المعلقة التي لم يجزم الشارع‬
‫بوجه معين ثابت فيها ‪ ،‬بل وكل أمر البت فيها إلى بصيرة المام أو اجتهاده طبقا‬
‫لما تقتضيه مصالح المسلمين وظروفهم التي يمرون فيها ‪ ،‬مثل كثير من‬
‫التنظيمات المالية ‪ ،‬وكتسيير الجيوش ‪ ،‬وسياسة السرى ‪ ،‬فإذا لم يكن ثمة إمام‬
‫يتبوأ منصبة المامة عن كفاءة وجدارة ‪ ،‬بقيت هذه المور معلقة ل مجال للبت‬
‫فيها بحكم ‪.‬‬
‫د‪ -‬المة السلمية معرضة في كل وقت لظهور طائفة فيها تبغي وتشق عصا‬
‫المسلمين بسائق من الهواء أو الفكار الجانحة باسم الدين والصلح ‪.‬‬
‫ول سبيل إلى إطفاء نار مثل هذه الفتنة إل بواسطة إمام مسلم عادل ‪،‬‬
‫يوضح للمة المنهج السليم ‪ ،‬ويحذرها من النصياع للسبل الخرى ‪ ،‬فإن المة‬
‫عندئذ ل يمكن أن تقع ـ بسبب الجهالة ـ في الحيرة أو اللبس ‪ ،‬لن ما يأمر به‬
‫المام هو الذي يجب العمل به في حكم ال عز وجل ‪.‬‬
‫أما عند غياب هذا المام ‪ ،‬فإن أصحاب الدعوات المختلفة من شأنهم أن‬
‫يوقعوا أشتات المسلمين في حيرة مهلكة ‪ ،‬ل مناص منها ‪ ،‬إذ سرعان ما ينقسم‬
‫المسلمون شيعا وأحزابا متطاحنة ‪ ،‬وما هو إل أن يفنيها الشقاق ‪ ،‬ويهلكها‬
‫الخلف‪.‬‬
‫شروط المامة ‪:‬‬
‫يشترط لمن يتبوأ منصب المامة أن تتوفر فيه الصفات التالية ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬السلم ‪ ،‬فل تصح إمامة غير المسلم ‪ ،‬لنها من الحكام الشرعية‬
‫المتعلقة بتنظيم شؤون المسلمين ‪ ،‬فل يمكن أن تسند إلى من ل يؤمن بهذه‬
‫الحكام‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الذكورة ‪ ،‬فل تصح إمامة النثى ‪ ،‬لما ثبت في الحديث الصحيح أن‬
‫قال ‪ " :‬لن يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة " ‪ ( .‬أخرجه البخاري [‪]4163‬‬ ‫النبي‬
‫إلى كسري وقيصر ‪ ،‬عن أبي بكرة رضي‬ ‫في المغازي ‪ ،‬باب ‪ :‬كتاب النبي‬

‫‪236‬‬
‫ال عنه ) ‪ ،‬ولن المامة العظمي من شأنها أن تستوعب حل المشكلت المختلفة‬
‫التي قد يتعرض لها المسلمون ‪ ،‬وفي هذا المشكلت ما ل تقوي المرأة على‬
‫مجابهتها وحلها ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الرشد ‪ ،‬فل تصح إمامة الصبي والسفيه ونحوهما ‪ ،‬وإن توفر‬
‫أنه‬ ‫مستشارون من حولهما ‪ ،‬وقد روي المام أحمد رحمه ال تعالى عن النبي‬
‫قال ‪ :‬تعوذوا بال من إمارة الصبيان " ‪. ]2/326[ .‬‬
‫رابعا ‪ :‬العدالة ‪ ،‬والعدل ‪ :‬هو من لم يرتكب كبيرة ‪ ،‬كالقتل والزنى وأكل‬
‫الربا ‪ ،‬ولم يلزم ارتكاب صغيرة من الصغائر ‪ ،‬فل يصح تنصيب الفاسق ‪ ،‬وهو من‬
‫لم تتوفر فيه شروط العدالة ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬أن يكون لديه من العلم بأحكام الدين وأدلتها ما يجعله ذا بصيرة‬
‫نافذة تمكنه من الجتهاد فيها عندما تقتضي الحاجة ‪ .‬إذ إن في الشريعة السلمية‬
‫ـ إل إمام‬ ‫مسائل كثيرة ‪ ،‬ل يجوز أن يبت في أحكامها ـ بعد رسول ال‬
‫المسلمين ‪ ،‬وإنما يبت فيها اجتهادا ونظرا إلى ما تقتضيه مصالح المسلمين ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬سلمة كلّ من حاسة السمع والبصر واللسان ‪ ،‬بحيث ل يكون‬
‫مصابا بعاهة في واحدة منها ‪ ،‬إذ من شأن ذلك أن يعيقه عن فصل المور ‪،‬‬
‫والنظر فيها على وجه الدقة المطلوبة ‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬النباهة والوعي العام ‪ ،‬بحيث يتوفر له من ذلك ما يجعله كفؤا‬
‫لدارة الحكم وحراسة البلد والمة من أي شر قد يتهددها ‪ .‬وإنما يدرك هذه‬
‫النباهة ويقدرها أصحاب النظر وأهل الشورى ‪ ،‬ومن كان له سبق معاناة لهذا‬
‫المور ‪.‬‬
‫ثامنا ‪ :‬أن يكون قرشي النسب ‪ ،‬وذلك لما رواه أحمد في مسنده [‪]3/129‬‬
‫أنه قال ‪ " :‬الئمة من قريش " ‪.‬‬ ‫عن انس رضي ال عنه عن النبي‬
‫قال "‬ ‫وقد روي البخاري [‪ ]3309‬في النبياء ‪ :‬مناقب قريش ‪ ،‬أن النبي‬
‫إن هذا المر في قريش " ‪.‬‬
‫وروي مسلم [‪ ]1818‬في المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬الناس تبع لقريش ‪ ،‬أن النبي‬
‫قال ‪ " :‬الناس تبع لقريش في هذا الشأن " ‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫وليس مع هذه النصوص كما يقال الماوردي ـ المسلم بها ـ شبهة لمنازع‬
‫فيه ‪ ،‬ول قول لمخالف له ‪.‬‬
‫هذا إذا توفر القرشي الجامع لهذه الصفات السابقة ‪ ،‬فإن لم يتوفر فليكن‬
‫عربيا في النسب ‪ ،‬أي من أصل عربي قديم ‪ ،‬فإن لم يوجد عربي أيضا له ما‬
‫ذكرنا من الصفات ‪ ،‬اقتصر على اشتراط الصفات السبع السابقة ‪ ،‬أيا كان نسبة ‪.‬‬
‫أما إذا فقد بعض تلك الشرائط أيضا ‪ ،‬فيجب عندئذ تقديم صفات الكفاءة‬
‫على صفات الصلح الشخصي ‪ ،‬فيقدم مثلً البصير بشؤون الحكم البارع في إدارة‬
‫المور ‪ ،‬وإن كان مجروح العدالة بسبب سلوك شخصي فيه ‪ ،‬علي الذي لم تتوفر‬
‫فيه تلك الكفاءة وإن كان صالحا مستقيما في شخصه ‪ ،‬إل أن شرط السلم لبد‬
‫أن يكون متحققا فيه ‪.‬‬
‫كيفية انعقاد المامة ‪:‬‬
‫تنعقد المام بواحدة من الطرق التالية ‪:‬‬
‫الطريقة الولي ‪:‬‬
‫البيعة ‪ ،‬وسنتكلم بعد قليل عن كيفيتها وشروطها ‪.‬‬
‫الطريقة الثانية ‪:‬‬
‫الستخلف ‪ ،‬يعنى استخلف المام لشخص يخلفه من بعده ‪ ،‬وتُعتبر هذه‬
‫الطريقة شرعية صحيحة ‪ ،‬إذا توفر فيها الشرطان التاليان ‪:‬‬
‫الشرط الول ‪ :‬أن يكون المستخلفُ جامعا لشروط المامة التي سبق ذكرها‬
‫‪ ،‬بحيث ل يوجد من يفوقه في التمتع بها فإن كانت تلك الشروط غير متوفرة‬
‫لديه ‪ ،‬أو كان غيره أغني بها منه لم تنعقد إمامته ‪.‬‬
‫الشرط الثاني ‪ :‬أن يصرح المستخلف بقبول المامة وأن يكون هذا‬
‫التصريح ـ على أصح القوال ـ في حياة المام الذي استخلفه ‪ ،‬ول مانع في أن‬
‫يتراخي ويتمهل في إبداء رأيه ‪ ،‬ول حدود مشروطة في تمهله ‪ ،‬إل أن يقع القبول‬
‫في حياة المام ‪ ،‬وقبل وفاته ‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫فإذا توفر هذان الشرطان انعقدت إمامه المستخلف بموت المام الذي قبله ‪،‬‬
‫ول يُشترط لذلك رضي أهل الحل والعقد ‪ ،‬ل في حياة المام السابق ‪ ،‬ول بعد‬
‫موته ‪.‬‬
‫ودليل ذلك إجماع المسلمين على صحة عهد أبي بكر رضي ال عنه إلي‬
‫عمر بن الخطاب رضي ال عنه ‪ ،‬بقوله المشهور ‪ ( :‬هذا ما عهد أبو بكر خليفة‬
‫عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالخرة ‪ ،‬في الحالة التي يؤمن‬ ‫رسول ال‬
‫فيها الكافر ‪ ،‬ويتقي فيها الفاجر ‪ :‬أني استعملت عليكم عمر بن الخطاب ‪ ،‬فإن بر‬
‫وعدل فذالك علمي به ‪ ،‬وإن جار وبدل فل علم بالغيب والخير أردت ) ‪.‬‬
‫هذا إذا استخلف المام واحدا بعينه ‪ ،‬فأما إذا جعل المر شورى بين جمع‬
‫من الناس ‪ ،‬وجب عليهم أن يختاروا فيما بينهم واحدا منهم بعد موت المام بشرط‬
‫أن تتوفر فيه الشروط التي سبق ذكرها ‪ .‬ودليل ذلك ما أجمع عليه المسلمون من‬
‫صحة العهد الذي عهده عمر رضي ال عنه إلى واحد من ستة ‪ ،‬فقال " هذا المر‬
‫إلى على وبإزائه الزبير ‪ ،‬وإلى عثمان وبإزائه عبدالرحمن بن عوف ‪ ،‬وإلى طلحة‬
‫وبإزائه سعد بن أبي وقاص ) ‪.‬‬
‫الطريقة الثالثة ‪:‬‬
‫الستيلء بالقوة والغلبة ‪ ،‬ولنعقاد المامة بذلك شرطان اثنان ‪:‬‬
‫الشرط الول ‪ :‬أن يكون المستولي جامعا لشروط المامة التي سبق ذكرها‪،‬‬
‫أو أن يكون أغني بهذه الشروط أو بعضها من الخرين ‪.‬‬
‫وفي عدم توفر العدالة في المستولي خلف ‪ ،‬والصحيح أن إمامته تنعقد‬
‫بالتغلب ‪ ،‬ولكنه يكون عاصيا بما فعل ‪.‬‬
‫الشرط الثاني ‪ :‬أن يكون الستيلء بعد موت المام الذي قبله ‪ ،‬أو بعد‬
‫عزله ‪ ،‬بموجب شرعي صحيح ‪ ،‬أما إذا استولي على المر في حال حياته ‪ ،‬فإن‬
‫كانت إمامة من قبله منعقدة هي الخرى بالستيلء والغلبة انعقدت للغالب منهما ‪،‬‬
‫وإن كانت منعقدة بالبيعة أو العهد ‪ ،‬لم تنعقد إمامة هذا الثاني عندئذ بالستيلء‬
‫والغلبة ‪ ،‬مهما تغلب على خصمه ‪ ،‬أو استتب له المر ‪ ،‬وعليه يحمل قول النبي‬

‫‪239‬‬
‫‪ " :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما " ‪ ( .‬رواه مسلم [‪ ]1853‬في‬
‫المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬إذا بويع لخليفتين ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري رضي ال عنه ) ‪.‬‬
‫يقول‬ ‫وروي عرفجة بن شريح رضي ال عنه قال ‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫‪ " :‬من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ‪ ،‬أو يفرق‬
‫جماعتكم فاقتلوه " ‪ ( .‬أخرجه مسلم [‪ ]1853‬في المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬حكم من فرق‬
‫أمر المسلمين وهو مجتمع ) ‪.‬‬
‫البيعة ‪ :‬شروطها وكيفيتها ‪:‬‬
‫قلنا فيما سبق ‪ :‬إن البيعة هي الطريقة الولي لنعقاد المامة ‪ ،‬والبيعة ‪:‬‬
‫هي العقد الذي يكون بين الخليفة وعامة الناس ‪ ،‬ول يكون هذا إل بعد شوري أهل‬
‫الحل والعقد ‪ ،‬وأن يقع الختيار على من استكمل صفات المامة تحقيقا ‪ ،‬وذلك‬
‫لقوله عز وجل ‪ ﴿ :‬وأمرهم شوري بينهم ﴾ ( سورة الشورى ‪.)38 :‬‬
‫إذا دخل أحدهم في السلم ‪ ،‬مد يده إلى‬ ‫وقد كان الناس في عهد النبي‬
‫وبايعه على السمع والطاعة بوصفة نبيا ‪ ،‬وبوصفه حاكما ‪ ،‬ولعلك تذكر‬ ‫النبي‬
‫من ذلك بيعة العقبة الولي والثانية في مكة ‪ ،‬وبيعة آحاد الصحابة رضي ال عنهم‬
‫عند دخولهم في السلم ‪ .‬ومن هذا قول عبادة بن الصامت رضي ال‬ ‫للنبي‬
‫على السمع والطاعة في العسر واليسر ‪،‬‬ ‫عنه ‪ ،‬قال ‪ ( :‬بايعنا رسول ال‬
‫والمنشط والمكره ‪ ،‬وعلى أثره علينا ‪ ،‬وعلى أن ل ننازع المر أهله ‪ ،‬وعلى أن‬
‫نقول بالحق أينما كنا ‪ ،‬ل نخاف في ال لومة لئم ) ‪ ( .‬رواه البخاري [‪]6774‬‬
‫في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬كيف يبايع المام الناس ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1709‬في المارة ‪ ،‬باب ‪:‬‬
‫وجوب طاعة المراء في غير معصية ‪ ،‬ومالك في الموطأ [‪ ]2/445،446‬في‬
‫الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬الترغيب في الجهاد ‪ ،‬والنسائي [‪ ]7/138،137‬في البيعة باب ‪:‬‬
‫البيعة على السمع والطاعة ‪ ،‬وابن ماجه [‪ ]2866‬في الجهاد ‪ ،‬باب ‪ :‬البيعة ) ‪.‬‬
‫[المنشط ‪ :‬المر الذي ننشط له ‪ ،‬ونخف إليه ‪ ،‬ونؤثر فعله ‪ .‬المكره ‪ :‬المر‬
‫الذي نكرهه ‪ ،‬ونتثاقل عنه ‪ .‬أثره علينا ‪ :‬الثرة ‪ :‬الستئثار بالشيء ‪ ،‬والنفراد به‬
‫‪ ،‬والمراد بالحديث ‪ :‬أنا نؤثر غيرنا على أنفسنا ‪ ،‬ونفضلهم عليها ] ‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫في إدارة‬ ‫كان لبد أن يبايع الناس من ينوب منابه ‪،‬‬ ‫فلما توفي النبي‬
‫أمور المسلمين ‪ ،‬ورعاية شؤونهم ‪ ،‬وتصريف أمور الدولة السلمية ‪ ،‬تعبيرا‬
‫واستمرار طاعتهم له ‪ ،‬بطاعة خلفائه من بعده‪.‬‬ ‫بذلك عن استمرار بيعتهم للنبي‬
‫شروط البيعة ‪:‬‬
‫وشروط البيعة لتنعقد بها الخلفة والمامة ثلثة أمور ‪:‬‬
‫المر الول ‪ :‬أن تصدر من أهل الحل والعقد ‪ ،‬من شتي القطار والبلد ‪.‬‬
‫وأهل الحل والعقد هم ‪ :‬العلماء ‪ ،‬والزعماء ‪ ،‬ووجوه الناس الذين يهرع‬
‫إليهم عادة في حل المشكلت ‪ ،‬وتدبير المور ‪ ،‬ول يشترط أن يجتمع على البيعة‬
‫جميع أهل الحل والعقد من سائر البلدان ‪ ،‬كما ل يُشترط لذلك عدد معين ‪ ،‬بل‬
‫يُكتفي بمبايعة جماهيرهم من كل بلدة ‪ ،‬سيان في ذلك الرجال والنساء ‪ ،‬سوى أن‬
‫بيعة النساء تختلف عن بيعة الرجال ‪ ،‬بأن الولي ل مصافحة فيها ‪ ،‬بل يقتصر‬
‫يوم فتح مكة ‪،‬‬ ‫فيها على المعاهدة باللسان ‪ ،‬دليل ذلك ‪ :‬مبايعة أهل مكة للنبي‬
‫فقد بايعه الرجال والنساء ‪ ،‬لكنه أحجم عن مصافحة النساء ‪.‬‬
‫فإذا بايع أهل الحل والعقد ‪ ،‬أو جماهيرهم‪ ،‬رجلً ممن توفرت لديه شروط‬
‫المامة ‪ ،‬انعقدت له المامة بذلك ‪ ،‬وكان على سائر المسلمين أن يدخلوا في بيعته‬
‫حقيقة أو حكما ‪ ،‬بأن يبايعه مباشرة ‪ ،‬أو يعقد العزم على السمع والطاعة له ضمن‬
‫الحدود المشروعة التي سوف نتحدث عنها ‪ .‬وإنما لم يشترط مبايعة جميع الناس‬
‫له ‪ ،‬واكتفي بأهل الحل والعقد منهم ‪ ،‬لن أهل الحل والعقد هم الذين ينعقد بهم‬
‫الجماع الذي هو مصدر من مصادر الشريعة وإذا قام الجماع بهم ‪،‬لم يسع بقية‬
‫الناس إل الدخول فيما اتفقوا وأجمعوا عليه ‪ ،‬إذ الجماع دليل قطعي ل تجوز‬
‫مخالفته ‪.‬‬
‫المر الثاني ‪ :‬أن يتوفر في المبايعين من أهل الحل والعقد كل من ‪:‬‬
‫‪-1‬درجة الجتهاد في موضوع المامة وأحكامها ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وصفة الشهود من العدالة وتوابعها ‪.‬‬
‫فإن لم يكونوا كذلك لم تكن بيعتهم نافذة ‪ ،‬ولم تنعقد المامة بموجبها ‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫المر الثالث ‪ :‬أن يجيبهم إليها من وقع الختيار على مبايعته ‪ ،‬بأن يظهر‬
‫الموافقة بصريح العبارة أو كنايتها ‪ ،‬فإن امتنع عنها ‪ ،‬فليس لهم أن يُكرهوه عليها‪،‬‬
‫ذلك لنها عقد مراضاة واختيار ‪ ،‬ل يصلح أن يدخله إجبار ول إكراه ‪.‬‬
‫آثار البيعة ‪:‬‬
‫فإن استقرت المامة لمن تقلدها ‪ ،‬إما ببيعة ‪ ،‬أو عهد ‪ ،‬أو استيلء مع توفر‬
‫الشروط التي ذكرناها ‪ ،‬فقد أصبح وليا لمور المسلمين ‪ ،‬وترتبت على ذلك‬
‫الواجبات التالية ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬أن يُشاع بين الناس والمة كافة أن المامة قد أفضت إليه ‪ ،‬وأن‬
‫يعرف لهم بصفاته ومزاياه ‪, ،‬إن لم يعرفوه بعينه واسمه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أن ينهض المام بالمور التالية ‪:‬‬
‫‪-1‬حفظ الدين على أصوله التي جاء بها الكتاب والسنة ‪ ،‬وأجمع عليها‬
‫سلف هذه المة ‪ ،‬بحيث إذا زاغ ذو شبهة ‪ ،‬أو نجم مبتدع أوضح له‬
‫الحجة ‪ ،‬وبين له الصواب ‪ ،‬وأخذه بما يراه من الحقوق والحدود ‪.‬‬
‫‪-2‬تنفيذ أحكام ال تعالى المتعلقة بالمعاملت المالية والمدنية والحوال‬
‫الشخصية والجنايات وغيرها ‪.‬‬
‫‪-3‬العمل على نشر الطمأنينة والمن في البلدان والقطار السلمية ‪،‬‬
‫والطرق الموصلة بعضها ببعض ‪ ،‬وتحقيق المصالح النسانية المختلفة‬
‫وحمايتها ‪ ،‬من اقتصادية واجتماعية وثقافية ‪.‬‬
‫‪-4‬تحصين الحدود والثغور بالعدة الكافية ‪،‬والقوة المانعة ‪ ،‬وتحقيق كل ما‬
‫يلزم لذلك ‪.‬‬
‫‪-5‬النهوض بأمر الدعوة السلمية في شتى أقطار العالم ‪ ،‬وجهاد من‬
‫عاند سبيل الدعوة السلمية ‪ ،‬ووقف عقبة في وجهها ‪.‬‬
‫وله في سبيل تحقيق هذه الواجبات أن يستعين بما يراه من أشكال التنظيم‬
‫للجهاز التنفيذي الذي يستعين به ‪ ،‬وبما يراه من تنصيب الولة والقضاة والوزراء‬
‫وعزلهم ‪ ،‬وتكون أحكامه في ذلك كله نافذة ‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أن تدخل ألُمة كافة في طاعته ‪ ،‬والنصياع لوامره ‪ ،‬فيما ل معصية‬
‫فيه ‪ ،‬لقول ال عز وجل ‪ ﴿ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ َوأَطِيعُواْ الرّسُولَ‬
‫‪ " :‬على المرء‬ ‫ل ْمرِ مِنكُمْ﴾ ( سورة النساء ‪ )59 :‬ولقول الرسول‬
‫َوُأ ْولِي ا َ‬
‫المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ‪ ،‬إل أن يؤمر بمعصية فل سمع ول‬
‫طاعة " ( رواه البخاري [‪ ]6725‬في الحكام ‪ ،‬باب ‪ :‬السمع والطاعة للمام ما‬
‫لم تكن معصية ‪ ،‬ومسلم [‪ ]1839‬في المارة ‪ ،‬باب ‪ :‬وجوب طاعة المراء‬
‫في غير معصية ‪ ،‬وغيرهما عن عبدال بن عمر رضي ال عنهما ) ‪.‬‬
‫قال المام النووي رحمه ال تعالى ‪ ( :‬أجمع العلماء على وجوبا ـ أي الطاعة‬
‫ـ في غير معصية ‪ ،‬وعلى تحريمها في المعصية ) ‪.‬‬
‫ول فرق في وجوب الطاعة له بين أن يكون عادلً أو جائرا ‪ ،‬ما دامت الطاعة‬
‫بذاتها ليست في معصية ‪.‬‬
‫فإذا أمر بمعصية حرمت طاعته فيها ‪ ،‬ووجب الجهر بالحق حيثما كان ‪ ،‬أما‬
‫الخروج عليه بمحاولة خلعه أو قتاله ‪ ،‬فل يجوز بإجماع المسلمين ‪ ،‬لما فيه من‬
‫تعريض وحدة المسلمين للتصدع والفتنة ‪ .‬وكالمر بالمعصية تلبسه بها ‪ ،‬يجب‬
‫على المسلمين ـ إذا كان مجاهرا بها ـ بيان الحق والجهر بالنكار عليه ‪ ،‬دون‬
‫قتاله والخروج عليه ‪.‬‬
‫هذا إذا لم يتلبس بكفر أو يأمر به ‪ ،‬فأما إذا فعل ذلك فإن إمامته تُلغي ‪،‬‬
‫ويصبح المسلمون في حل من بيعتهم له ‪.‬‬
‫وسنذكر تفصيل ذلك عند البحث في عزل المام ‪.‬‬
‫حكم الشورى ‪ ،‬والحكام التي تشرع فيها الشورى ‪:‬‬
‫الشورى ‪ ،‬والمشورة ‪ :‬هي الستعانة بآراء الخرين للوصول إلى الحقيقة ‪،‬‬
‫وحل المشكلت على أساسها ‪.‬‬
‫وتنقسم أحكام الشورى السلمية إلي طائفتين ‪:‬‬
‫الطائفة الولي ‪:‬‬
‫أحكام ترتبط بنصوص بينة واضحة من الكتاب أو السنة ‪ ،‬أو تعتمد على‬
‫دليل الجماع ‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫فهذه الحكام ل شأن لها بالشورى ‪ ،‬ول يستطيع أحد من الناس أيا كان في‬
‫مستواه أو علمه أن يغير منها ‪ ،‬أو يطور فيها ‪ ،‬وإنما وظيفة الحاكم أن يسهر على‬
‫تنفيذها ‪ ،‬كما جاءت بها النصوص ‪ ،‬أو كما استقر عليه الجماع ‪.‬‬
‫الطائفة الثانية ‪:‬‬
‫أحكام اجتهادية ‪ ،‬وهي تنقسم إلي قسمين ‪:‬‬
‫القسم الول ‪ :‬أحكام مقررة في علم ال تعالى ‪ ،‬تستوعبها أدلة التشريع من‬
‫القرآن ‪ ،‬أو السنة ‪ ،‬أو الجماع ‪ ،‬أو القياس ‪ ،‬ولكنها خفية تحتاج في استنباطها‬
‫من أدلتها إلى بحث وجهد ‪ ،‬فهذه أحكام تبليغية من ال عز وجل في جملتها‬
‫وتفصيلها ‪ ،‬يبرم في أمرها المجتهدون من علماء المسلمين ‪ ،‬سواء كانوا حكاما أو‬
‫رعايا ‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬أحكام أنزل ال تعالى كلياتها ‪ ،‬ووكل أمر تفاصيلها ‪ ،‬وكيفية‬
‫تطبيقاتها إلي مصلحة المسلمين ‪ ،‬وما تقتضيه ظروفهم وأوضاعهم المتطورة ‪ ،‬عن‬
‫طريق ما يراه الحاكم المسلم ببصيرته الواعية ‪ ،‬وإخلصه في خدمة المسلمين ‪.‬‬
‫فهذه الحكام تسمي أحكام المامة ‪ ،‬أو أحكام السياسة الشرعية ‪ ،‬ل يبرم في شأنها‬
‫إل الحاكم المجتهد ‪ ،‬وقد مر بك في أول هذا الباب أمثلة لهذه الحكام ‪.‬‬
‫فالطائفة الثانية بقسميها خاضعة للشورى ‪ ،‬بحيث ل يجوز أن يبرم المام‬
‫الحكم في شيء منها إل بعد الرجوع إلي مشورة نخبة صالحة من علماء المسلمين‬
‫ومجتهد يهم ‪.‬‬
‫ودليل هذا من القرآن الكريم ‪ ،‬قول ال عز وجل لرسوله عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ ﴿ :‬وشاورهم في المر ﴾ (سورة آل عمران ‪ ، )159 :‬وقوله تبارك‬
‫وتعالى ـ في معرض مدح الجماعة المسلمة ـ‪ ﴿ :‬وأمرهم شوري بينهم‬
‫﴾ ( سورة الشورى ‪. )38 :‬‬
‫لصحابه في مختلف شؤون‬ ‫ومن السنة النبوية ما ثبت من استشارته‬
‫المسلمين ‪ ،‬مما ليس فيه وحي جازم ‪ ،‬كاستشارته إياهم في غزوة بدر ‪ ،‬وغزوة‬
‫أُحد ‪ ،‬والخندق ‪ ،‬واستشارته لهم في أساري بدر ‪ ،‬وفي صلح الحديبية ‪ ،‬والمثلة‬
‫كثيرة كثيرة ‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫والدليل على أن الطائفة الولي من الحكام ل مجال للشورى فيها ‪ ،‬قول‬
‫ال عز وجل ‪َ :‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ َولَا ُم ْؤ ِمنَةٍ إِذَا َقضَى اللّهُ َورَسُولُهُ َأمْرا أَن َيكُونَ‬
‫ضلَالً ّمبِينا﴾ ( سورة‬
‫ل َ‬
‫ص اللّهَ َورَسُولَهُ فَقَ ْد ضَ ّ‬
‫خ َي َرةُ مِنْ َأ ْمرِهِمْ َومَن َيعْ ِ‬
‫َلهُمُ الْ ِ‬
‫لم يكن يستشير في شيء من هذه الحكام أصحابه ‪ ،‬بل‬ ‫الحزاب ‪ )36 :‬وأنه‬
‫كان يلزم نفسه وإياهم بها كما وردت ‪.‬‬
‫ولكن ينبغي أن تعلم أنه ل يوجد للشورى أي أثر ملزم للمام الذي يستشير‬
‫‪ :‬أي أن المام ليس ملزما أن يأخذ رأي الكثرية مثلً من مجلس شوراه ‪ ،‬كما هو‬
‫الشأن بالنسبة لكثير من النظم الديموقراطية ‪ .‬بل إن واجب المام أن يستعين بما‬
‫عند أهل العلم والبصيرة من وجوه الرأي ‪ ،‬وأن يتبصر بما عندهم من العلم‬
‫والنظر ‪ ،‬لعل لديهم من ذلك ما لم يتنبه هو إليه ‪ ،‬فإذا استعرض وجوه النظر‬
‫والجتهادات كلها ‪ ،‬كان عليه بعد ذلك أن يتخير أقربها إلي الصحة ‪ ،‬وأشبهها‬
‫بالحكم اللهي الثابت في علم ال عز وجل ‪ ،‬وقد علمت أن الحديث إنما هو عن‬
‫المام الذي توفرت فيه شروط المامة من علم وصل إلي درجة الجتهاد ‪،‬‬
‫وإخلص في الدين ‪ ،‬وأمانة في الخلق ‪.‬‬
‫وخلصة الفرق أن مجلس الشورى في النظم الوضعية مشرع ‪ ،‬ومن ثم‬
‫فإن رأي الكثرية ملزم ‪ ،‬ومجلس الشورى في الشريعة السلمية ناقب وباحث‬
‫عن حكم ال عز وجل ‪ ،‬فهو ليس مشرع ‪ ،‬ولذلك يستوي فيه القلة والكثرة‬
‫الغالبة ‪ ،‬إذ قد يهتدي إلى حكم ال عز وجل واحد منهم ‪ ،‬أو كثرة ساحقة فيهم ‪.‬‬
‫فأيهم ظهر الحق على لسانه وجب إتباعه ‪ ،‬وإنما يفوقهم المام بمزيد من البصيرة‬
‫الدالة على حكم ال عز وجل ‪ ،‬بدليل ما وقع عليه إجماعهم من مبايعته وارتضائه‬
‫حاكما فيهم مقدما بينهم ‪ ،‬فكان في اختياره لواحد من الراء ما يدل على رجحانه‬
‫على غيره ‪ ،‬ومن ثم فإنه يجب على كافة المسلمين إتباعه ‪ ،‬والجتماع عليه ‪.‬‬
‫الُسس التي ينبغي أن تنهض عليها علقة المام بالُمة ‪:‬‬
‫ليس المام ـ بعد أن علمت أهم أحكام المامة وشروطها ـ أكثر من خليفة‬
‫في حراسة أحكام ال تعالى عن أن تضيع أو تبدل ‪ ،‬وفي‬ ‫عن رسول ال‬

‫‪245‬‬
‫الشراف على سلمة تنفيذها ‪ ،‬ول ريب أن سلمة تنفيذ هذه الحكام هي الضمانة‬
‫لنتشار المن والطمأنينة ‪ ،‬وأسباب الخير والسعادة في أفراد المة ‪ .‬ولذلك ‪:‬‬
‫‪-1‬فالمام إذا ‪ ،‬ل يتمتع بأي سلطة تشريعية ‪ ،‬إذ إن سلطة التشريع‬
‫ليس‬ ‫خصيصة محصورة في ذات ال عز وجل ‪ ،‬وحتى رسول ال‬
‫إل مبلغا عن حكم ال تعالى ‪ ،‬فإذا اجتهد في حكم وقضي به فإن‬
‫المعول في نفاذه ومشروعيته على إقرار ال له عن طريق الوحي ‪.‬‬
‫‪-2‬ومن ثم فإن المام ل يتمتع ـ بسبب كونه إماما ـ بأي امتيازات يعلو‬
‫بها على بقية الناس في نطاق الحكام الشرعية المختلفة ‪ ،‬من قضاء‬
‫وعقود وعقوبات وغيرها ‪.‬‬
‫فشهادته مثلً ‪ ،‬ل تعلو في قيمتها القضائية عن شهادة غيره ‪ ،‬ل في العدد‬
‫ول في الهمية المعنوية ‪ .‬بل ليس له ـ وهو حاكم ـ أن يحكم بين أحد من‬
‫الناس بموجب علمه فيه ‪ ،‬أي ل يجوز أن يكون حاكما وشاهدا بآنٍ واحد ‪ .‬بل‬
‫هو إما حاكم ‪ ،‬فل قيمة لشهادته ‪ ،‬وإنما يستند في حكمه إلي شهادة الشهود‬
‫الصالحين ‪ ،‬وإما شاهد ‪ ،‬فينبغي عندئذ أن يتخلي عن حاكميته ‪ ،‬ويقف شاهدا‬
‫في الموضوع أمام حاكم آخر يُنيبه عنه ‪.‬‬
‫وقد ترافع اثنان إلي عمر بن الخطاب رضي ال عنه أثناء خلفته ‪ ،‬فقال له‬
‫المدعى ‪ :‬إن هذا ظلمني (وذكر له ظلمته ) ثم قال ‪ :‬وأنت يا أمير المؤمنين‬
‫أعرف الناس بذلك ‪ .‬فقال له عمر رضي ال عنه ‪ :‬إن شئت قضيت بينكما ول‬
‫اشهد ‪ ،‬وإن شئت شهدت لك ‪ ،‬ول أقضي ‪.‬‬
‫وليس له من منصبه الذي يتمتع به ما ينجيه من أي حد ‪ ،‬أو قصاص ‪ ،‬أو‬
‫عقوبة يستوجبها بفعل صدر منه ‪ ،‬أو ما يخفف عنه من العقوبة التي استحقها‬
‫كغيره ‪ ،‬لمر ما صدر عنه ‪.‬‬
‫ويقدر له من الجر على قيامه بالمهام التي وكلت إليه ‪ ،‬ما يقرره مجلس‬
‫الشورى بالعرف ‪ ،‬وحسب ما تقتضيه متطلبات الحياة الكريمة المشروعة ‪.‬‬
‫وإذا فإن علقة المام بالناس قائمة على الُسس التالية ‪:‬‬

‫‪246‬‬
‫وعن خلفائه من بعده ‪ ،‬مع‬ ‫‪-1‬المام مستخلف فيهم عن رسول ال‬
‫كان يُوحي إليه ‪ ،‬وكانت آراؤه الجتهادية‬ ‫ملحظة أن الرسول‬
‫أحكاما شرعية إذا أقرها الوحي ولم يردها أما خلفاؤه من بعده فليس‬
‫‪ ،‬وما أجمع عليه المسلمون‪ ،‬وما‬ ‫أمامهم إل كتاب ال وسنة نبيه‬
‫أمره ال بأن يجتهد فيه‪ ،‬وهو داخل في عموم دللة السنة‪.‬‬
‫‪-2‬المام ولىّ لمور المسلمين العامة‪ ،‬وهو التي ل تغني فيها ولية‬
‫الفراد بعضهم على بعض‪ .‬ومن ثمّ فتصرفاته في أمورهم منوطة‬
‫بالمصلحة‪ ،‬أي ل تعتبر عنها أحكام ال عز وجل‪ ،‬ل لسيادة يتمتع بها‬
‫عليهم‪ ،‬بل ليمكنوه من العمل على تحقيق مصالحهم العامة‪ ،‬والتنسيق‬
‫بينهما وبين مصالح الفراد‪.‬‬
‫‪-3‬المام هو الذي يباشر الشراف على عمل من دونه من الولة‬
‫والوزراء والقضاة‪ ،‬فيما وكّل إليهم من الخدمات المختلفة للُمة‪ ،‬فهو‬
‫مرجعها فيما قد يكون لها من شكوى أو ظلمة عند أحد من ولته أو‬
‫موظفيه‪ ،‬وليس له أن يفوّض المور إلى من دونه‪ ،‬ثم ينصرف إلى‬
‫شؤونه وملذه‪ ،‬أو مصالحه الخاصة‪.‬‬
‫يقول المام الماوردي في الحكام السلطانية‪ ( :‬عليه أن يباشر بنفسه‬
‫مشارفة المور‪ ،‬وتصفّح الحوال‪ ،‬لينهض بسياسة المة وحراسة الملّة‪ ،‬ول يعّول‬
‫على التفويض تشاغلً بلذة أو عبادة‪ ،‬فقد يخون المين‪ ،‬ويغش الناصح)‪.‬‬
‫‪-4‬وعلقة المام بالمة بناءً على ذلك كله‪ ،‬هي علقة خادم أمين‬
‫بمخدومه‪ ،‬ورب السرة الرحيم بأفراد أسرته‪ ،‬ويبذل جهده لسعادها ‪،‬‬
‫ول يدّخر وسعا لنشر المن والرخاء في ربوعها‪ ،‬ينساق لتحقيق ذلك‬
‫كله بروح من الرحمة والخلص‪ ،‬ل بدافع من الوظيفة أو الكراه‪.‬‬
‫ما ينعزل به المام‪:‬‬
‫ينعزل المام عن المامة بواحد من السباب التالية‪:‬‬

‫‪247‬‬
‫السبب الول‪ :‬الكفر‪ ،‬سواء كان صريح القول‪ ،‬أو بأي فعل أو قول يستلزم‬
‫الكفر‪ ،‬فإذا صدر من المام ذلك بطلت إمامته‪ ،‬وخرجت الُمة عن بيعته‪،‬‬
‫ووجب عليهم الخروج عليه وخلعه‪.‬‬
‫أما موجبات الفسق‪ ،‬سواء بارتكاب المحظورات‪ ،‬أو باعتناق بعض البدع‬
‫غير المكفرة‪ ،‬فل يستوجب العزل‪.‬‬
‫قال المام النووي في شرحه على صحيح مسلم‪ ( :‬أجمع أهل السنة أنه ل‬
‫ينعزل السلطان بالفسق) ‪ ،‬ذلك لن ضرر الفتنة التي قد تنشأ عن عزله يفوق‬
‫في الغالب ضرر بقائه متلبسا بالفسق ‪.‬‬
‫فقد علمت سابقا أن المامة ل تنعقد لفاسق ابتداءً ‪ ،‬فأما الفسق الطارئ بعد‬
‫انعقاد المامة ‪ ،‬فل نعزل به المام لما قد علمت ‪ .‬وإن كان الفسق منه معصية‬
‫وحراما ‪.‬‬
‫السبب الثاني ‪ :‬طروء نقص جسمي في شيء من أعضائه أو حواسه ‪،‬‬
‫بحيث يقعده عن القيام بواجبات المامة ‪ ،‬كزوال البصر ‪ ،‬أو السمع ‪ ،‬أو‬
‫كانقطاع يده أو رجله أو نحو ذلك ‪ .‬والعبرة ليست بشكل النقص ‪ ،‬بل بما‬
‫يترتب عليه من تعذر القيام بمهام المامة والحكم ‪ ،‬فإن كان بحيث ل يضير‬
‫في شيء من ذلك فل يستوجب العزل ‪ ،‬ول يعتبر مجرد الشين في الجسم‬
‫موجبا للعزل ‪.‬‬
‫ومثل نقص شيء من الحواس والعضاء فيما ذكرنا طروء خبل أو جنون‬
‫ولو كان متقطعا ‪ ،‬فإذا كان من الشدة والكثرة بحيث يؤثر على نهوضه‬
‫بواجبات الحكم عُزل وإل فل ‪.‬‬
‫السبب الثالث ‪ :‬طروء نقص في إمكان التصرف ‪ ،‬وهو يكون لحد سببين‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬الحجر‪ :‬كأن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ المور ‪،‬‬
‫فهذا الحجر ل يكون سببا لنعزاله ‪ ،‬ول يقدح في استمرار إمامته ‪ ،‬ولكن‬
‫يُنظر في حكم المستولي وسياسته ‪ ،‬فإن كان جاريين وفقا لحكام الدين‬
‫ومقتضي العدل ‪ ،‬وجب إقراره عليها ‪ ،‬مع استمرار حكم المامة للمام‬
‫الصلي ‪ ،‬أما إن كانت أحكام المستولي خارجة عن حكم الدين ومقتضي‬

‫‪248‬‬
‫العدالة ‪ ،‬فل يجوز إقراره عليها ‪ ،‬بل يجب على المسلمين كف يده ‪ ،‬وبذل كل‬
‫ما في الوسع لزالة تغلبه ‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬القهر ‪ :‬ويقصد به أن يقع المام في قبضة عدوّ قاهر ل سبيل‬
‫للخلص منه ‪ ،‬ففي هذه الحالة يجب على المة كافة العمل بكل الوسائل على‬
‫استنفاذه ‪ ،‬وهو مستمر حكما في إمامته ‪ ،‬ما كان مرجو الخلص ‪ ،‬مأمول‬
‫الفكاك ‪ ،‬فإذا وقع اليأس من إمكان استنقاذه ‪ ،‬فإن إمامته تُلغي عن العتبار ‪،‬‬
‫وعلى أهل الحل والعقد المبادرة باختيار غيره ‪ ،‬فإن كُتب للول الخلص بعد‬
‫مبايعة الثاني لم يعد إلى المامة ‪ ،‬أو قبل مبايعته عاد إلى المامة دون الحاجة‬
‫إلى عقد أو بيعة جديدة له ‪.‬‬
‫السبب الرابع ‪ :‬أن ينعزل المام نفسه ‪ :‬بأن يستقيل عن الحكم لمر ما ‪،‬‬
‫فإن كان في المسلمين من يمكن أن يقوم مقامه ‪ ،‬ممن تتوفر فيه شروط المامة‬
‫‪ ،‬وإن كان دونه في الكفاءة والمقدرة ‪ ،‬صحت استقالته ‪ ،‬وعُزل بذلك عن‬
‫الحكم ‪ ،‬وإن لم يكن في المسلمين من يقوم مقامه ‪ ،‬أو يسد مسده لم تقبل‬
‫استقالته ‪ ،‬ولم يكن لعزله نفسه أي أثر شرعي صحيح ‪ ،‬إذ إن للمسلمين حينئذ‬
‫أن يحملوه حملً على المامة ‪ ،‬وعليه أن يقبلها راضيا أو كارها ‪.‬‬
‫والمامة وإن كانت ـ كما قلنا فيما مضى ـ عقد تراض بين طرفين ‪ ،‬إل‬
‫أنها في مثل هذه الحالة تصبح عقد إجبار ‪ ،‬شأنها كشأن كثير من العقود‬
‫الرضائية التي تصبح عقودا جبرية لسباب استثنائية طارئة ـ وشأنها في ذلك‬
‫شأن فروض الكفاية عند تعين من يقوم بها ‪ ،‬فإنها تصبح فرض عين بالنسبة‬
‫إليه ‪.‬‬
‫فإذا عزل المام لسبب من هذه السباب الربعة ‪ ،‬أصبح المسلمون كافة في‬
‫حل من طاعته وبيعته ‪ ،‬وعاد في أهليته ووضعه المدني كشأن أي فرد عادي‬
‫من المسلمين ‪.‬‬
‫فإن ذهب السبب الموجب للعزل قبل أن ينصب غيره لم يكن ذلك موجبا‬
‫لن يعود إلي المامة بشكل آلي ‪ ،‬بل ل بد من بيعة جديدة له من أهل الحل‬
‫والعقد ‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫خاتمة ‪:‬‬
‫تنصيب المام بهذا الشكل الذي رأيت ‪ ،‬ولتحقيق المهام التي تحدثنا عنها‬
‫واجب متعلق بأعناق المسلمين حيثما كانوا ‪ ،‬فإن لم ينهضوا به تحقيقا لمر ال‬
‫عز وجل باؤوا جميعا بإثم كبير ‪ ،‬إذ هو ـ بالضافة إلي الضرورات الدينية‬
‫والجتماعية والسياسية المختلفة ـ شعيرة كبري من شعائر السلم التي يجب‬
‫أن تكون بارزة حية في بلد المسلمين ‪.‬‬
‫ول يجوز تعدد المام في وقت واحد ‪ ،‬إذ إن من مهام المامة تجميع شمل‬
‫المسلمين كافة في كافة أقطارهم وبلدانهم ‪ ،‬وتعدد الئمة ينافي ذلك منافاة‬
‫واضحة ‪.‬‬
‫وال سبحانه وتعالى أعلم وآخر دعوانا أن الحمد ال رب العالمين ‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫الفهــــرس‬
‫تغليظ الدية في القتل الخطأ في بعض‬ ‫المقدمة‬
‫الحوال‬ ‫الباب الول ‪ :‬الجنايات والحدود‬
‫اشتراك جماعة بقتل شخص واحد‬ ‫وتوابعها‬
‫اجتماع المباشرة والسبب في القتل‬ ‫الجنايات ‪:‬‬
‫فائدة ‪ :‬فيما يباح بالكراه‬ ‫تعريف الجنايات‬
‫حكم شريك من ل يقتص منه‬ ‫حكم الجناية شرعا ودليله‬
‫الجناية على ما دون النفس‬ ‫أقسام الجناية‬
‫النوع الول ‪ :‬الجناية بالجرح‬ ‫الجناية على النفس‬
‫النوع الثاني ‪ :‬الجناية بقطع الطرف‬ ‫أنواع القتل ‪:‬‬
‫شروط القصاص بالطرف‬ ‫‪-1‬القتل العمد‬
‫القصاص بكسر العظام‬ ‫صور من القتل العمد‬
‫النوع الثالث ‪ :‬إبطال منافع العضو‬ ‫‪-2‬القتل شبه العمد‬
‫القصاص‬ ‫‪-3‬القتل الخطأ‬
‫معني القصاص‬ ‫حكم القتل العمد‬
‫شروط القصاص‬ ‫ترك القصاص والعفو عنه‬
‫شرائط القصاص بالطراف‬ ‫تغليظ الدية‬
‫كيفية القصاص‬ ‫العفو عن الدية‬
‫من يقوم بتنفيذ القصاص ؟‬ ‫•حكم القتل شبه العمد‬
‫تعدد أولياء المقتول‬ ‫•حكم القتل الخطأ‬
‫الديات‬ ‫الحكمة في تخفيف الدية في القتل‬
‫معني الدية‬ ‫الخطأ وجعلها على العاقلة ‪.‬‬
‫شروط إقامة الحد‬ ‫أنوا الدية‬

‫‪251‬‬
‫حد المة والرقيق‬ ‫مقدار الدية‬
‫حكم ما يتبع الزني من اللواط ونحوه‬ ‫دية النفس‬
‫حكم إتيان البهائم‬ ‫أولً ‪ :‬دية العمد‬
‫من يتولي إقامة الحد‬ ‫ثانيا ‪ :‬دية القتل الخطأ‬
‫إقامة الحد على الضعيف‬ ‫ثالثا ‪ :‬دية القتل الخطأ‬
‫كيفية الرجم‬ ‫العفو عن الدية‬
‫•حد القذف‬ ‫دية العضاء والطراف‬
‫معني القذف‬ ‫معنى الحكومة‬
‫حكم القذف‬ ‫دية المرأة‬
‫حد القذف ودليله شروط حد القذف‬ ‫شروط وجوب دية الجنين‬
‫‪-‬الشروط في‬ ‫دية الكتابي‬
‫القاذف‬ ‫دية المجوسي‬
‫‪-‬الشروط في‬ ‫بم يثبت موجب القصاص ؟‬
‫المقذوف‬ ‫بم يثبت موجب المال ؟‬
‫وجوب التعزيز إذا لم تتكامل الشروط‬ ‫أحكام القسامة‬
‫بعض ألفاظ القذف‬ ‫معنى القسامة‬
‫مسقطات حد القذف‬ ‫دليل تشريع القسامة‬
‫شروط الشهود‬ ‫كيفية القسامة‬
‫•حد شرب الخمر ‪:‬‬ ‫كفارة القتل‬
‫بم يثبت الحد‬ ‫حكمها ودليله‬
‫•المخدرات‬ ‫كيفية كفارة القتل‬
‫معني التخدير‬ ‫الحدود‬
‫حكم المخدرات‬ ‫تمهيد‬
‫عقوبة تناول المخدرات‬ ‫أقسام العقوبات‬
‫•حد السرقة ‪:‬‬ ‫الحدود المفروضة‬
‫ماهي السرقة‬ ‫•حد الزني‬

‫‪252‬‬
‫حد السرقة‬ ‫أنواع الزني‬
‫شروط إقامة الحد على السارق‬ ‫حكم كل هذه النواع‬
‫ثبوت السرقة‬ ‫حد الزاني المحصن‬
‫ضمان السارق المال المسروق‬ ‫حد الزاني غير المحصن‬
‫القطع حق ال تعالى‬ ‫الرد على خصوم السلم في تقولهم عن مشروعية‬
‫الحدود‬
‫القطع حق ال تعالى‬
‫•الحرابة وحدّها‬
‫القاعدة المستخلصة للمسؤولية وعدمها‬
‫معني الحرابة‬
‫•البغاة وأحكامها‬
‫أقسام أهل الحرابة‬
‫من هم البغاة‬
‫حكم كل قسم‬
‫حكمهم‬
‫الدليل على حكم هذه القسام‬
‫شروط قتال البغاة‬
‫من يسقط حد الحرابة ؟‬
‫دليل حكم قتالهم وحكمته‬
‫بان موجز للحدود التي تسقط بالتوبة‬
‫طبيعة قتال البغاة ومظاهر الفرق‬
‫والتي ل تسقط بها وأثر الفرق بين‬
‫بينه وبين غيره ‪.‬‬
‫كونها حقا ل أو حقا للنسان في ذلك‬
‫الثار المترتبة على قتال البغاة‬
‫ما يسقط من الحدود بالتوبة أو العفو‬
‫•أحكام الرّدّة‬
‫ما ل يسقط من الحدود بالتوبة‬
‫معنى الردة‬
‫•الصيال‬
‫ضابط ما تكون به الردة‬
‫تعريفه‬
‫التحذير من الوقوع في الردة‬
‫دليل الصيال‬
‫حد الردة‬
‫أنواع الصائل‬
‫شروط إقامة الحد على المرتد‬
‫حكم الصائل‬
‫الثار المترتبة على الرتداد‬
‫متى يجب رد الصائل ومتى يجوز‬
‫الثار المترتبة على قتل المرتد‬
‫ذلك؟‬
‫•أحكام ترك الصلة‬
‫الصيال على المال‬
‫أهمية الصلة في السلم‬
‫الصيال على البضع‬
‫حكم تارك الصلة‬

‫‪253‬‬
‫حد تارك الصلة‬ ‫الصيال على النفس‬
‫كيف يدفع الصائل ومتى يذهب دمه كم يُهمل تارك الصلة قبل تنفيذ الحد ؟‬
‫الثار المترتبة على إقامة الحد‬ ‫هدرا؟‬
‫خاتمة‬ ‫صور من الصيال وأحكامها‬
‫الباب الثاني ‪ :‬أحكام الجهاد‬ ‫تنبيه‬
‫الجهاد‬ ‫•المسؤولية التقصيرية‬
‫الثر الشرعي المترتب على المسؤولية معني الجهاد أنواع الجهاد‬
‫الترغيب في الجهاد وبيان فضله‬ ‫التقصيرية‬
‫حكم الجهاد الفرق بين الحرب والجهاد‬ ‫أمثلة تطبيقية للمسؤولية التقصيرية‬
‫حكمة تشريعها‬ ‫صور احترازية ل مسؤولية فيها‬
‫تحديد الفرق بين الجهاد وأنواع أخري شروطها‬
‫شروط من تؤخذ منهم الجزية‬ ‫من القتال‬
‫حدود الجزية‬ ‫زمن مشروعية الجهاد والتدرج الذي‬
‫الثار التي تترتب على عقد الجزية من‬ ‫تم في تشريعه‬
‫حقوق المسلمين ‪.‬‬ ‫الحكمة من مشروعية الجهاد‬
‫بيان ما يجب لهم من الرعاية والحماية‬ ‫شروط وجوب الجهاد‬
‫بعقد الذمة ‪.‬‬ ‫أولً ‪ :‬الشروط التي تتعلق بالمجاهدين‬
‫•الهدنة والستئمان‬ ‫ثانيا ‪ :‬الشروط التي تتعلق بالكفار‬
‫معنى الهدنة‬ ‫•مراحل الجهاد وآدابه ‪:‬‬
‫معنى الستئمان‬ ‫الدعوة أولً ‪:‬‬
‫الفرق بين الهدنة والستئمان‬ ‫الجزية ثانيا ‪:‬‬
‫حكم كل من الهدنة والستئمان‬ ‫القتال ثالثا ‪:‬‬
‫حكم الهدنة‬ ‫من هم الذين يخيرون بين السلم‬
‫حكم الستئمان‬ ‫والجزية؟‬
‫شروط مشروعية كل من الهدنة‬ ‫بيان الحكمة من التفريق بين الطائفتين‬
‫والستئمان‬ ‫من الكفار ‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫أولً ‪ :‬شروط الهدنة‬ ‫•الثار المترتبة على الجهاد‬
‫ثانيا ‪ :‬شروط الستئمان ‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫الثار واللتزامات التي تترتب على‬ ‫‪-1‬السر ‪:‬‬
‫عقد الهدنة والستئمان ‪.‬‬ ‫مصير السرى‬
‫أولً ‪ :‬الثار واللتزامات المترتبة‬ ‫‪-2‬الرق‬
‫على عقد الهدنة ‪.‬‬ ‫الحكمة من مشروعية الرق‬
‫ثانيا ‪ :‬الثار والتزامات المترتبة‬ ‫مصير حكم السترقاق اليوم‬
‫على إعطاء المان ‪.‬‬ ‫‪-3‬الغنائم والسلب ‪:‬‬
‫الباب الثالث ‪ : :‬الفتوة وأحكامها‬ ‫حكم الغنائم‬
‫•المسابقة‬ ‫حكم السلب‬
‫تعريف المسابقة‬ ‫تنبيه‬
‫حكم المسابقة ودليلها‬ ‫‪-4‬الفيء‬
‫أنواع المسابقة‬ ‫تعريفه وحكمه‬
‫بيان الجائز والمحرم من هذه‬ ‫‪-5‬الجزية تعريفها ‪.‬‬
‫النواع ‪.‬‬ ‫شروط المسابقة‬
‫اتخاذ القاضي مزكيين‬ ‫أثر دخول عنصر المال في السباق‬
‫اتخاذ كاتب ‪:‬‬ ‫ما تجوز به المسابقة‬
‫شروطه‬ ‫•المناضلة بالسهام والسلحة‬
‫ما يستحب فيه‬ ‫المختلفة‬
‫اتخاذ مترجم ‪:‬‬ ‫تعريف المناضلة‬
‫شروطه‬ ‫حكم المناضلة ودليله‬
‫اتخاذ درة وسبحن‬ ‫أنواع المناضلة‬
‫مجلس القاضي‬ ‫شروط المناضلة‬
‫كراهية الجلوس للقضاء في المسجد‬ ‫ما ل تجوز المناضلة فيه‬
‫كراهة اتخاذ الحاجب وجواز اتخاذ‬ ‫عقد المسابقة والمناضلة عقد لزم‬
‫المحضر ‪.‬‬ ‫الباب الرابع ‪ :‬أصناف اللهو الجائز‬

‫‪255‬‬
‫مشاورة الفقهاء‬ ‫والمحرمة‬
‫التسوية بين الخصوم‬ ‫معنى اللهو‬
‫الحالت التي يتجنب فيها القاضي‬ ‫أصناف اللهو‬
‫القضاء‬ ‫حكم كل صنف من هذه الصناف‬
‫شراء وبيع القاضي بنفسه‬ ‫تطبيق هذه الحكام على مزيد من‬
‫حكم القاضي لنفسه أو شريكه‬ ‫المثلة ‪.‬‬
‫وأصله وفرعه ‪.‬‬ ‫ل يجوز شيء من اللهو على مال‬
‫الهدية إلي القاضي‬ ‫مشروط‬
‫ملك الهدية‬ ‫الباب الخامس ‪ :‬القضاء‬
‫حضور الولئم‬ ‫تعريف القضاء‬
‫رجوع القاضي عن الجتهاد الذي‬ ‫مشروعية القضاء‬
‫قضى به وما يترتب عليه ‪.‬‬ ‫حكمة تشريع القضاء‬
‫حكم القاضي نافذ قضاء ل ديانة ‪.‬‬ ‫أهمية منصب القضاء‬
‫ما يترتب على هذه القاعدة من‬ ‫خطورة منصب القضاء‬
‫المسائل‬ ‫حكم تولى القضاء‬
‫انعزال القاضي وعزله‬ ‫طلب القضاء‬
‫أولً ‪ :‬انعزال القاضي‬ ‫شروط القاضي‬
‫ثانيا ‪ :‬عزل القاضي من قبل المام ‪.‬‬ ‫ما يستحب أن يكون عليه القاضي‬
‫متى يتم عزل القاضي‬ ‫من الصفات ‪.‬‬
‫عزل القاضي بنفسه‬ ‫ثبوت تولية القاضي ‪.‬‬
‫عدم انعزال القاضي بموت المام‬ ‫وظيفة القاضي ‪.‬‬
‫‪-2‬شروط أداء الشهادة ‪.‬‬ ‫مكان جلوس القاضي ونزوله ‪.‬‬
‫شروط العدالة في الشهادة‬ ‫فيم ينظر أولً ؟‬
‫شهادة العمى‬ ‫الباب السادس ‪ :‬الدعاوي والبينات‬
‫حكم الرجوع عن الشهادة ما يترتب‬ ‫والشهادات واليمين ‪.‬‬
‫على ذلك ‪:‬‬ ‫*الدعاوي والبينات ‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫‪-1‬حكم الرجوع عن الشهادة‬ ‫تعريف الدعاوي‬
‫‪-2‬ما يترتب على رجوعهم عن‬ ‫دليل مشروعية الدعاوي والبينات‬
‫الشهادة‬ ‫تعريف المدعى والمدعى عليه‬
‫‪-1‬رجوعهم عن الشهادة بعد‬ ‫والفرق بينهما ‪.‬‬
‫الحكم وقبل استيفاء الحق‬ ‫حكمة كون البينة على المدعى‬
‫ب ‪ -‬رجوعهم عن الشهادة بعد‬ ‫واليمين على المدعى عليه ‪.‬‬
‫الحكم وقبل استيفاء الحق ‪.‬‬ ‫شروط صحة الدعوي‬
‫ج ‪ -‬رجوعهم عن الشهادة بعد‬ ‫ما يتوقف فيه الحكم على الدعوى‬
‫الحكم وبعد استيفاء الحق ‪.‬‬ ‫وما ل يتوقف ‪.‬‬
‫•اليمين‬ ‫بيان أن البينة على المدعى‬
‫تعريف اليمين‬ ‫واليمين على من أنكر ‪.‬‬
‫ما يصح به اليمين‬ ‫عجز المدعى عن إقامة البينة ‪.‬‬
‫آداب اليمين‬ ‫امتناع المدعى عليه من حلف‬
‫كيفية اليمين‬ ‫اليمين ‪.‬‬
‫حكم النكول عن اليمين‬ ‫حكم يمين الرد كالقرار ‪.‬‬
‫الباب السابع ‪ :‬القسمة‬ ‫امتناع المدعى عن اليمين ‪.‬‬
‫تعريف القسمة‬ ‫سكوت المدعى عليه ‪.‬‬
‫مشروعية القسمة‬ ‫بيان النكول ‪.‬‬
‫أنواع القسمة‬ ‫إذا ادعى اثنان شيئا ‪.‬‬
‫أحكام القسمة‬ ‫•الشهادات ‪.‬‬
‫الباب الثامن ‪ :‬القرار‬ ‫تعريف الشهادات‬
‫تعريف القرار‬ ‫دليل مشروعية الشهادة‬
‫دليل مشروعية القرار‬ ‫حكمة تشريع الشهادة‬
‫حكمة تشريع القرار‬ ‫اختلف الشهادات من حيث عدد‬
‫المقر به من الحقوق وحكم الروع‬ ‫الشهود‬
‫فيه‬ ‫النوع الول ‪ :‬حق ال تعالى ‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫النوع الول ‪:‬‬ ‫الحكمة من وجود أربعة شهداء في‬
‫حق ال تعالى‬ ‫الزني‬
‫الحكام المتعلقة به‬ ‫النوع الثاني ‪ :‬حق العباد‬
‫البلوغ والرشد وطريقة كل منهما‬ ‫شروط الشهادة‬
‫الفسق بعد البلوغ وما يترتب عليه‬ ‫‪-1‬شروط تحمل الشهادة ‪.‬‬
‫الباب العاشر ‪ :‬المامة العظمي‬ ‫النوع الثاني ‪ :‬حق العباد‬
‫مقدمة ي بيان أهمية المامة وقيام‬ ‫شروط المقر‬
‫الحكم والمجتمع السلمي على‬ ‫شروط المقر له‬
‫سلمتها‬ ‫شروط الصيغة‬
‫شروط المامة‬ ‫شروط المقر به‬
‫كيفية انعقاد المامة‬ ‫القرار بمجهول‬
‫الطريقة الولي ‪ :‬البيعة‬ ‫الستثناء في القرار وحكمه‬
‫الطريقة الثانية ‪ :‬الستخلف‬ ‫شروط صحة الستثناء في القرار‬
‫الطريقة الثالثة ‪ :‬الستيلء بالقوة‬ ‫الستثناء المنقطع‬
‫البيعة ‪ ،‬شروطها وكيفيتها ‪:‬‬ ‫الستثناء من معين‬
‫شروط البيعة‬ ‫القرار في حال المرض‬
‫آثار البيعة‬ ‫الباب التاسع ‪ :‬الحجر‬
‫حكم الشورى ‪ ،‬والحكام التي تشرع‬ ‫تعريف الحجر‬
‫فيها الشورى‬ ‫دليل مشروعيته‬
‫الطائفة الولي من الحكام‬ ‫الحكمة من تشريع الحجر‬
‫الطائفة الثانية من الحكام‬ ‫أنواع الحجر‬
‫السس التي ينبغي أن تنهض عليها‬ ‫أحكام الحجر على الصبي ومن هو في‬
‫علقة المام بالمة‬ ‫حكمه‬
‫ما ينعزل به المام ‪.‬‬ ‫أهم الحكام المتعلقة بالحجر على‬
‫خاتمة ‪.‬‬ ‫هؤلء‬
‫الفهرس ‪.‬‬ ‫أحكام الحجر على المفلس‬

‫‪258‬‬
‫تصرف المفلس بعد الحجر عليه‬
‫أحكام تصرف المريض المخوف عليه‬
‫من الموت ‪:‬‬
‫تعريفه‬

‫‪259‬‬
‫الفقه المنهجي‬
‫على مذهب المام الشافعي‬
‫رحمه الله تعالى‬

‫اشترك في تأليف هذه السلسلة‬


‫الدكتور مصطفى الخن‬ ‫الدكتور مصطفى البغا‬
‫علي الشربجي‬

‫‪ -‬الجزء الول ‪ :‬في الطهارة والصلة ‪.‬‬


‫‪ -‬الجزء الثاني ‪ :‬في الزكاة والصوم والحج ‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء الثالث ‪ :‬في اليمان والنذور والكفارات والطعمة والشربة وأبواب أخري ‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء الرابع ‪ :‬في الحوال الشخصية ـ أحكام السرة ‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء الخامس ‪ :‬في الوقف والوصية والفرائض ‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء السادس ‪ :‬في البيع والهبة والجارة والصلح والحوالة وما يلحق بها ‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء السابع ‪ :‬في فقه المعاملت ‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء الثامن ‪ :‬في الجنايات ‪ ،‬الجهاد‪ ،‬الفتوة‪ ،‬القضاء وأمور أخري‪.‬‬

‫‪260‬‬

También podría gustarte